- قد لا يصلحُ ما سأقوله هنا، لِفتح حوارٍ مفيد، حولَ حالات التطرّف والتشنّج والتجاوز المحدودة، التي شهدها مجتمعنا الأردنيّ النبيل، في هذه اللحظة الراهنة من تاريخه الحديث، والتي يعبرُ فيها أهمّ مراحلَ تطوّره، في إعاد صياغة وتجديد عقده الإجتماعي الحديث، وعلى نحوٍ مُدهشٍ ومُبتَكَر ومختلف، بهدوئه ورصانته وسلميته وحضاريته.أقولُ أنّ ثمّة أبواب كثيرة للحوار والتغيير والإصلاح الجذريّ، ويعرفها غالبية الأردنيين، بفطرتهم وغريزتهم وتجاربهم العملية، وما راكمته من راسبٍ عميق، في يقينهم ووُجدانهم، وتحوّل في حياتهم اليومية إلى ثقافة راسخة، على مدار العقود التسعة الماضية. وثمّة بابٌ آخر، واحدٌ ووحيد، للتطرّف والتجاوز والفوضى، لم يُشكّل يوماً خياراً في حياة الأردنيين السياسية والإجتماعية، وأظنّه لن يكون.
أبوابٌ كثيرة للتغيير والإصلاح.. وبابٌ ضيّقٌ للتطرّف؟؟!
في البدء، وعلى الرغم من كلّ ما يُقال، حول بعض الرؤى والشؤون السياسية الوطنية، ويجري تسويقه، على أنّه رأيُ الأردنيين، لا بُدّ من التأكيد على بعض الثوابت الأساسية. وأوّل الثوابت أنّ يقينَ مُعظمِ الأردنيين هو الثقة المطلقة بوجودهم، وطناً ودولةً ونظاماً سياسياً هاشمياً. يقينٌ وثقةٌ، عند الأردنيين، بوطنهم وهويتهم وأمّتهم، لا تُزعزهما عواصفُ عابرة أم عاتية، تستندان إلى إرثٍ ماديّ ملموس، في عُمر الوطن والدولة والهوية والنظام. إرثٌ، من اليقين السياسيّ والثقة المؤمنة، تجاوزَ لِتوّه التسعين عاماً، وهو ما هو غير متوفّرٍ عند كثيرٍ من جوارنا، الذين تشكّلت أوطانهم ومجتمعاتهم بعد ذلك بعقود.
فاليوم، ثمّة بعض الهواجسُ النخبوية الأردنية المحقّة، باستنادها إلى سيولة الإقليم الجيو سياسية، ناهيكَ عن اشكال الثقة السياسية المفقودة بين تلكَ النُخب السياسية المحلية، والشكل التاريخي المروّع للتأثيرات الخارجية.
أما ما ليس من حقّنا، فهو أن نسمحَ ونقبلَ بإدارةِ جدل بينيّ بالغ السلبية. جدلٌ يصنعُ من أطراف الهوية السياسية العربية، في المثلّث التاريخي والجغرافي، أردنياً وفلسطينيا، أعداء لدودين، ليس ضدّ بعضهما فحسب، بل وضدّ كلّ مصالح كل منهما على حِدة، لينتصر في النهاية عدوٌ طامحٌ وطامعٌ وشَرِهٌ. يحدثُ ذلكَ ليس بأخطاء بعضنا اليوم فحسب، بل بأخطاء البارحة، التي لم نُعِدْ تقييمها وتصحيحها، أيضاً كما يجب.
وفي باب التطرّف والتجاوز الضيّق، ينتهز بعضٌ محدودٌ مناخات التحوّل الديمقراطي والإصلاحي، بالتطرّف، في التجاوز على بعض الثوابت في يقين الأردنيين وحياتهم الوطنية والسياسية.
فهؤلاء، ولا اريدُ تسمية أحدٍ منهم هنا، أو قُل بعضُ البعضِ منهم، يتناسون، عن سابق قصدٍ وتصميمٍ خبيث، أنّ ذلك ينهشُ من لحمِ هيبة الدولة واحترامها في نفس ووجدان المواطن الأردني، وربما هذا هو المقصود. وفي أحسن الأحوال وأبسطها، فإنّ ذلك يحدثُ بصبيانية فِعليّة، أو بصبيانية سياسية، لا ترى أبعد من حدود الإثارة والتهريج الموظّف، الذي يُتيحهُ الإعلامُ الحديث ووسائله للجميع، ومن دون ممارسة الحدّ الأدنى من المسؤولية الشخصية أو العامة، ناهيكَ عن المسؤولية الوطنية.
فَأَنْ تُحرقَ صورة جلالة الملك، بفرديةٍ وصبيانية، ومن فتىً، بَذلتُ شخصياً جهوداً مضنية، من أجل إخراجه وتكفيله، عندما أعتقلَ، قبل أسابيعَ قليلة، لهو أمرٌ يدعو إلى الحُزن والحُنق والإستنكار والغضب.
