أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم في JO1R FORUM | منتديات شباب و صبايا الأردن، لكي تتمكن من المشاركة ومشاهدة جميع أقسام المنتدى وكافة الميزات ، يجب عليك إنشاء حساب جديد بالتسجيل بالضغط هنا أو تسجيل الدخول اضغط هنا إذا كنت عضواً .

بعضُ ما خبأتهُ الرياض .. | الصفحة 10

ع فكرة نهايتها زي نهاية مسلسل باب الحارة assoommat


اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد

الصفحة 2 من 10 < 1 8 9 10 > الأخيرة


look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  05-06-2011 01:33 صباحاً   [91]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 02-08-2007
رقم العضوية : 122
المشاركات : 10,275
الجنس :
قوة السمعة : 859,151,242
ع فكرة نهايتها زي نهاية مسلسل باب الحارة

assoommat
توقيع :JOKER
<embed src="http://jo1r.l7njo.com//uploads/files/JO1R.COM-e4f8527b7c.swf" WIDTH=550 HEIGHT=210 quality="high" loop="false" menu="false" TYPE="application/x-shockwave-flash" AllowScriptAccess="never" nojava="true"></embed>

<embed src="http://jo1r.l7njo.com//uploads/files/JO1R.COM-e1a226ae41.swf" WIDTH=500 HEIGHT=300 quality="high" loop="false" menu="false" TYPE="application/x-shockwave-flash" AllowScriptAccess="never" nojava="true"></embed>

<embed src="http://download.mrkzy.com/e/1711_md_13056507996.swf" WIDTH=450 HEIGHT=223 quality="high" loop="false" menu="false" TYPE="application/x-shockwave-flash" AllowScriptAccess="never" nojava="true"></embed>

توقيع خرافي من ايد اخرف


hug014

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  05-06-2011 11:48 صباحاً   [92]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 05-08-2008
رقم العضوية : 12,196
المشاركات : 2,877
الجنس :
قوة السمعة : 859,003,115
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة: JOKER;1662660 ع فكرة نهايتها زي نهاية مسلسل باب الحارة

assoommat
اليوم بشوفها :hat:

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  07-06-2011 07:03 مساءً   [93]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 05-08-2008
رقم العضوية : 12,196
المشاركات : 2,877
الجنس :
قوة السمعة : 859,003,115


35

الحب طائرٌ جميل ، يهبط علينا كـ وحي ، يعلمنا أن نكون أجمل !

إبان فراقنا ، حين كنت أذهب للخرج ، لطلابي المتكدسين كسنابل قمح في حقلٍ ضئيل ، كنتُ أذهبُ كئيباً وأمشي كئيباً !
الاكتئاب عدوّ الجمال الأول ، يصيّرك رثاً وإن كنت أنيقاً ، كنتُ أتجافى عن الحديث مع زملائي وطلابي ،
وحين أبدأ الشرح ، يكاد الشرخ في قلبي يمنعني عن الإتقان ، كانت أياماً حسوماً كأيام عذاب .


الآن ، أمضي وأعود أنيقاً ، تسربلتُ بالنظارة يوم سربلني الحب رداءه ،
الحياة من حولي بدت أجمل ، عادت الألوان ترفرف من حولي وأنا الذي كنتُ أمر كل هذه الأمكنة فأراها باهتة !
أعود من الخرج متجهاً إلى الجنة ، هناك في البيت القصيّ من الرياض تنتظرني طفلةٌ يتراكم فيني الشوق لمرآها ..

قبلها ، كنت أعود لعزلتي لكتبي الغبيّة لسجائري لدموعي المتساقطة كحِمم !
الآن أعود لفاتنتي أتشظّى لهفة وعشقاً ورغبة !
لستُ سعيداً كلياً أعرف ذلك ، صوتُ أمي ووجه أبي وانقطاعي عن عائلتي كيتيمٍ وحيد ، يخزّني كشوكةٍ تُغرس في باطن قدمي ..
لكني أقفُ لأحزاني وقفة شجاعٍ يتترسُ بسلاحه .. سارة !


أقفُ أمام باب بيتي ، أو بيتها ، أو بيت والدها .. أووه البيتُ الذي نسكنه !
وتهبّ فيني رياحُ قومي بغتةً وتغرفُ عروقي من ماء موروثي لتعود ملأى بسؤالٍ متكرر :

- كيف أرضى السكن في بيتٍ لستُ أملكه ! أعيشُ في بيتٍ يحملُ اسم زوجتي ، كما لو كنتُ عالة ً أبحث عمّن يواري سوءة فقري !

ثم أعزي نفسي أن الأمر مؤقت ، ريثما تهدأ كل منغصاتي ، ويزداد مرتبي ورخائي ..
حينها سأرمي هذا المفتاح في حِجر والدها ببرود ، كما رماهُ في حجري ببرودٍ أول مـرة !


ما هو الجحيم ؟ هو كل العالم الواقف أمام هذا الباب ! بابٌ يقفُ كصخرةٍ تتكسرُ عليها أمواج هذه المدينة القاسية ،
ما هي الجنة ؟ هي كل ما يتوارى خلف هذا الباب .. حبيبتي وجهُ سعدي وطعمُ هنائي ،
أصعدُ خطوتين وأفتحُه وأدخل ..
ثم أغلقُه بقوّة ، بعزم ، في وجه هذه الدنيا المتطفلة ، والمجتمع الذي لا يفهم الحب ولا يدركه ، في وجه التقاليد البالية التي تحب الأسماء أكثر من الحب ذاته !
أغلقهُ ساجناً كل هذا الكون خلف بابي ممنوعاً عن اقتحام جنتي .

تمشطُ شعرها وتغني أمام المرآة ، صوتها عذبٌ حين تغني لي ، لكنه أعذب حين تختلسهُ أذني وهي لا تعلم !
طفلة ، ليست إلا طفلةً في جسم امرأة ، هكذا قلت لنفسي .. اللعنة على أناقتها التي لا تكف عن الحضور .. ومظهرها الذي لا يكف عن ثورة التجدد !
وجمالها الذي يرمي بي في أسئلةٍ غبية : أحقاً من تُراب ؟! أم نزلتْ مع غمام ، أو ياترى حوريةٌ خرجتْ من البحر فضولاً يدفعها للتعرف على خفايا البشر..
متكئاً على ضلفة الباب أسأل نفسي كل هذا وأكثر ..هائماً على وجهي في وجهها النورانيّ.

