إنَّ أحداً من المنادين بـ “الإصلاح السياسي” في الأردن, ومن المؤمنين بأهميته وضرورته, لا يجادل في حاجتنا, وفي اشتداد حاجتنا, إلى “الحكومة التمثيلية”, أي التي تمثل الشعب, وتكون صادقة في تمثيلها له, والتي تؤلفها الغالبية الحزبية البرلمانية; لكن ثمة من يعبِّر عن عدائه لهذا “الإصلاح” بأن يتساءل في دهشة واستغراب قائلا: “أين هي الأحزاب السياسية التي يعتد بها حتى يصبح ممكنا قيام مثل هذه الحكومة?!”.
ولَمَّا كان الشيء بالشيء يُذْكُر تذكَّرت قصة الرَّجل البخيل الذي ابتاع حمارا, فقتَّر عليه, ولم يطعمه إلا بما يكفي لتقصير عمره, فلَمَّا مات, قال في ألم وحسرة: “بعدما تعوَّد قلة الأكل مات جوعا”! .
ليس من الأهمية في شيء أن تسأل “هل لدينا (الآن) حياة حزبية?”; كما ليس من الأهمية في شيء, أيضا, أن تجيب قائلا “كلا, ليس لدينا”; فإنَّ السؤال الذي ما زالت إجابته تتحدَّانا هو “لماذا ليس لدينا (حتى الآن) حياة حزبية?”.
إننا لا ننكر, وينبغي لنا ألا ننكر, أنَّ “الحياة السياسية” لدينا لا يمكن تمييزها من “الموات الحزبي”, وأنَّ أحزابنا عشائر, وعشائرنا أحزاب; لكن, هل من طريق, إذا سرنا فيها, نصل إلى “الحياة الحزبية”, التي كلها “حياة”, والملوَّنة, فكريا وسياسيا, بألوان “قوس قزح”?
أجيب قائلا, أجل, ثمة طريق; وكل ما يعوزنا إنما هو أن نجرؤ على السير فيها.
هذه الطريق تبدأ, ويجب أن تبدأ, من حيث تتركز السلطة الفعلية في المملكة; وإنها تبدأ بقرار, بموجبه, يُحل البرلمان بمجلسيه, وتُحل الحكومة, ويذهب الوزراء إلى بيوتهم, وتؤلف حكومة انتقالية, أعضاؤها من ذوي الاختصاص, لتسيير الأمور, وتصريف الأعمال, فحسب, ويُعْلَن (مع تأليف هذه الحكومة) بدء “مرحلة انتقالية”, تدوم سنة, أو أكثر, يؤسَّس فيها لـ “المملكة الثانية”.
وتُطْلَق, في هذه المرحلة, الحريات السياسية كافة, وفي مقدَّمها حرية التعبير, بكل أوجهها ودرجاتها, وحرية تأسيس وتكوين الأحزاب والجمعيات السياسية (وغير السياسية).
وينبغي لنا أن نفهم “الحراك الشعبي”, مع حق الاعتصام, على أنه “قوة سياسية جديدة”, جاءنا بها “الربيع العربي”, الذي هو الآن قيد التحول إلى “مثل عالمي أعلى”; فهذا الحراك لا يَعْدِل الأحزاب السياسية, وإنْ شاركت فيه, وانضمت إليه, أحزاب ومنظمات سياسية.
كل مجموعة من المواطنين يحق لها, في “المرحلة الانتقالية”, أن تؤسِّس لها حزبا, أو ما يشبه الحزب; ولا خوف على حياتنا السياسية من كثرة وتكاثر الأحزاب; فالمنافسة السياسية والحزبية هي وحدها الطريق إلى تحول “الكثرة” إلى “قلة”, و”الشتات” إلى “تركز”.
ومع نهاية المرحلة الانتقالية التي أنتجت ما أنتجت من أحزاب وقوى وجماعات سياسية, يُدعى الشعب إلى انتخاب “مجلس تأسيسي” للمملكة الثانية, فيتولى هذا المجلس وضع دستور جديد, ونظام انتخاب جديد; فيُقَرُّ هذا وذاك في استفتاء شعبي, فتُجرى انتخابات برلمانية; ثم تنبثق من البرلمان الجديد حكومة الغالبية الحزبية البرلمانية التي يحق لها, عندئذ, أن تزعم أنها تمثل الشعب (في طريقة تأليفها, وفي ما تتمتع به من سلطات وصلاحيات السلطة التنفيذية).
إنَّ “الإرادة الحرة للشعب (أو الأمة)” هي عبارة تفقد كثيرا من معناها الحقيقي إذا ما حيل بين الشعب وبين “الأسلوب الأفضل” لكشف الإرادة السياسية الحقيقية للشعب, والإفصاح عنها, وإذا لم تُتَرْجَم, في “السلطة التنفيذية”, بما يجعل الحكم ممثلا صادقا لهذه الإرادة.
وهذا “الأسلوب الأفضل”, لجهة أهليته لكشف الإرادة السياسية الحقيقية للشعب, هو جعل الدولة كلها دائرة انتخابية واحدة, يُصَوَّت فيها للقوائم الحزبية, ويُحْفَظ لكل فرد حقه في الترشح, على أن يُمثِّل هذا الفرد مجموعة (ولو صغيرة) ممن يحق لهم الاقتراع, وتملك هذه المجموعة “هوية سياسية”, يُعَبَّر عنها ولو في ورقة واحدة تشتمل على ما يشبه “البرنامج (الانتخابي) السياسي”.
هذه الطريق إنما هي اقتراح أعلم أن لا وزن له إذا ما قسناه بميزان “مصالح الممسكين بزمام حياتنا السياسية”; ومع ذلك يبقى اقتراحا مفيدا في تمييز إصلاح من إصلاح, وفي إظهار وتأكيد أن “الربيع العربي” في الأردن ما زال في أوله.
العرب اليوم