محمد البدارين: /
في الستينيات بدأ اهتمام الدول النامية بانشاء ما يسمى (المشروعات العامة او المؤسسات المستقلة) كأداة في عملية التنمية،وكانت دول اوروبا قد شهدت هذه التجربة قبل ذلك فورانتهاء الحرب العالمية الثانية بهدف تسريع عمليات اعادة البناء ، علما بأن تسمية الدول النامية في اصلها كانت لاغراض المجاملة اوالتشجيع بقصد التوريط فالاسم الحقيقي لهذه الدول هو الدول المتخلفة.
،وتقوم فكرة المشروعات العامة اصلا على اساس المزج الايجابي بين اساليب الادارة العامة في القطاع العام واساليب ادارة الاعمال في القطاع الخاص ، ويمكن اعتبارها للتوضيح قطاعا ثالثا يجمع بين قوة وصرامة القطاع العام الحكومي ومرونة وحركية القطاع الخاص ،وبذلك تستفيد من الخصائص الايجابية لكليهما وتتحاشى سلبياتهما ، فهي تختصر الوقت وتتجاوز المعوقات البيروقراطية وتتيح مجالا اوسع لاستقطاب الكفاءات وتنفيذ برامج كبيرة بسرعة وكفاءة وفاعلية مع الالتزام بالصالح العام، مما يعطي لها ميزات تفوق القطاع العام لاغراض تخدم الاهداف العامة للدولة وفق اعتبارات المصالح الوطنية الاستراتيجية.
،ويًعرّف المشروع العام بأنه: كيان قانوني مستقل تمتلكه الدولة كليا أو جزئيا وتقوم بتشغيله باعتباره وحدة إنتاج مباشر بغرض توفير خدمات اساسية او سلع أساسية ، أو بغرض القيام بإنتاج يستهدف تحقيق الربح ، ولا بد ان تديرالمشروع جهة عامة حتى لو لم يكن مملوكا للدولة بشكل كامل،فهو كيان رسمي عام مهما بلغت درجة استقلاليته عن الحكومة.
ويتميز المشروع العام( المؤسسة المستقلة) عن ( الوزارات المركزية) باستقلاله الاداري والمالي ، فاجهزة الادارة العامة كالوزارات والدوائر الحكومية ترد ميزانياتها في الموازنة العامة للدولة ويخضع العاملون فيها لنظام الخدمة المدنية وتقوم بالوظائف الحكومية التقليدية مثل خدمات الصحة والتعليم والامن،وتسدد نفقاتها من خلال الضرائب اي من الموازنة العامة وليس من خلال تقاضي ثمن الخدمة اوالسلعة مباشرة من المستفيد منها،اما المشروع العام (المؤسسة المستقلة او الشركة العامة) فيقوم بانتاج مباشر ويتحمل المستفيد منه ثمن المنفعة اوالخدمة مباشرة،مثل خدمات الماء والكهرباء ، ويخضع العاملون فيه لكادر وظيفي خاص به،وتعهد الدولة عادة لمجالس ادارة بادارة هذه المؤسسات وتمنحها الاستقلالية بموجب قانون لكل مؤسسة باعتبارها كيانات قانونية مستقلة بهدف تمكينها من القيام بوظيفتها وفق متطلبات الاستثمارالاقتصادي وبما يسمح لها بحرية الحركة والمبادرة، مازجة بين الادارةالعامة وادارة الاعمال لتحقيق اهدافها بنجاح .
،ومن الاشكال المعروفة للمشروعات العامة، ما يسمى المؤسسة التقليدية وهو شكل (غير تجاري)، يهدف إلى توفير وتقديم الخدمات الأساسية وفق السياسة العامة للدولة مثل مؤسسة الاذاعة والتلفزيون في الاردن ، أما الشكل الثاني فهو المشروعات العامة(التجارية) مثل الشركات العامة، وهي التي من المفترض أن تقوم بالإنتاج المباشر للسلع والخدمات أو الاستثمار المباشر وتستهدف تحقيق فائض في إيراداتها. الا انه في كلا النوعين،، (التجاري وغير التجاري) لا يجوز ان تتحمل الدولة اعباء مالية خصوصا بعد مرحلة التأسيس،فالمؤسسة المستقلة غيرالتجارية يجب ان تحقق ايرادات مباشرة تكفي على الاقل لسد نفقاتها ،اما المؤسسة المستقلة التجارية فلا يكفي ان تغطي نفقاتها فقط بل يجب ان تحقق فائضا في الارباح. فالاولى غير التجارية رغم ان هدفها الاساسي ليس الربح لكنها بعد تجاوز مرحلة التأسيس يجب ان تكون قادرة على تحقيق ايرادات تكفي للانفاق على نفسها ولا تكون عبئا ماليا على الدولة.