- بسم الله .. أفزعتني !

صوتُ شهقتها ويدها تُمسك صدرها الغض خوفاً !

- فيصل قلتُ لك ألف مرة لا تتأملني هكذا !

وكنتُ أبتسم !

- منذ متى عدت !

- فقط خمس دقائق ، أتأملكِ وأستمعُ لك خمس دقائق !

وتصعدُ حمرة الخجل لتكسو محيّاها .. لتنطق بصوتٍ هامس :

- لاتنظر لي هكذا اختلاساً .. أشعر أن عينيك تلتهمني

وأقتربُ منها مطوقاً حلمي بذراعيّ ، وأهمس في أذنها الصغيرة :

- ليست عينيّ وحدها .. ليست عيني !


* * *


طفلةٌ في الرابعة والعشرون من العمر !
حين أصحو وهي نائمةٌ بجواري ، اعتدتُ أن أتأملها .. يصبح الإنسان بريئاً جداً حين يكسو النوم عينيه وجسده ، يبدو بسيطاً يخلو من الشر ،
وسارة حين تنامُ تتسامق براءتها لتصبح ملاكاً هابطاً من بعيد !
أمرر سبابتي فوق ملامحها كأنني أرسمها ، تراودني سبابتي عن تحسس أرنبة أنفِها الجميلة لكني أكف عن ذلك مبتسماً أخشى ايقاظها ..
بريئةٌ للحد الذي تخجلُ فيهِ الطفولة من براءتها ، لو مرّت على الماء، لفكر الماء ألف مرة قبل التجرؤ على تبليلها ، ولو طار الحمام حين تمشي إليه لكان جانياً ..
ما بال مجتمعي اللعين يرفضها .. أوااه يا سارة ! لماذا لا تأتي السعادة كأنثى مكتملة النموّ ولو لمرة ! ؟
لماذا حين يحضر وجهها يغيبُ جسمها ، وإن حضر كل هذا غابت أطرافها ، لماذا يصر الصفو أن لا يهطل دفقةً واحدة ، يتجزأ كقبيلةٍ مشتتةٍ على تخوم دول !
لو عرفوا سارة جيداً ، لكرهوا أنفسهم قبل أن يكرهوها !

بإمكاني أن أقول لها أي شيءٍ لتصدق ، أختلقُ أي كذبةٍ لتصفق سعيـدة ، بريئةٌ حد السذاجة أحياناً !
تقول لي " فيصل أذّن العشاء صلّ " ، أخرج دقيقتين وأعود كاذباً في أداء صلاتي ، لتمطرني بوابل ثناء !
تسألني عن نفوري من مجلس والدها، وجمود علاقتي مع شقيقها ، فأختلقُ أي عذرٍ وأي حديث لتعود لها بسمتها بعد وجوم !
يخيّل لي أحياناً أنها تخدع نفسها بالتصديق فقط لتبقى سعيدة !

البارحة عدتُ من من شقة فهد ، سهرتُ طويلاً بين الأصدقاء وعدتُ متأخراً ، وجدتها متكومةً في الفراش كحلزونٍ غاضب !
كنتُ أعرف أن حديثاً ساخناً سيدور بيننا هذه اللحظة !
" مسا الخير ياحلوة " ، لم تـرد تحيتي ، كنتُ أتأملها في المرآة .. نهضت من رقدتها ، تاكئةً ظهرها حافة السرير وركبتيها تتكومان لصدرها النافر كقبتين ..
وابتسمتُ لرؤيتها ، حتى الغضب يجعل سـارة أجمل !
جلستُ بجوارها على السرير ، مررتُ يدي على شعرها فأنزلتْ يدي بحزم .. لاااا ... يبدو أن الطفلة غضبى جداً !

- كلهم حضروا إلا أنت !

اللعنة على مجلس والدها الغبيّ ، واجتماع النبلاء المتحلقين مائدة الوهم ، كنتُ أهربُ منه لثالث اسبوع !

- سارة أرجوكِ ، تحدثنا كثيراً في هذا الأمر بما يكفي !

لم يتزحزح غضبها ، كان خدها المحتقن بالدم يستند لراحة كفها ، وفي عينيها دمعةٌ تريد النزول ، كل شيءٍ يُحتملُ إلا بكاء طفلتي !

- سألوني عنك ، ومللتُ الأعذار يافيصل ، أنتَ لا تريدُ أهلي ، تحبني لكنك لا تحبهم !

أردتُ أن أقول لها يسألونكِ مجاملةً ليس إلا ، هناك في البيت الكبير لا أحد يعبأ بالمعلم ابن الحارس ، لكن دموعها ستهطل ، ودمعها زنادٌ يقتلني :

- ألم نتفق يا سارة ، أن نعزل كل هذا العالم عن عالمنا ، حتى أقرباؤنا لن ندعهم يقتربوا من حبل سعادتنا ، لا تدعي أحداً يُرخيه وقد شددناهُ بصعوبة

لم تفلح الكلمات ، انزوت عني واضطجعت لتنام ، لتبكي، أمسكتُ بقدمها الصغيرة وكانت تريدُ الخصام أن يزداد ، كانت طفلةً تبحثُ عن مشكلة لتفرغ حنقها :

- اترك قدمي ! سأنام .. قلت لك اترك قدمي

كانت قدمها تهتز في يدي كسمكةٍ تريد الإفلات ناحية الماء ، وكنتُ أمرر أصابعي على باطنها لتبتسم ، وكانت تواري ابتسامتها في جوف وسادتها ،
وطبعتُ على قدمها قبلةً لترضى ، وعادت كأرنبٍ سريع يركض ناحية الخصام :

-هـه ! ماذا سيقول " قومك " لو عرفوا أنك تقبل قدم أنثى !

