اجمل اتصال وأحلى بشرى تلك التي تلقاها احمد من قسم العيون في المدينة الطبية، حينما اخبروه بان ثمة متبرع لقرنيتيه، وان إحداها ستكون من نصيبه.. زغرد قلبه فرحاً، لأنه سيعود لاستئناف دراسته الجامعية (نظم معلوماتيه) من جديد، بعد ان قطعها لضعف بصره الشديد.. ها هو احمد الشنيكات وبعد انتظار دام أربع سنوات تُزرع له قرنية شاب لقي وجه ربه بحادث مؤسف في محافظة الكرك.. فهي بارقة أمل ستضيء عتمة ليله، وتعدُه بغدٍ مشرق..
ورغم الفاجعة التي تصيب أسرا أردنية بفقد أحباء لهم، الا ان الدافع الديني، والواجب الوطني، والتكافل بين أفراد المجتمع تدفع بعضها الى التبرع بأعز شيء يملكونه، في غمرة حزنهم ولوعتهم حتى لو كانت عيون أبنائهم..
فكانت لحظات عصيبة التي عاشتها أسرة محمد المجالي، حين فقدت ابنها البكر(19 عاماً) الأسبوع الماضي في محافظة الكرك اثر حادث مأساوي.. فلم تكن العائلة تتوقع رحيل إيهاب الى بارئها بهذه السرعة، موته كان فاجعة ألمت بهم بعدما كانت تهيئ نفسها لإرساله الى الخارج ليكمل تعليمه عقب نجاحه في التوجيهي.
إيهاب تناول طعام الغداء.. ثم قبّل يد والدته واخبرها بانه ذاهب ليغتسل، استعداداً لزيارة صديق له محاولاً إقناعه بالسفر معه للدراسة في الخارج، الا انه غيّر وجهته، فكان السفر الأبدي..
كثير من الأمهات يفقدن أبنائهن، ويفجعن بهم، ولكن ان توافق تلك الأمهات على التبرع بأعضاء ابنائهن في ذروة حزنهن ولوعتهن ، فتلك هي العاطفة وتلك هي التضحية..
أم إيهاب المكلومة انتظرت ان يخرج بكرها من الحمام كما وعدها، ولكنه اخلف الوعد هذه المره فلم يخرج.. رغم مناداتها عليه بصوت عالٍ، ورغم طرقاتها القوية على باب الحمام، الا ان ابنها لم يسمع ندائها.. كُسر الباب بقوة فكانت المفاجأة .. وجد ملقىً داخل حوض الحمام بلا حراك... حاول الأطباء عبثاً إنقاذ حياته، لكن إرادة الله كانت فوق كل شيء.. مات إيهاب ولم يحقق حلم والديه.
انهار الأب أمام ذلك المشهد الجلل، واخذ يصرخ على ابنه وفلذة كبده بأعلى صوته، لكنه لم يسمع النداء.. ألام حملت صورته وراحت تريها للجميع وهي تقول "هل تصدقوا ان ابني مات؟".. هذه هي مشيئة الله جل وعلى، ولا راد لقضاء الله.. عبارات سمعها الأبوين المفجوعين من الجميع ولعلها خففت عليهم هول المصيبة..
الحادث الذي أودى بحياة إيهاب الأسبوع الماضي، ليس بحادث سير أو سقوط عن مرتفع، ولكنه حادث"اختناق" بغاز أول أكسيد الكربون، حسب تقرير الطب الشرعي.. ففي داخل الحمام الذي كان يغتسل به ثمة تسرب للغاز الذي كان ينبعث من "كيزر غاز" يعمل على تسخين الماء.
يقول مختصون ان ثمة أخطاء كبيرة في صناعة كيازر الغاز، فالبعض منها، لا يستوفي شروط السلامة العامة، ومنها لا يطابق المواصفة العالمية، علماً بأنها تباع للمواطن ولا تنفك عن التسبب بموت الأبرياء سنوياً، مشيرين الى ان الأنواع الأكثر خطورة هي التي تكون مقلدة تستورد من الدول الأجنبية بلا رقابة صارمة..
والد إيهاب الذي تربى في مدرسة القوات المسلحة، يدرك تماماً ان الواجب والدين يحتم عليه ان يفعل شيئاً تجاه مجتمعه، فتبرع "بقرنيتي" ولده المتوفى لوجه الله..
وقال العميد الركن المتقاعد محمد المجالي، والد إيهاب:" ان التبرع بالقرنيات أمر يعزز العلاقة بين أفراد المجتمع، وهو مثال طيب على التآلف والتحاب بين الناس، كما ان العلماء أجازوا الانتفاع بالأعضاء إذا كانت الغاية نبيلة وهي إصلاح خلل كبير في جسم شخص حي".
الفرحة لم تسع احمد حين اخبروه بانه سيرى من جديد وان ثمة قرنية أعطيت له، انه يحمد الله على هذه النعمة العظيمة، ولكنه لا يجد المفردات التي يعبر بها عن شكره لوالد الفقيد على كرمه حسبما يقول.
أما القرنية الثانية فكانت من نصيب عبد الرحمن حسن سليمان، وهو طفل لم يكمل ربيعه الخامس عشر، ووفق الدكتورة وفاء عصفور أخصائية العيون في المدينة الطبية، التي قامت بزراعة القرنية لعبد الرحمن فان وضعه مطمئن وجيد، وان بصره سيتحسن تدريجياً.
مندوبة جمعية أصدقاء العيون أمينة الفساطلة، تقوم بدور إنساني فهي تعرض على أهل المتوفى الذي يصل المستشفى إذا كان يرغب بالتبرع بقرنياته، ورغم أنها تُقابل بالرفض في كثير من الأحيان، الا أنها تشجع على التبرع بالقرنيات، لأنها تفتح الآمال أمام أشخاص يتطلعون ببصيص أمل ان يعود لهم الإبصار من جديد.
الجمعية التابعة لبنك العيون، لها مندوبين من الجنسين في مختلف المستشفيات، ليقوموا بالتنسيق ما بين المتبرع والمريض، وقد كانوا حتى وقت قريب يواجهون صعوبة في إقناع الناس غير ان الفتاوى الشرعية التي أجازت التبرع زادت عدد المتبرعين، غير أنهم يرون بان التوعية عبر وسائل الإعلام تزيد نسبة التبرع.
وينتظر اكثر من أربعة آلاف مريض قرنيات، وهؤلاء يبذلون قصارى جهدهم في التأقلم مع المجتمع الذي أصبحوا فيه يعانون، بسبب الضعف الشديد للبصر، يحدوهم الأمل ان يحصلوا على قرنيات، تعيدهم الى الانخراط والتفاعل مع المجتمع بقوة.
خلال سبعة اشهر تم زراعة 70 قرنية وفق منسقة القرنيات الفساطلة، إذ أنها اعتبرت ان الوعي لدى الناس أصبح كبيراً مما زاد من عدد القرنيات التي يتم التبرع بها، وتعتقد ان مجموع المتوفين في الاردن سنوياً، إذا ما تبرعوا بقرنياتهم فإنهم سيخففوا من عدد المحتاجين للقرنيات.
وجاء في فتوى مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد بجدة في المملكة العربية السعودية، في العام 1988 الذي أجاز فيه التبرع بالأعضاء:" يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك. بشرط أن يأذن الميت أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة وليّ المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له". وأكد على هذه الفتوى العديد من مجالس الإفتاء العربية والإسلامية ومنها الاردن.