يهان الربيع العربي عندما تنسب اليه مجزرة بورسعيد الكروية، ويساء فهمه عندما يعزى إليه أي دم أو فراغ أو فوضى في الشارع.
تصويب لا بد منه لما هو شائع عن أن الربيع العربي هو هبة جماهيرية في وجه الطغيان والفساد ومن أجل الحرية والعدالة والديموقراطية. هذا التعريف غير دقيق أبداً. الواقع هو أن النخبة المثقفة والمتمدنة هي التي أطلقت هذه الحركة السياسية، فانضمت اليها الجماهير بكل ما تعنيه الكلمة من جهل وتخلف وانفعال ..وحرفتها عن وجهتها الأصلية.
لم تكن تلك الحركة النخبوية ثورة بالمعنى الحرفي للكلمة. كتاب وصحافيون وجامعيون وفنانون خرجوا الى الشارع للتعبير عن حاجة ملحة الى التغيير السلمي، والإصلاح التدريجي على المستوى السياسي. فإذا بهم يستهوون العامة الغاضبة لأسباب مختلفة بعض الشيء، معظمها اقتصادي او اجتماعي او حتى نفسي. فيمتلئ الشارع بـ«الثوار» من كل الأصناف والألوان، ويلتحق بهم الإسلاميون للتعبير عن غضبهم المستمد من عقود من التلاعب بالإسلام السياسي، سواء من قبل الأنظمة او الأحزاب الإسلامية، وتتعرض الحركة لغزو شامل لم تسلم منه مراكز الاقتراع التي فتحتها النخبة.
الربيع العربي كان وسيبقى نخبوياً، لا تنطبق عليه صفة الثورة الشعبية، ولا تحد من أفقه تلك الجماهير التي تخرج الآن في الشوارع لتخوض اشتباكات يومية فعلية مع سلطات وهمية لم تستطع النخب بناءها حتى الآن، لأنها سلمت بأحد اهم عناصر تكوين أي سلطة، أي الغالبية الشعبية التي نجحت في الوصول الى البرلمانات والحكومات وفرضت على بلدانها جدول أعمال مختلفاً تماماً عما قصدته النخبة. فـ«الجماهير» العربية كانت ولا تزال تفضل ضابطاً صارماً أو شيخاً متشدداً يحكم، اكثر مما تهوى الانتخابات وتداول الحكم.
لكن هناك حقيقة لا بد من الاعتراف بها هي ان هذه الجماهير التي أربكت النخب وحيّدتها، ليست كتلا من الرعاع وشذاذ الآفاق، كما يحلو لبعض المثقفين القول. ثمة «فلول» في كل بلد عربي، لكنها غير قادرة على تعطيل مسيرة تطور سياسي واجتماعي طبيعي، هي مؤهلة للشغب والفوضى، لكن الغالبية الشعبية أثبتت انها راغبة بالسير في الطريق الذي حددته النخبة، برغم بعض العثرات والتعرجات.
ثمة فوضى لا شك فيها في تونس ومصر وليبيا واليمن، لكنها أقل بكثير مما كان يتوقع من شعوب عاشت عقوداً في ظل القهر والذل والجهل، وكان يمكن ان تذهب الى حروب أهلية على الطريقة اللبنانية او العراقية او الصومالية، لكنها قاومت ولا تزال تقاوم هذا الخيار وترفض الانتحار الجماعي الذي يعرضه المستبدون أو إلاسلاميون، وتعتبر ان الانتخابات التي فرضتها النخبة هي السبيل الأمثل لاسترداد الحقوق الفردية والجماعية.
الحالة السورية التي ضربت أرقاماً قياسية في عدد القتلى والجرحى والمفقودين، حتى بالمقارنة مع الثورة الليبية، هي الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة العربية، مع أن النخبة السورية المعارضة، المدنية خاصة، هي اكثر تقدماً من بقية النخب العربية. فالحرب الأهلية على المنوال اللبناني او العراقي حقيقة لا يمكن إنكارها، برغم أن الجمهور السوري يصرخ للخروج منها، بدليل الالفتاف من قبل طرفي تلك الحرب حول المؤسسة العسكرية، الموالية والمنشقة.
ثمة فوضى عربية، لكنها ليست ثورة مضادة أو مؤامرة، وهي قد ترجئ حلول الربيع لكنها لن تلغيه.