هاهي الطفلة تبحثُ عن الغضب عن الجدال لتبكي ، لكن رياحها الساخنة كانت تتكسر على جبل برودي ، وطبعتُ اخرى :

- أبيع هذا العالم من أجل قدمك !

- سيرجمونك يا سيد نرجسـي

وطبعتُ ثالثةً تخبرها أني لا أبالي ..

- مجنون !

- أخباركِ قديمة يا ماما ، أنا مجنونٌ منذ تسعة أشهر !

لم تفلح في كتم رضاها ، طفلة ! تُغضبها أفعالي وأرضيها بكلمة ..
راح الليل يطوينا كعروسين جديدين ، وغلّفنا بعضنا بجسدينا، وانهمر الحب كزخات مطر ، غادرها الغضب .. رضت تماماً !
الطفلة الأجمل في هذه الدنيا بحوزتـي

* * *



الحب حالةٌ من الشعور تجعلك أحياناً تتصرفُ عكس ما تريد !
قد نُفلح في القبض على الحب و قد يفلتُ من أيدينا ، رهانٌ كثيراً ما يُربح في أوطانَ بعيدة ، وكثيراً ما يخسرُ ها هنا !
نحن لا نختار آباءنا وأشقاءنا ، نولدُ لنعرف أن هؤلاء يرتبطون بنا ..
نحن لا نختار من نحب ، تقعُ العين على الجمال كثيراً ، لكنها تسقطُ أحياناً على أحدهم فتقذفَ ماء العشق في القلب ليتخصّب حبٌ نحملهُ كجنين ..
ثم يسيّرنا الحب رغماً عنا !

لكن الصداقة كنز ، لا قوة في الدنيا تجبرك لاعتماد أحدهم صديقا ً ، أن تكون صديقي هذا يعني أن مساحاتٍ كبرى من ذاكرتي وخفاياي كتابٌ أفتحهُ لك .. برغبتي !
نادراً ما تخسرُ الصداقة ، وكثيراً ما يخسرُ الحب !
زواجي من سارة علمني كيف أكون منبوذاً ، وأخبرني بإحساس من يعيشون هناك في ملاجيء الأيتام وكيف يقاسون ،
ماذا يعني أن يكون الفردُ لقيطاً وما هوَ بلقيط ، فقط تتسكعُ في ردهات المدينة مخذولاً من عائلتك ،
تعزّي نفسك بالحب لكن تذكر زواجك وحيداً وتأسى ، وتشاهد الآخرين محبورون بعوائلهم من حولهم فيدب فيك إحساس اليُتم فجأة !

وحدهم أصدقائي من كانوا يشاركوني فرحي رغم كل شيء ، حين أتيتُ للشقة بعد غياب شعرتُ بحفل زواجي حقاً وكأني أعيشهُ بأثرٍ رجعي !
وفهد حين احتضنني كان يعتذر لغيابه عن مشهدي بحجة أنهُ قريبٌ لا يريد أن يكون في خضمّ هذه الشوشرة العائلية ، وغفرتُ له ..
وسلمان المهووس بالشعر كان يحاولُ جاهداً ارتجال بيتين ولم يفلح .. لكني شعرتُ بمحاولاته قصيدة ً عصماء كاملة !
صالح صديقي كان أشدهم تأييداً لي ، أحضر وليمةً عامرة ،سهرتُ معهم على مباركاتٍ تترى تباعاً ، ضارباً بمجلس أبو مشاري عرض الحائط للمرة اللا أعرف كم..
وعرفتُ أننا أضعف من أن نواجه الحزن لوحدنا في هذا العالم دون مشاركة ، وأن الفرحة وحيداً نوعٌ من أنواع الحزن الذي لا نعرفه إلا فيما بعد !
وأن كل شيءٍ نستطيع أن نعبر عنه بالحروف إلا خذلان الأقربون ، ذاك يستدعي أبجديةً جديدة ، أبجدية قاسية كقساوة الخذلان الذي حقنوه فينا !

في الليل وقد ذهب الصِحاب وخلا المكان إلا مني وصديق القرية القديم ، كنتُ أشعل سيجارتي وأقدم له النصيحة الأثمن :

- فهد ، تـــزوّج !

- ههههه لا ياصديقي لا ، لم أجنّ بعد !

- الزواج ليس جنوناً ، راحة و ترتيب حياة ، كل شيءٍ قبل زواجي كان فوضى !

وشعرتُ بطعم عبارتي هذه غريبة ، كأن حياتي الآن تخلو من الفوضى هه !

- الزواج لأمثالي يافيصل ، يشبه حبلاً نهايتهُ في جبل ونهايته الأخرى في قدمي ، كلكم حين تتزوجون تقدمون هذه النصيحة ..
بعد أشهر ، تبدأون تبكون أيام الحرية والراحة وتتورطون بالمسؤولية !

- هل تظن أنني الآن مربوطٌ بحبل ! ها أنا الآن أسهر معك ، لم يمنعني الزواج أن أفعل ، لكني سأعود لدفء سارة وستعود لسريرك البارد !

شعرتُ بوجه صديقي يمتعض ، يسوؤه أن أتحدث هكذا بطلاقة عن زوجتي ، أصبحتُ متحرراً من كل شيء في حين حافظ هو على تركيبته القديمة !
بقيَ وفياً لعروقه يوم اجتثيتُ عروقي..

- الرياض يا فهد لا تسمحُ بالحب ، صارمةٌ على العشاق والمتجاوزين خصوصيتها ، أنت أكثر من يعرف ذلك ..
هذه المغامرات التي تقومُ بها صدقني لا تستحق !

- هل تذكر يافيصل حديثنا في المقهى عن الصقور و التحليق الاقتناص ؟ يوم قلت لي أنكم قبيلةٌ عذرية تكتفون بالكلمات ، وأنك لست صقراً ولا ترى في الأنثى فريسة؟
حينها قلت لك ليس هناك عذريةٌ في الحب ولا شيء إلا الرغبة والمساس !