،مثال: الجامعة الاردنية تعتبر مؤسسة مستقلة غير تجارية يجب ان تكون قادرة على اعالة نفسها بنفسها على الاقل ، شركة الفوسفات قبل الخصخصة تعتبر مؤسسة مستقلة تجارية يجب ان تحقق فائضا في الارباح ، ومن اقدم المؤسسات المستقلة في الاردن مؤسسة الاقراض الزراعي حيث ينص قانونها على انها(،،،،،،،،،،،،،،، تقوم باعمالها على اسس تجارية وتسدد نفقاتها من مواردها الخاصة وتستوفي فائدة على القروض التي تصدرها بمعدل يكفي لتغطية نفقاتها ويحقق لها ربحا معقولا) وكذلك مؤسسة الموانىء التي ينص قانونها على استقلالها المالي والاداري ويمنحها وضعا احتكاريا فلها وحدها حق انشاء الموانىء في المملكة وادارتها واستغلالها، لذلك فانها يجب ان تحقق فائضا في الربح مستفيدة من وضعها الاحتكاري ومن الاعفاءات الضريبية والجمركية التي تستفيد منها المؤسسات العامة المستقلة عموما، علما بأن وضع هذه المؤسسة اصبح غامضا منذ عام 2008 بسبب عدة قرارات متضاربة حول الغاء قانونها وتحويلها الى شركة، وبيع الميناء بما يخالف قانونها (الملغي وغير الملغي في نفس الوقت ) الذي يعطيها وضعا احتكاريا في انشاء وتشغيل الموانىء في البلاد.
،وكانت المبررات والاهداف لاستحداث هذه المؤسسات العامة المستقلة( التجارية وغير التجارية) في معظم الدول هي: تقديم خدمات وانتاج سلع ضرورية ، بناء مشروعات يحجم القطاع الخاص عن القيام بها اويعجزعن القيام بها ،القيام بالمشروعات الحساسة لاسباب امنية مثل مشروعات الطاقة والاسلحة، استغلال فائض الثروة لدى الدولة وتنويع مصادر الدخل، تنمية مناطق محرومة في البلاد غير جاذبة للاستثمار.
،وبالتجربة الميدانية في الدول النامية خصوصا، لم تحقق هذه المشروعات المستقلة النجاحات المأمولة،وتحولت في معظم الاحيان الى عبء مالي على الدولة نتيجة لعجزها عن تغطية نفقاتها وعدم تحقيق الارباح وتورطها بالديون ، وتتلخص الاسباب التي ادت لتعثر هذه المشروعات في: ضعف الرؤية الاستراتيجية للدولة وانعدام التخطيط حيث انشئت كثير من المؤسسات بناء على اجتهادات فردية او اراء سياسية، ضعف استقلالية المشروعات وتدخل الحكومة بشؤونها مما افقدها مرونة الحركة والمبادرة ،تركيزها على الاهداف التي يصعب قياس نتائجها مما سهّل اخفاء مظاهر سوء الادارة والفساد،اهمال الاهداف الاقتصادية التي تحقق عوائد تغطي التكاليف ،انتقال عدوى معظم مشكلات الاجهزة الحكومية اليها كالتوسع الشكلي ومشاكل البيروقراطية والفساد واستغلال النفوذ والاسراف والتبذيروالهدر، وعدم الاكتراث بمشاكل الجمهور، وعدم الاهتمام بالتطويروالتدريب والتعلم.
،ونتيجة لتعثر هذه المشروعات عموما،ظهر التوجه نحو الخصخصة على أمل ان تكون الخصخصة قادرة على تصحيح مسارها ورفع كفاءتها،وعلى الرغم من الايجابيات المعروفة للخصخصة الا انها لا تخلو من سلبيات كثيرة ، فالقطاع الخاص يعمل من اجل الربح لا من اجل المنفعة العامة،ورغم انه ضرورة للاستثمار في المجتمع النامي الا ان القطاع العام قبل ذلك يمثل حاجة اساسية للتطوروالنمو والامن والاستقراروتحقيق العدالة، علما بانه لا يوجد حد متفق عليه يفصل بوضوح بين مايجب ان يكون عاما وما يجب ان يكون خاصا ،ومثل هذا الفصل يخضع لمعايير كثيرة ترتبط بالظروف الاقتصادية والسياسية ومستوى التطور والتنمية في الدولة وخبرة قطاعها الخاص وطبيعة تكوينه، وتتعلق ايضا بدرجة كفاءة القطاع العام.