وأنْ يدعو أحدهم، أو يُهدّد، صراحةً أو ضمناً على لسان آخرين، بالدعوة إلى “جمهورياتٍ وهمية..!”، واستغلالاً لمناخ الحرية والإنفتاح نفسه، فذلكَ أمرٌ يحضّنا على إعادة تأمّل
وجوهنا، ومُحيّاها، من جديد. أقول هذا، لأنّني، وقبل أسابيعَ قليلة أيضاً، سمعتُ من الرجل نفسه، حين زارني، في مكتبي برئاسة الوزراء، كلاماً مبالغاً فيه أيضاً عن “الولاء والإنتماء..” للوطن والنظام والمليك..! فليس ذلك، يا إبن وطني، لا من عزم الأمور، ولا من حزمها، متمنياً أن يكون ذلك من “عثرات الرجال..”، الذين يعرفون كيف يعتذرون عن عثراتهم، سواء كانت بقصد أم بدونه. سيّما أنّنا في وطن ونظام، وبقيادة مليكٍ يحترمُ وطنه ومواطنيه، وشيمته الصفحُ والغُفرانُ والعفوّ، في الشخصيّ من الأمور. أما في شؤون الوطن العامة، فللدولة أيضاً مؤسساتها الرحيمة، ورجالها الحازمون بحقّ، وضمن حدود قانون، أبعدُ ما يكون عن الرغبة في صناعة شهداء أو أبطال شعبيين جُدد. فرِفقاً بالوطن، وبأحوالنا، في مرحلة آخر ما يحتاجُ فيها الوطن إلى المزاودة والتطاول على قيمه وهيبته وكرامته. أليس كذلك..؟!
والحقُّ أنّ ما سبق، ليس صورةَ الوطن ومشهده العام، بل نقاطٌ صغيرةٌ سوداء متناثرة، في المشهد الوطني الأردني العريض. وقد آثرتُ الإشارة إليها والحديث عنها اليوم، لا لأهميتها أو لإنتشارها، فهي أكثر من ضيّقة ومحدودة، بفضل طبيعة الأردنيين وسعة مداركهم ورصانتهم، بل لخطورة السماح بتطوّرها، استغلالاً من البعض لمناخات الحرية اللازمة والضرورية للإصلاح الحقيقي.
فالمشهدُ الحقيقي العام، لوطننا الأردنيّ، ترتسم حقائقه وتتكاملُ عناصره الأساسية، منذ عام تقريباً، وعلى نحوٍ يجترحُ فيه الأردنيون إحدى معجزاتهم الحديثة:
مليكٌ جريءٌ ومبادِرٌ، واسعُ البصرِ والبصيرة، إلتقط لحظة تحوّل تاريخيّ جذرية، من زمنٍ عربيّ عنيف، فأحالَ العُنفَ الكامنَ في تلك اللحظة إلى آليّات تغييرٍ، منظّمة ومتحضّرة، حقيقية. يُرافقها سعةُ صدرٍ سياسي بالغة الحكمة، إنعكست آلية سياسية، بتسميته لحكومة، مهمّتها الرئيسية العبور بالبلاد إلى برّ الأمان، وبلا عُنف، عبر إنجاز مهمّة الإصلاح الجذري الشامل.
إن تعظيمُ الإيجابيات والجوامع في مشهدنا الوطني العام أمر مطلوبٌ ومحمود، كما يقول الإمام الشاطبي، وهو ما تلتزم به كل القوى السياسية الأردنية، المعارضة وغير المعارضة. فمن القوى القومية واليسارية، إلى الأحزاب الوطنية الوسطية المعتدلة، إلى جبهة العمل الإسلامي، والجبهة الوطنية للإصلاح، إلى تيارات المتقاعدين العسكريين، والسلفيين، والطلبة الجامعيين، والتيارات النسائية، والنقابات المهنية، وأطُر الحراكات الإجتماعية والشبابية، وغيرها. فكلّ هؤلاء يمارسون إنضباطاً ومسؤولية، وإن بدرجات متفاوتة، تجاه كل قضايا الإصلاح والوطن، وبما في ذلك الأفراد والرموز الوطنية المعارضة التي تدعو الى نبذ العنف والتطرّف، وهو، في رأيي، واحدٌ من أبرز وأنضج أشكال المسؤولية والحرص السياسي، التي حدثت في تطوّرات الحراك السياسي والإجتماعي، في بلدنا، في هذه الفترة. وهو ما نتمسّك به، وندعو الجميع إليه، أفراداً ومؤسسات، رسميين ومعارضين، تأكيداً ليقين الأردنيين التاريخي، في وطنهم ودولتهم ونظامهم، وطرداً لكلّ أشكال الهواجس، الطارئة والعابرة، سواء كان أصحابها مغرضين أو أصحاب تقديرات خاطئة.
وحمى الله الوطن الأردني والشعب ونظامه ومليكه.
*المقال نشر على صفحة الوزير الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”..