- هههه نعم أذكر ، كنتُ غبياً يا صديقي أو أتغابى ، الحب الأفلاطوني تصويبٌ دائم دون الضغط على الزناد كما يقال ،
لا حب إلا بقدح الزناد لكلا الطرفين! .. ولا تحليق لصقرٍ دون اقتناص ، صدقت ..ها أنا أعترف يا دنجوان بهزيمتي لكن ماالذي ذكّرك بهذا الحديث القديم ؟

- لأني سأعطيك حقيقةً ثانية وأرجو ياصغيري أن لا تكابر ، خذها من الآن كـ مسلمّة :
الاقتناص الدائم ، مثل التحليق المستمر ، كلاهما وجهان لعملةٍ واحدة ، وسوف تأنفُ وتفترُ يافيصل كأي متزوجٍ آخر ، وتغادرك دهشتك ..
وحينها ، سـ تود العودة للتحليق حراً لكنك لن تستطيع ، لأنك تورطت وانقضى الأمر !

عاد دنجوان ، العارف كل شيء ، لإخافتي .. حين يتحدث أشعرُ أن عشرين ابليساً يلقنونه الكلمات !

- نحن رجال يافيصل ، رجال ! أنت تعرف ماذا يريد الرجال ، أرجوك لا تحدثني عن الحب الدائم ، الحب لدينا نحن الرجال أشبه برشوة ، نقدمها لنحصل على الثمن الأهم !
حين نحصل على بغيتنا ، لدينا تركيبةٌ تعرفها وأعرفها ويعرفها كل رجل ، ينتهي حديثُ الحب ، ويبدو الكون باهتاً !
بعدها تعاودنا الرغبة ، فنعود نقرعُ باب الحب وكلمات الغزل.. قنّاصةٌ ياصاحبي مانحن إلا قناصة ، عازبنا اللعوب ومتزوّجنا المحب ، كلانا نسأم لا أحد أفضل من أحد !


الآن ، تأكدتُ أن فهد هو من يستطيع تلقين الكلام لعشرين إبليس !

في الفترة الأخيرة ، بات يومي مع سارة ينقسم للونين : ورديّ اللون ، تلك الساعات التي تسبق الوصال ، تلك الساعات التي أتحرق لاختراقها والتهامها كنعقود عنب،
وساعات ما بعد الوصل ، لونٌ شاحب ، والبيتُ يحمل ضجراً يدعو للخروج ، وأبدأ التفكير في فهد وسهرات الأصدقاء ..
لكنّ سارة أنثى ، كل ساعاتها وردية اللون ، تركيبتها تختلف تماماً عني وعن فهد وعن الرجال جميعاً ، اللعنة على دنجوان كيف يعرف !
وعاد صوتهُ منبعثاً بين دخان لفافته :

- فيصل ، أنا لا أقول لك بأن حياتي هي الأجمل ، ولا أنفي هذا الملل الذي يتسربُ في حياتي الفوضويّة وصعلكتي وحيداً،
لكني أرفض أن تأتي إلي بنصيحة الزواج لتقدمها لي كأنها الأنموذج والحياة الحلم! وكأن الملل كُتِب علينا دونكم ! كلانا يملّ لكن أصدقك القول ، مللي يخلو من المسؤولية بعكسكم !
لهذا وفّر نصيحتك الثمينة ، تسوقها أيها المتحاذق وكأني لا أفهم شيئاً وسأصدقك بسرعة .. ههه لا ، أنا فهد تذكر ذلك دوماً ياصغيري

شعرتُ أني صغيرٌ جداً بالنسبة له ، لم أعترض على هذا التقزيم ، كنتُ أنظر له منبهراً وكان يبتسم، عارفاً مدى تأثير كلماته ومبصراً لاعجابي :

- إحداهنّ أهدتني ديوان مجنون ليلى ، قالت اقرأ لتعرف كيف أحاديث العشاق يا متخلف ههه ، قرأت قصائده ولا أنكر راقتني يافيصل ،
أنت تعرفني لا أحب القراءة لكن هذا المجنون كان عظيماً ، وفكرتُ في سؤال مهم : ماذا لو تزوجها ؟! هل كان هذا الديوان بين أيدينا ؟ هو مجنونٌ بها لأنه لم يتذوقها ، الحب يقتله الوصال !
صدقني لن تجد شاعراً متزوجاً كتب ديواناً في زوجته ، لأنهم تورطوا بالملل ، كل هذه الدواويين من عشاق، أناسٌ لم يطولوا حبيباتهم لم يقتل الوصال دهشة الحب في عينيهم راحت عواطفهم تلتهبُ قوافٍ تصعد في السماء ..
دعني أحلم ياصغيري بحياة الحب والأحلام الوردية على أن أعيش التجربة لأُصدم في الواقع المأساوي !! أنا حرٌ يأبى السجن وإن كانت قضبانه من عاج الفيل وأشناف الذهب .

- فهد لماذا لا تؤلف كتاباً ؟! أو تكتب رواية ،أقسم بالله ستكتسح ! اللعنة عليك ياصاحبي من أين ألممتَ بكل هذه الرؤى في 26 عاماً !

وضجت الشقة بقهقهاته التي شَرَق بها وهو يصيح فيني :

- أخيراً أنصفتني ، كلما قلت لي أفلاطون وأرسطو كنتُ أقول : لا تضيّع وقتك معهم وأنت بجوار الفيلسوف الأهم !
أووووه يا صديقي ، دعنا من كل هذا ، ماذا عن أهل زوجتك عن أهلك حياتك ..!؟

- واهٍ يا فهد ماذا أقول ، مع سارة / الحياة أشبه بالفردوس ! رغم الملل الذي تحدثتَ عنه ورغم تبرمها من خروجي الذي باتَ سمةً لي مؤخراً ، لكن كل شيءٍ في الجوار جحيم !
أهلي مازالوا غاضبين ، والدي يافهد منذ أن طردني من بيته قبل شهر لم أعـد ، أستسقي أخبار أمي من شقيقي محمـد كمهاجرٍ في أطراف العالم لستُ معها في ذات المدينة !
أهلها لا أدري عنهم ، قُرابة الشهر لم أزرهم ولم يسألوا ! هناك يا فهد يتحدثون المال وينظرون للمال ليس للرجل ، رجالٌ مثلي ومثلك لا يساوون هناك شيئاً !
وشقيقها ! آآآه ، لولا سـارة ، لولا أخته المسكينة ، لكان لي معه تصرفٌ آخر !