، واذا كان هناك من رحب بالخصخصة وقدم الادلة على نجاعتها وتفوقها في تحقيق الكفاءة، الا ان هناك بالمقابل من حذرمن مشكلاتها وسلبياتها،ويرى المحذرون من الخصخصة( قبل ازمة العالم الحالية)ان الكفاءة لا علاقة لها ابدا بشكل ملكية المشروع، فلو كان شكل الملكية له تأثيرحتمي على الكفاءة لما وجدنا الكثير من المشروعات الخاصة تعاني من الفشل ، فمجرد التحول من الملكية العامة الى الملكية الخاصة لا يعني بالضرورة تحقيق الكفاءة الانتاجية التي تعني اختيار وسائل انتاج تؤدي لتخفيض الكلفة او تعظيم الناتج مع ثبات التكاليف،او تحسين الجودة مع ثبات التكاليف.
، ويشارهنا الى ان تجارب الخصخصة في الدول المتقدمة لم تنه اصلا دورالدولة كما نعتقد، بل ان الدولة هناك ظلت تتحمل مسؤلية التأكد من توفر الخدمة بسعر مناسب وكمية ونوعية مناسبتين،وظل مطلوبا منها ان تتأكد من عدالة تقديم الخدمة ووصولها الى المستفيدين، كما استمرت بالتدخل للحد من المشاكل المتوقعة، وقد تدخلت فعلا ،في الازمة العالمية الحالية ، ومن الاساس اكد المحذرون من الخصخصة على ضرورة الانتباه الى اختلاف البيئات بين الدول المتقدمة والدول النامية، فمناهج الخصخصة الغربية لايمكن تطبيقها، بصورة عامة في اقطار يتسم فيها القطاع الخاص بالتخلف والفساد ويحتاج لدعم ومساندة الحكومة باستمرار.
،وتبرزهنا اهمية الرقابة على المشروعات العامة للتأكد من مستوى كفاءتها وفاعليتها،وجودة خدماتها ،ذلك ان من مصلحة الحكومة ان ينعكس اداء المشروعات العامة على رضا المواطنين، فشرعية الدولة الحديثة مستمدة من رضا مواطنيها، ولا بد من التركيز على عاملي العائد والكلفة كأساس للرقابة وتقييم الاداء ، كما ان المشروعات العامة غير الكفؤة قد تكون عنصرا طاردا للاستثمارات الاجنبية التي يهمها ان تتعامل مع منظمات يتسم اداؤها بالكفاءة والفاعلية والشفافية، ويلاحظ ،هنا أن ،كلمة الرقابة بحد ذاتها باتت ذات دلالة استعمالية ممقوتة في الذهن العربي لالتصاقها بمفاهيم التفتيش والسيطرة وتصيد الاخطاء ولا يمكن تحرير الذهن العربي من معناها السلبي المتجذر الا من خلال تحديث عمليات الرقابة نفسها وتخليصها من ارثها الكريه.
ولما كانت الدولة بمفهومها الحديث تتحمل بشكل كامل مسؤولية رعاية المصلحة العامة للمجتمع فانها بحكم وظيفتها هذه ملزمة بحماية الصالح العام الذي هو مصلحة كل المواطنين او غالبيتهم الساحقة ، ولذلك فلا حدود خاصة او عامة تمنع تدخل الدولة في اي شأن اذا ما اقتضى الصالح العام ذلك فعليا ، ،وهي تتدخل من خلال اجهزتها العامة وتقع على عاتقها مهمة التأكد من ان كافة انشطة قطاعات المجتمع سواء كانت عامة او خاصة لا تتعارض مع الصالح العام.
