كم من السهل أن نستهين بمعاناة الآخرين ونحن نجلس وراء مكاتبنا المكيّفة، حين يصبح الشهداء بالنسبة لنا مجرد صور وأرقام في آخر شريط إخباري على إحدى المحطات الفضائية، وكم من السهل أن نغض النظر عن الجرائم طالما أنها بعيدة عنّا، وطالما أنها ليست سوى مادة دسمة لمقال إخباري جديد في يوم جديد، وطالما أنها ليست موقدة للدموع والغضب والألم وحرقة القلب.
فمنذ أن صعدت أول مناداة باسم “حرية” في سوريا وأنا أخاف أن أرى سطراً صغيراً في إحدى النشرات الإخبارية يعلن عن اعتقال صديق، أو تعذيب صديقة، أو قتل متظاهر لا أعرف عنه شيء سوى رقمه: الشهيد الألف بعد آلاف.
في كل مرة أسمع فيها عن سقوط شهداء أو اعتقال شباب طالبوا بـ “حرية وبس” أتذكر حديثاً مطولا مع أحد الأصدقاء حين يصر أن يقول أن النظام الأسدي هو أفضل نظام عربي وهو نظام ممانع، وأن اعتقال بضعة مئات من الشبان هو ثمن قليل للحفاظ عليه.
ولأني أمضيت ثلث حياتي في “سوريا الأسد” وتعلمت وترعرعت فيها وتعلمت كيف تكون “المقاومة والصمود” وهي بالمناسبة فرصة لا تعوض لأحد.. فصديقي هذا لا يعرف بطبيعة الحال ما هو شعورك حين تنام في منزلك كل ليلة وأنت تنتظر في أي لحظة أن يخطفك الأمن إلى أقبيته العفنة، لا يعرف شعور المرء حين يطفئ رجل المخابرات سيجارته في عنقه، ثم يبول على رأسه وهو يصرخ “بدك حرية يا أخو ********!!”، صديقي هذا لا يعرف الشعور حين يأتون بأهلك إلى المعتقل ويضربون ويهينون والدك أمامك ويهدّدونك باغتصاب كل أنثى تعني لك شيئاً، وكيف تشعر حين يؤكدون لك بأن تنسى كل ما عملت لأجله في سنواتك الماضية “الدراسة والعمل والأصدقاء والحبيبة ربما” لأنه ببساطة لا احد سيعرف عنك شيئاً بعد اليوم.
وهو بطبيعة الحال لا يعرف كيف تشعر عندما تجر جثة صديقك في الأحياء وأنت تحاول أن تقنع نفسك بأنه حي وأنه سيقوم ولو للحظة واحدة ليعانقك عناق الوادع.
صديقي العزيز ..
يجب أن تعلم وأنت تواصل دعمك ودفاعك عن الأسد وعصابته في ارتكاب جرائمهم ضد الشعب الأعزل الحر بحجة “الممانعة والعروبة” أن الأهم من هذا كله، أنك لازلت لا تعرف كيف تشعر وأنت تصرخ “حرية” بأعلى صوتك، وكيف تدرك معنى القوة حين يرتجف الطاغية من قبضتك العالية المرفوعة عالياً، لا تعرف كيف تكون نشوة إحراق صور الدكتاتور وتحطيم أصنامه، وكيف يشعر المرء عندما يخط التاريخ من جديد بدمائه النازفة، وأن يكون حراً كريماً، وبالطبع لا تعلم ماذا يعني أن نتمرد وأن نحلم!
لكن هؤلاء الصاعدون إلى حتفهم باسمين في ساحات الحرية يعلمون ذلك جيداً، وهذا هو الأهم!!