يافهد ، منذ تسعة أشهر وهذا العالم لا يرعوي عن حربي ، كلما أمسكتُ خيط الراحة في يدي ترهّل وانقطع ، لأجدني في دوامة البحث عنه مجدداً !
حياتي بقعة ماءٍ طهور ، ستكون راكدةً عذبة ، لولا أحجارٌ لعينة ـ لا تكف عن السقوط فيها محدثةً دوائر هائلة !
لا أدري متى يكف هذا العالم عن استبداده فأكف عن ثورتي ، آه لو يلقي إليّ جناح السِلم فأقوم كجيفارا وأمد له غصن الزيتون ،
وآه يا حلمي الذي ناضلتُ طويلاً لأجله يا فهد ، كأنما يراه السيّاب بين أستار الغيب وأنشده : " حلمي الذي يمد لي طريق المقبرة " ،
حياتي مع سارة جنة ، خارج سارة خراب !
حنيني لأمي يمزقني ، افتقادي لصوتها مسمارٌ يدق في سقف هدوئي ،
كيف أرتاح ويتم صفوي وأمي غائبةٌ عني خلف سجوف الليل ، والصبح يأبى الإنبلاج ، أمِن أجل اسمٍ جديد أقحمتُ فيه العائلة يا فهد .. مجرد اسم ، تقومُ الدنيا ولا تهدأ !

وجاء صوته مواسياً حرارة كلماتي :

- هذا هو اختيارك ، وهذا هو مجتمعك الذي تعرفهُ أكثر مني ، هذه الرياض يافيصل تقدس الأسماء أكثر من الفرد ذاته !

- نعم ياصديقي تقدس الاسم أكثر من الفرد ، شاهدهم وقد نفوني .. اختاروا اسمهم ونفوني كمتردمٍ في بحر الإثم ،
يرددون الدين وأحاديث المساواة ولافضل الا بالتقوى ، ثم يسقطون في أول محك ! لا ثمة وجوه هنا ، كلما حولك أقنعة ، لا تبحث عن وجه في الرياض .. الزيف مخيف !
شاهد صديقنا صالح يا فهد ، نعرفه منذ عشرين سنة ، لا شيء يختلف فيه عنا ولا نختلف عنه ، ربما يفوقنا خلقاً وحياءً .. لكنه لا ينتمي لقبيلة !
دينه وخلقه وحياؤه ونبله ، كل ما سَبَق لا يشفع لصالح أن يقترب منا أو نقترب منه إلا صداقة. هو لا يحمل اسماً رناناً يا صديقي، قل معي : لعنة الله على الأسماء

- لعنة الله على تركي !

- ههههههههههه وما دخل تركي !

- ألم يقل لك " أمثالك لا يمكن أن نزوجهم لولا الظروف " ؟ كلمة أمثالك يافيصل فيها تطاولٌ علي.. أنا الفيلسوف الكبير ..
بربك، قم معي الآن لنضرب ذلك الطفل ونعود هههههه "

على ضحكاتنا الصادحة ، وعيوني الغرقى بدمع الضحك تارة والمأساة تارة ، سرى ليلي سعيداً !
وحدهُ فهد من يستطيع أن يسلّني من همومي حين تطمرني ..
وحدهُ من يملكُ قلماً سحرياً برَتهُ الصداقة الطويلة ، يرسمُ به على شفتي ابتسامة ، ثم يصعد لعيني ويعقف القلم ليزيل بممحاته دمعةً تغالبني عن السقوط ..
منذ أن كنا أبناء الخامسة ، اعتدتُ أن أراهُ قريباً كظل ، أقرب إليّ من اسمي !
وذكرتُ قريتنا صبيحة يومٍ بارد ، كنتُ أبكي بدمعٍ ساخنٍ يذيبُ صقيع خدي الصغير ، سألني فهد متدثراً في فِراءهِ المضحك ، ماذا يبكيك ..؟
وقلتُ له والدي ! لم يأخذني معه إلى الرياض ، أريد أن أرى الرياض ،
راح يحدثني عن وحوشٍ في العاصمة تأكل الصغار ، وأنهم هناك لديهم مستشفياتٌ كبيرة ،فيها حقنٌ أضخمُ من التي وخزونا بها الصيف الماضي ،
وتحسستُ كتفي وتذكرتُ رعب الدبوس المدبب ينغرسُ في جلدي ، ونضبَ ماء مقلتي .. أقلعتُ عن بكائي ..
وانطلقنا راكضين في الحقول والدروب الضيقة كأنما نتحدى ذاك البرد الذي أتذكره الآن ، الآن ونحن كبارٌ في الرياض يضمنا مجلسٌ واحد .. يمارسُ فيه فهد ذات الدور الذي ظل يمارسهُ طويلاً ، وعرفتُ أن الصداقة ثمرةٌ يتأخر نضوجها ، فإذا نضجت طاب أكلها ولم يعتورها الذبول، و دامت ماشاءت لها الأعمار !


