كل ما نحتاج (وتشتد حاجتنا) إليه لا بد له من أن يُوْجَد, أو لا بد لنا من إيجاده; لكن ليس كل ما هو موجود لدينا نحتاج (أو ما زلنا نحتاج) إليه; والأمثلة عندنا, أي في حياتنا, كثيرة; وتشمل السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة.. والإعلام.
وإنَّه لوجه من وجوه الثورة الإعلامية في عصرنا أن تسأل “هل ما زلنا في حاجة إلى الصحافة الورقية?”; لكن المجيبين ب¯ “نعم” عن هذا السؤال مدعوُّون إلى أن يؤسِّسوا, ويعرفوا كيف يؤسِّسوا, لجريدة تتوافق, شكلا ومحتوى, مع قانون “الحاجات (والضرورات)”, وإلا ماتت, ولو ظلت على قيد الحياة; فالسؤال الذي لا بد لهم من إجابته, قبل, ومن أجل, التأسيس لجريدة متوافقة مع هذا “القانون (الموضوعي)” هو “ما هي الحاجات التي ينبغي لهذه الجريدة تلبيتها (للقارئ) حتى تكون جديرة بالانتماء إلى صناعة الإعلام, التي يتوفر أربابها على صناعة الرأي العام?”.
كثيرة هي هذه الحاجات, والمتغيرة في استمرار مع وسائل وطرائق تلبيتها; لكن من الأهمية بمكان أن تُكْتَشَف وتُعَيَّن من طريق استطلاع لآراء فئة واسعة من القراء للصحف اليومية والأسبوعية كافة; فمن القارئ, أي من كل قارئ, يمكننا وينبغي لنا أن نقف على السبب الذي يحمله على قراءة (وشراء) الجريدة التي يقرأها (ويشتريها).
الحاجة إلى “الخبر”, أي إلى “المعلومة (الجديدة المفيدة)”, كانت هي الأولى والأهم; ومع أن هذه الحاجة لم تنتفِ, في عصرنا الإعلامي الثوري الجديد, فقلَّما نجد جريدة يومية في مجتمعنا تَجْتَهِد, أو تُوَفَّق, في تلبية هذه الحاجة, بما يتوافق مع عصرنا الإعلامي هذا; فالقارئ الآن لا يحتاج إلى أن يقرأ, في اليوم التالي, “خبرا”, أحاطه به علما, من قبل, الإعلام المرئي والمسموع; إنه يحتاج الآن إلى أن تأتيه جريدته اليومية (في اليوم التالي) بخبر جديد (أو معلومة جديدة) صنعته هي, أو حصلت عليه بما تتمتع به من نفوذ لدى المُحْكِمين قبضاتهم على “الخبر” و”المعلومة” من ذوي النفوذ في عوالم السياسة والمال والاقتصاد والاجتماع والثقافة..
إنَّ الجريدة اليومية التي يحتاج إليها القارئ (وتشتد حاجته إليها) هي التي تقول له صباح كل يوم, ما استطاعت إلى ذلك سبيلا, “هذا الخبر (أو المعلومة)” من عندي, ومن عندي فحسب, صنعته لك, أو حصلت عليه من أجلك”; فلا أهمية لها إن كانت, أو إن ظلت, على المستوى الإخباري, نسخة (ونسخة فحسب, معدَّلة أم غير معدَّلة) من خبر وكالات الأنباء, أكانت عالمية أم قومية.
وأحسب أن خير سؤال ينبغي للجريدة اليومية أن تجتهد في إجابته, وأن تتوفر عليها, هو “ما الذي يحتاج إليه القراء (المختلفين عمرا وفئة واهتماما..) ولم تلبِّه الجرائد الأخرى, أو لم تلبِّه على خير وجه, ولا بد لها هي, من ثم, من أن تتجشم مهمة تلبيته?”.
وبعد “الخبر”, و”المعلومة الجديدة المفيدة”, يحتاج القارئ إلى “ما وراء الخبر”, وإلى “قراءة ما بين سطوره”, وإلى “سبره” ليقف على معانيه وأهميته; كما يحتاج إلى “مقالة الرأي”, التي ينبغي لها أولا أن تكون “مقالة”, وينبغي لها, من ثم, أن تَحْمِل “رأيا”, وإلا أصبحت كل ورقة امتلأت بالحبر على هيئة كلمات وجمل “مقالة رأي”!
وحتى تظل الجريدة اليومية ملبية لحاجات القراء ينبغي لها أن تَسْتَكْتِب من الكُتَّاب الكُتَّاب ما يجعلها (على مستوى “مقالة الرأي” ك¯ “المنشور الزجاجي”, لا يدخله الضوء (الأبيض) إلا ليخرج منه بالألوان السبعة, والتي من امتزاج بعضٍ منها نحصل على مزيد من الألوان; فإنَّ كل الميول والمشارب السياسية والفكرية والثقافية يجب أن تجد لها مكانا على صفحات الجريدة عبر “مقالة الرأي”, وإلا أصبحت (الجريدة) حزبية, بالمعنى الضيق والمشوه والمسيخ للحزبية.
القارئ يحتاج إلى “الإعلان (التجاري)” مثلما تحتاج الجريدة نفسها إلى “المُعْلِن”, أي إلى ماله; لكن أوجه العلاقة بين “الحامل” و”المحمول” هي التي يجب أن تُصْلَح; فالجريدة اليومية, بجودتها, خبرا ومقالة وصورة ومقابلة وتحقيقا,.. هي التي تكون, ويجب أن تكون, “الحامل” الذي يغري “المُعْلِن” بجعل “إعلانه (التجاري)” محمولا على متنه (أي على متن هذا “الحامل”.
أما الجريدة اليومية التي هي في حُكْم الميتة إعلاميا فهي التي يُقْبِل الناس عليها شراءً من أجل شيء غريب عن جنس الصحافة, ألا وهو “الإعلان (التجاري)”, أو “النعي”, أي “خبر الموت”, وكأن قارئها قارئٌ لما يأتيه به “التاجر” و”عزرائيل” من أخبار!
بالتوافق مع ذاك “القانون (الموضوعي)”, يصبح ممكنا أن نرى جريدة قراؤها أكثر من كُتَّابها, عددا; وبخرقه وانتهاكه, تصبح الجريدة “جريدة لكل قارئ عشرة كُتَّاب”!
إنَّ صانع بضاعة ما لا يصنعها من أجل أن يستهلكها هو بنفسه; بل من أجل أن يستهلكها غيره; فالبضاعة تفقد معناها الحقيقي إنْ لم يشترها غير صانعها, وإنْ لم يشترها من أجل أن يستهلكها; لكنه لن يشتريها, ولن يستهلكها, إلا إذا كانت ملبية حاجة له; فهل وقفت الجريدة اليومية على أهمية “قانون الحاجات (والضرورات)”?!.
العرب اليوم