،ومن مسؤولية الإدارة العامة ( الحكومة) التأكد من انسجام نشاط المشروعات العامة مع المصلحة العامة ، فالفصل بين الإدارة العامة والمؤسسات المستقلة يجب أن لا يكون بابا ،للتهرب ًمن سيادة الحكومة المركزية، وهدف الاستقلالية يجب أن يكون خدمة الرؤية الاستراتيجية للدولة ، وليس مجرد تكتيك لتحقيق اغراض لا تخدم الصالح العام او للانفلات من القيود الحكومية، ولذلك لا بد أن تحتفظ الدولة بمهمات التوجيه والتخطيط و الرقابة على هذه المؤسسات، بحيث يتم التأكد من مبررات إنشائها و حيوية أهدافها و انسجامها مع الخطة الوطنية العامة وانخراطها بعمليات مجدية لتحقيق الهدف الاستراتيجي الكبير للدولة، ولابد من التحرر من الضغوط السياسية و الإجتماعية التي قد تؤدي لانشاء مؤسسات غيرضرورية او غير نافعة، او منح الاستقلالية المالية والادارية بشكل غير جدي او غير فعلي بما يفقد الاستقلالية معناها.
،والمؤسسات المستقلة غير الناجحة التي تعجز إيراداتها عن سد نفقاتها فتضطرالحكومة لتحمل اعبائها، يصبح منحها الإستقلال المالي و الإداري أمراً غير ذي معنى على الاطلاق، لذلك يجب أن تستبعد، من حظيرة المشروعات العامة المستقلة وتلحق بالوزارات المركزية ، فالسعي لتحقيق الربح لا يتعارض مع وظيفة الدولة، لكنه يختلف عن سعي القطاع الخاص للربح، فالمشروعات العامة توجه أرباحها لتحسين الخدمات وتنمية النشاط الإقتصادي في البلاد، كما تنعكس أرباحها على الأهداف التنموية للمجتمع من خلال تحقيق النفع العام وإتقاء الأخطار الإقتصادية والإجتماعية الأمر الذي تصبح معه خصخصة المشروعات العامة ليست الحل المناسب لمعضلتها.
،وفي الاردن هناك نوع من المؤسسات المستقلة استحدث لاسباب لا علاقة لها بالمشروعات العامة ، ولا، تشرح قوانين هذه المؤسسات في ديباجاتها دواعي منحها الاستقلالية المالية والادارية ، ولنا ان نستنتج الاسباب ، واحيانا تكون هذه الاستقلالية غير فعلية ، فعلى سبيل المثال تتمتع هيئة مكافحة الفساد وديوان المظالم بالاستقلالية ووفق قوانينهما مؤسسات مستقلة ماليا واداريا, ونستنتج ان دواعي الاستقلالية هنا سياسية ، ولكن هذه الاستقلالية القانونية تبدو غير فعلية على ضوء شكوى المؤسستين من نواقص ادارية ، فالمؤسسة المستقلة اداريا وماليا تكون قادرة على سد نواقصها بنفسها باعتبارها كيانا قانونيا مستقلا كما ينص على ذلك قانون تأسيسها، وهذا مثال على عدم الجدية في منح الاستقلال.
،واخيرا فان الافراط الاردني اللا مسؤول عبر السنين الماضيات في منح كثير من الهيئات والتنظيمات الادارية الاستقلال الاداري والمالي عن الحكومة المركزية هو تعبير عن جهل في دواعي الاستقلالية ومبرراتها ، فاية مؤسسة مستقلة لا ينطبق عليها تعريف المشروع العام هي عبارة عن دائرة حكومية مكانها الطبيعي داخل الجهاز الحكومي المركزي، ولا مبررلمنحها الاستقلالية المالية والادارية،ولا يوجد اي مبرر لاختلاقها ، ويجب الحاقها باحدى الوزارات المركزية ، فالتوسع الارتجالي والعشوائي ،في انشاء هذه المؤسسات لا يعبر الا عن نقص في فهم وظيفة الدولة واستهتار بدور الحكومة المركزية ، فكل هيئة او مؤسسة لا يوجد مبررضروري لاستقلالها هي بمثابة حالة انشقاق عن الادارة العمومية، فالاصل في الادارة العامة هو الوزارات المركزية والاستثناء هو المؤسسات المستقلة وليس العكس،اما ان تصل الامور الى حد استحداث عدة هيئات مستقلة تعنى بنفس النشاط اضافة للوزارة المركزية الاصلية، فهو لا يقع ،ابدا في باب الادارة ولا المنطق، لكنه قد يقع في باب بابا بدي مؤسسة مستقلة زي صحابي!!