واتجهتُ لبيت عائلتي جرياً على الأيام الخوالي ، ليس بينه وبين الشقة الا خمس دقائق ، ووجدتهُ راقداً في الظلام ، ليس أنيقاً كتلك البيوت لكنّ البرد يتكسرُ على جدرانه لا ينفذ فيه !
وأوقفتُ سيارتي في هدأة الليل أتأمل البيت القديم ، كانت الساعة الواحدة والنصف ليلاً ولستُ أعبأ باتصال سارة المتكرر ، وقلتُ لنفسي :
حتى السياراتُ تأخذ ملامح أصحابها حين تطولُ عشرتها بهم !
كنتُ أشاهدت " وانيت " والدي وأراهُ يشبهه جداً، أو أن صورتهُ تنعكسُ عليه لا أدري!
أتأملُه وأفكر :
هنا ركبتُ كثيراً ، وانطلق بي لمدرستي صغيراً ، وحملني لأيامٍ سعيدة لستُ أنساها وقد ارتكست طويلاً في دفتر الماضي ..
كان أبي يضعني في مقعده الخلفيّ الطويل راقداً، يهرعُ بي في غيهب الغسق للمستشفى لأن حرارتي ارتفعتْ فارتفع عن عينيه حمامُ النوم وأقلع بعيداً ،
وذكرتُ أمي ، وعرفتُ أنها الآن تصلي كعادتها ، وسمعتُ رغم البعد آياتٍ ترددها على سجادتها الخضراء الناحلة ،
وامتقعَ وجهي وأنا أرى بيني وبينها سورٌ لا أستطيع اجتيازه ، سورٌ داخلهُ الرحمة وخارجهُ العذاب ..
أحببتها قبل ميلادي وسأحبها في قبري ، ولا أفوزُ بقربها الآن حياً !
وتلطخ ثوبي بقطراتٍ تسقطُ تباعاً وعرفتُ أني بدأت أبكي..
لملمتُ خيباتي وزفرتُ ألمي ولم يخرج إلا صوتٌ أشبه بنحيب ،
و هب الهواء البارد وتحرك جريدُ نخلتنا المطل على الشارع ، وشعرتُ بالنخلة استيقظت من نومها وعرفتني ..
وذكرتُ قولي لسارة : النخل لا ينسى المارين على عتباته ، تركتُ نخلة بيتنا تشيعني صامتة ، استودعتها سر زيارتي ودموعَ ليلي وحنينَ كلّي ، وانطلقتُ لبيتي البعيـد بيت سارة !



هاهي غاضبةً كعادتها ، بات خروجي الكثير يزعجها وبات اسم فهد يمر على سمعها مرور الصرخة الحادة ، تتمعرُ ملامحها بمجرد أن أجيب هاتفي " هلا فهد " !
كانت الساعة الثانية ليلاً ، بدخولي هبت في وجهي كطفلةٍ صودرت لعبتها ، طفلةٌ جميلة باتت ترى آخرين يقاسمونها ذات اللعبة التي تتملكها :

- لماذا جئت،؟ أليس النوم هناك أفضل !

تريدُ أن تبكي ، تريدُ أن أصرخ فيها لأبكي ، تريدُ خلق أي حديثٍ ساخن لتبكي ، لكنّي بتّ أعرفها أكثر مما تعرفُ نفسها !

- من قال لكِ أني جئتُ لأنام !

وعاد صوتها المتترسُ بالغضب :

- ماذا تريد إذن ؟! عُـد إلى فهد وأكمل السهرة مع أصدقائك .. أنتَ لا تهتمّ لأمر وحدتي وبقائي هنا كسجينة !

يا للطفلة المدللة ، منذ أن كانت رضيعةً ودلال أبويها يمطرها ، كل هذه التهم لأني تركتها بضع ساعات !

- حسناً سأخبرك ماذا أريد ، لكن إياكِ أن يصعد الدم إلى خديك وتخجلي !

أشاحت وجهها يساراً ، تواري ابتسامةً أراها وإن اختبأت ، ودارت دوالب الليل بنا ، وعاد الحب يطوينا ونطويه كسفينةٍ تمخر بحراً ، نتلمظ الغرام بطعم الشهد ..
ودقت الثالثة فجراً وقد نامت سمراي فوق صدري كعصفورٍ أليفٍ مُتعب ، كأنما لم تغضب قط ..
وتأملتها نائمةً وقلتُ ليت للمجتمع غضب الأطفال !
وليت لوالدي وقبيلتي ومدينتي غضب الأطفال ، يهطلُ سريعاً وينقطعُ سريعاً ، وليت الكلماتُ تفعلُ في مدينتي الغاضبة ما تفعلُ الكلمات للأطفال !
كانت سارة تنامُ سعيدةً وتركتْ لي طعم السهـر .. ورأيتُها طفلةً صغيرة ً بين أحضاني .. وسألتُ نفسي ماذا ينتظرني ..
صاح التفاؤل في أعماقي : كل ما مضى كان الأصعب ، نم قريراً !
وهتف التشاؤم بصوته الأشبه بنفخة صور : ما مضى ليس شيئاً ، القادمُ أسوأ !
وبين الصوتين أغمضتُ عيني ، وسؤالي كالقارعة يضج في صدري :
أين تبحر بنا الأقدار يا طفلتـي !




36



الحب يغذيه الاشتياق ..نادراً ما يُمطر في أيام صحو ، يأتي رتيباً، يحتاجُ ركاماً وعكارةً في الجو ليهطُل أغزر ..
الحب كائنٌ يجوعُ للحزن فيضمُر !
حين نبكي على البعد من نهوى ، يستبد بنا الحنين والالتياع ، البعدُ ماءٌ يُسقي أشجار الحب فتعلو ، يتضخّم ككرة الثلج المتدحرجة !
هذا الحب رجلٌ يكبر مع أوجاعنا ويقتات على أقدارنا السيئة !
..لا يفعل ذلك حين تضحك لنا الأيام وتجمعنا بمن نحب !

يتسامقُ للعُلا حد التعملق حين يلفحنا الحرمان ويضنينا الغياب ، فإذا ضحكت لنا الأقدار ، واندمجنا مع من نحب تحت سقفٍ وحيـد..
ينخلع عنا تاركاً لنا ما يكفي لنعيش به/عليه ، ويذهبَ نحو أشقياء محزونين ، كشحت الدنيا بوجهها الغاضب في وجوههم واعترضت طريقهم ،
تلك بيئته الخصبة ، ينمو بينهم هناك ويترعرع ، يغذيه الجوى واللهفة وبكائيات الحنين ! فإذا ضحكت لهم الأقدار وتم لهم عهدُ الصفو ذاب وسافر مرتحلاً لآخرين ..

غياب أحبائنا عن أعيننا ، هذا يخلدهم في كتاب مشاعرنا كأساطيـر ، يجعلنا نحلق بهم بعيداً في السماوات ..
لكنّ الالتصاق، القرب الدائم ، الاندماج مع معشوقك ووجوده دوماً على حد النظر .. هذا لا يقتل الحب ..
.. لكن يجعلهُ جنيناً ثابت الحجم في رحم حياتك ، تاركاً لعبة النمو !

