“الأوامر من فوق” لا تعني دائما ان المسؤول يريد فرض أجندته ومصالحه الخاصة, وان كانت في العديد من الأحيان تعني ذلك تماما, ولكنها في أحيان أخرى تعني ان الأوامر هي فعلا “من فوق”, أي من مسؤول أو جهة عليا, ولكن ليست بالضرورة ان تكون آتية دائما من قمة الهرم.
المهم ان مفهوم “أوامر من فوق” أصبح جزءا من الثقافة السياسية السائدة في ظل تغليب النظام السياسي الأبوي على مفهوم دولة المؤسسات.
جزء من المشكلة ان المجتمعات العربية في الإجمال هي أبوية الطابع, أي ان رأس العائلة يهب ويأخذ وهو من يكافئ ويعاقب, وقد أبدع المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي في تشريحه للنظام المجتمعي الابوي السائد في العالم العربي وسلبياته المؤدية إلى تقويض مفهوم المواطنة والحقوق المدنية
لكن يجب الاعتراف أيضا ان النظام السياسي الأردني عمل على ترسيخ ممارسات “النظام الأبوي” الذي يعتمد على المكارم والاعفاءات بدلا من الحقوق والواجبات, لضمان التأييد والولاء, مما افقد مؤسسة الدولة من مضمونها وضرب مصداقية المؤسستين التشريعية والقضائية.
فاعتدنا ان يأتي العدل والظلم من جهات عليا, فكان السياسيون يُزجون في المعتقلات ويطلق سراحهم دون توفير شروط العملية القانونية أو حتى دون ان يكون هناك أي عملية قانونية, ويخرجون من خلال إعفاء أو لأسباب سياسية تتعلق بظرف سياسي آني, فترسخت في مفهوم الوعي الجمعي “صورة المذنب” للناشط السياسي لتجرئه على العصيان لأنه في النهاية تمرد على النظام الأبوي, مما أدى إلى عزوف الناس عن المشاركة العامة والخوف من الأحزاب السياسية.
فشاع الاعتقاد ان مفهوم الاعتقال وإطلاق السراح يأتي من فوق, مما همش مفهوم سيادة القانون, ليس فقط في القضايا السياسية وإنما أيضا في الاقتصادية والاجتماعية والجنائية منها, ولا شك ان هذه المفاهيم هي عقبة أمام أي عملية إصلاح أو مكافحة فساد لان الكثير من الناس يثقون برحمة الأب ويخافون عقابه, سواء ان كان ذلك الأب هو النظام السياسي أو العشائري.
الذي يجري في الأردن والعالم العربي اليوم هو في جزء منه ثورة على النظام الأبوي يشوبه الخوف من فقدانه, لأنه لا توجد ثقة في مؤسسات السلطة القائمة, بينما تغيب رؤية واضحة للبديل القادم, ولهذا نرى عودة إلى التمسك بالعشيرة وحتى الانتماء الطائفي والاثني, وهو ما يتناقض مع زمن ثورات قامت ضد الظلم وسلب الحقوق وقمع الحريات.
وللأردن وضعها الخاص, كما لكل مجتمع عربي خصوصيته, لأن الضربة القاصمة للنظام الأبوي جاءت من النظام السياسي نفسه, عندما بدأ تنفيذ برنامج ما يسمى بالإصلاح الاقتصادي في أواخر الثمانينيات, الذي كان تأثيره صادما على فئات واسعة كانت تعتمد على ان النظام هو مسؤول عن تأمين وظائف لأبنائها في القطاع الحكومي,وبالتالي أصبحت مهددة بعد عمليات الخصخصة وارتفاع الأسعار التي قلصت من القيمة الحقيقية لمعاشات الوظائف الحكومية والقطاع العام.
المشكلة لم تكمن في اعتقاد الناس ان على الحكومة تأمين الوظائف, لكنها كانت في ان تامين هذه الوظائف لم يكن مرتبطا باستراتيجيات تنموية تهدف إلى تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية, بل ارتكزت على ممارسات أبوية سلطوية تهدف إلى ضمان الولاء والخضوع السياسي.
تلك التغيرات لم ترفق بنظام بديل فأحست شرائح واسعة بأنها بدأت تفقد الشعور بالأمان الاجتماعي, وهذا شكل بداية أزمة حقيقية لم يدرك النظام حجمها وعمقها بل عمل على محاولة احتوائها من خلال الإبقاء على الممارسات السلطوية القمعية وجمعها في نظام المكارم والمكافآت, الذي لم يعد كافيا أو مقبولا في ظل تنامي وعي شعبي بحقوق المواطن وكرامته المسلوبة.
هذا الوعي الذي حفز الثورات العربية, أدى إلى ظهور بدايات لرفض مفهوم “الأوامر من فوق”, فحتى عندما يقبل الأردني أو غيره تبعات الأوامر من فوق- بسبب خوف أو الحاجة أو حتى الولاء والتبجيل- فانه ينتظر على الأقل مردودا يشعره بالأمان الاقتصادي والاجتماعي, فمفهوم الأب يرتكز على قدرة الأب على العطاء وليس فقط على قدرته على فرض سلطته, ولم يسمح دخول سياسات الرأسمالية المتوحشة مجتمعات العالم اجمع, على قدرة النظام الأبوي السياسي على التوسع في الهبات والأعطيات, وبذلك فقد مفهوم “الأوامر من فوق” هيبته المنشودة .
العرب اليوم