هذا ما أعرفهُ الآن جيداً كما أعرفُ اسمي ، بل كما أعرف الحزن في ملامحـي !


عاطفتي تجاه سارة، وطوال عامٍ كامل ، كانت أشبهَ بقطارٍ مندفع ، يحطم كل شيءٍ أمامه ولا يعرف التوقف ، طوفانٌ خرج عن السيطرة !
قطارٌ أهوج ، قائده أهوج ، والوجهة لا وِجهة ، كل ما تجددت به الأيام كان يضاعف سرعته ، وصل لانطلاقته القصوى منذ ثلاثة أشهر حين تزوجنا ..
ولأول مرة .. منذ سنة .. يكف هذا القطار الآن عن زيادة سرعته ، لم يُسرِع أكثر ولم يبطيء مشيته ، فقط يمضي بذات السرعة والوتيرة ..
وسارة لا تعرف أن الحب والقمر ، اثنان لا يؤمنان بمستقر ، إن لم يزدد نموّها عادا في التقلص ..


قبل زواجنا ، كنتُ أحبها بجنون ، شيءٌ في داخلي يقول إما الممات وإما سارة ، تباً لكل هذه الحياة إن خلت من صوتها من عينيها من اسمها ،
عندما أفتح كتاباً ، كنت أقرأ صوتها في كل سطر ، عندما أخط بقلمي ، أجدني أرسم اسمها دون وعي ..
أنظر للناس فأرى طيفها يعبر في بصري كقاطع طريق !


الآن، أحبها، ومازلت أفعل .. لكنّ شيئاً من العقل أدركني !
هذا الوصل المستمر ، يعلم الجنون أن يتراجع ..ويهمسُ في أذن الشوق آمراً بالسكينة ،
ماعدتُ ذاك الطافح بهيامها كل لحظة ، باتت قريبةً مني ، شجرةٌ يانعة ، قطوفها دانية ، كلما اشتهيتُ ثمرتها أدركتُها دون عناء !

هذا القطار المتسارع في حبها لم يتوقف ، لكنّ عينا قائدهِ باتت تلتفتُ إلى الخلف، صوب الغائبين هناك ، في الضفة الأخرى من المدينة :
أمي والدي عائلتي وحاملي سحنات وجهي !
اللعنة على قلبي الشقي ، وعقلي الشقي ، وحظي الشقي ، كل مافيني يكفرُ بالراحة ويتخذ التعاسة مسلكاً !
حين كنتُ محاطاً بأسرتي ارتحلتُ بحثاً عن سارة ،
وأنامُ بجوار سارة الآن، ويسألني كل شيءٍ فيّ عن بيتنا القديم وأيامنا القديمة وذكرياتي الغابرة !
واللعنة على هذا الحب الذي لا يبحث إلا عن الغائبين ..
.. يقتاتُ على الحزن ويقتلهُ الفرح !


خروجي للشقة والسمر مع فهد بات عادةً في الليالي الأخيرة ، وشرودي الطويل ما عاد سراً ، سرحاني بات ملمحاً من ضمن ملامحي !
وحين أعود لطفلتي الغضبى ، كنتُ أنام أحياناً دون حتى تطييب خاطرها .. فهل بتّ أجازيها بتصرفات أهلها ؟! ياللمسكينة ..
كانت تلح أن أذهب لمجلس والدها ..ودب الخصامُ في غرفتنا مساء اليوم ، وتركتها تبكي أمام خصاص النافذة دون عزاء :

- ليس عدلاً أن تقارن أهلي بأهلك ، عائلتك لا تريدني .. وعائلتي استقبلتك يافيصل ليس عدلا ً !

كنتُ أستمعُ لإلحاحها بملل ..
نعم ليس عدلاً أن أقارن والدي الطيب بوالدك المتورم كِبراً، أبي الذي ينداحُ من صوتهِ عطفٌ أشبه بدعوات ناسكٍ في طهر الليل الأخير !
ولا أمي بأمكِ التي لم تسألني حتى الآن إن كانت لي والدةٌ على قيد الحياة أم لا..
مقارنتكِ مضحكة واسألي السماء التي تستمد صفاءها من وجه أمي، واسألي النسمة التي ليست أرق من نبرتها حين تحكي..
واسألي الطيبة المتبتلة في محرابها ، كل خيرٍ في هذا الوجود يخبرك عنها!


حين أوقفتُ سيارتي أمام بيت أبو مشاري ترجلتُ للسلام عليه نزولاً عند رغبة سارة ..
صافحتهُ بحرارةٍ مصطنعة كالتي يصطنعها الآن أمام ابنته ، كنا ممثلين بارعين أمام هذه السمراء التي تنقل بصرها بيننا سعيدة ، قبلتُ رأسه الكبير بالوهم !
وحفاوة الأغنياء تسألني :

- لماذا لم نعد نراك كثيراً ؟!

شعرتُ بسؤاله ينطلقُ من طرف عينه المتعجرفة، لم يحدثني بلسانه ، كان يتأملني باحتقار !

- أشغال ، أخذتني أشغالي الكثيرة يا أبومشاري وبإذن اللـ..

- و .. ما هي أشغالك !

هكذا، بنبرته التي تسحقني كل مرة ، نبرته الغليظة التي تصب في أذني كبُرادة زجاج، يلتف المشلح الأسود على ساعده ويلقي أسئلته كما لو كان يتندر ..
شعرتُ بهِ هازئاً .. عينيه ونبرته وبسمتهُ الشامتة كانت ترمي السؤال هكذا : وما هي أشغال أبناء حراس المدارس ياترى هه !

حاصرتُ غضبي ولا أدري بماذا تمتمتُ من عبارات الاعتذار وانصرفتُ ألعن هذا البيت ومن فيه ..
وتقولين ليس عدلاً ياسارة .. نعم ليس عدلا ً أبداً !

* * *



هذا التعب الذي يتكدس في كل ذرةٍ من ذرات جسمي بات ينهكني ، محاربٌ شجاعٌ أنا .. لكن دب الضعفُ فيني من حيث أدري ولا أدري ،
نابليون كان يستريح من حروبه .. بين كل معركةٍ وأخرى يترك لجيشه فرصة التقاط الأنفاس .. أراحهم في " فتبسك " طويلاً قبل حرب موسكو !
لكن نابليون العاصمة لم يهدأ عن الكر و الفر منذ سنـة ! كل ما خرج من معركةٍ لعنتهُ أختها ..
والحروب رغم الانتصارات لا تخلو من خسائر فادحة !

أثخنتني جراحي مخضماً بالمسك الأحمر ينزف من عروقي..وأشعر بجسدي لا شبر فيه يخلو من ركزة رمح، ونصلٍ غادر ولهيب رصاصة .. بدأتُ أقف بصعوبة !
وحدتي أقوى من أن تملأها طفلتي ! وأكبر من أن تغطيها حبيبة ، وأسودَ من بياض قلبي وقلبها ..
لكني ذئبٌ ياوالدي .. والذئاب لا تتألمُ إلا في العزلة .. لا تترك لأحدٍ فرصة مشاركتها الوجع ، أغمضتُ عيني على القذى وحبستُ صوت الأذى يا أبي!
كنتَ تقول لي في القرية طفلاً أروح وأغدو : "يا ذيب " ، نادراً ما كنت تقول فيصل !
وتراني منبثقاً من زحمة الأطفال مقبلاً عليك بين الرجال فتسألني بينهم مفتخراً : من أنت ... فأجيبك : " ولدك ، الذيب فيصل ! "
رأيتني مرةً أبكي ،وسألتَ ذئبك الصغير ماذا يبكيه .. وأخبركَ بأن فهد وعائلته سيذهبون غداً للرياض، سيتركون قريتنا يا أبي ..
طوقتني يدك القوية في ذلك الصبح الشاتي، ومضيت بي غاضباً ناحية أمي وشقيقاتي، ورفعت سبابتك في وجه دموعي :

- البكاء لهنّ .. الرجال لا يبكون !

بثوبي المتسخ كنتُ أطرد الدمع عن ساحة خدي ، وتمثلتها كعقيدةٍ من ساعتئذ ، وأمسكتُ زمام وصيّتك ولم أفلتها طويلاً..
الآن .. الآن يا أبي ، ترقد سارة بجواري ، والثالثة فجراً لم أنم ،
أضعتُ وصيتك كما أضعت أشياء كثيرة ، وبدأت أسفح دمعاً من خلائقه الكبرُ !
يا للذئب المفترس الذي عاد طفلاً !
رغم غضبك ، رغم صفعاتك ، رغم طردك لي كمجرم ، هل تعلم الآن يا نائماً في البعيد، أني اشمأزيتُ من حبيبتي يومَ فكرتْ في مقارنتك بأبيها..!
شعرتُ أنك أكبر أسمى أقدس أطهر ، فلماذا حين صار الحلم في يدي خيّرتني بين عينٍ وعين .. وأنت تعلمُ أن الخيار يلوحُ كسيفٍ باتر !
ولماذا حين انتصر الذئب غاب تشجيعك وحضر غضبك .. أنت من علمني أن الذئاب يجب أن تكون قويةً دائماً وأن البكاء كبيرةٌ في خدود الرجال
أنتَ من علمني أن الدمع ينبتُ في العيون كخطيئة وأن الاستسلام إثـم..
لماذا خسرتكم يوم كسبتُ الحب .. ولماذا لن أعود لكسبكم إلا حين أخسر حلمي .. لماذا في هذه المدينة لا يكون الكسبُ كاملاً كالخسارة ..
ولماذا يا أبي باتت الأسماءُ أغلى ها هنا من حامليها !!

* * *



النساء يزددنَ مع الحب حباً ! كلما شدنا الزواج ناحية الفتور ، تسامى بهنّ صوب السعادة أكثر..
نحن الرجال أضعفَ منهن في مواجهة الرتابة والملل .. يهزمنهُ بقوةٍ لا تتوائم مع ضعفهنّ، ويهزمُنا بسهولةٍ لا تتلائم مع صلابتنا.
نعم ، صدق امبروس بيروس: هذا الحب جنونٌ مؤقت ، علاجه الزواج ! عرفَ ذلك لأنهُ رجل ..
ولم تعرف ذلكَ فيرجينا وولف لأنها أنثى : هناك صداقة وهناك حب ، وهناك مؤسسةٌ تجمع الأمرين تُدعى الزواج !
قلتيها يا فيرجينا ، وانتهت حياتكِ انتحاراً ، اكتئبتي للحد الذي كدستِ جسدكِ بالحجارة كي لا تطفو جثتك على البحيرة، يوم هربتِ للموت غرقاً !

وسـارة قيثارةٌ لا تهدأ عن عزف الحـب ، لا يعلو أوتارها غبار الفتور !
تمطرني بوابل عباراتها المشحونة بالعاطفة تماماً كما عرفتني أول مرة .. وتريدني تماماً كما ذاقتني أول مرة ..
لم يتغيّر في الأمر شيء ، قبل الزواج وبعده .. هي سارة التي أحبتني بكل جوارحها .. لم يتبق في قلبها و عقلها حيّزاَ إلا سكنته !
تلتهم الحلوى دون ملل .. لا تسأم ثرثرة الغزل ،
حتى وأنا أرتمي في فراشي خادراً متعرقاً كانت رغم صوتها المتعب والراقد في اللذة تصر أن أحدثها بما تريد :
جمالها شيطنتها إغوائها .. " تكلم يا فيصل "، لا تكف عن سماع ماحفظتهُ عن ظهر قلب !

أحبها وأعلمُ أني أحبها ، ومازلتُ أحبها ، لكنها لا تعلمُ أن الرجال يحتاجون مساحةً من البعد تُبقيهم جيدين ولائقين حين يريدون مشاركة الفتيات حديث العاطفة ،
غيرتها بدأت تحاصرني كسجان يضيّق حريتي ، كلما عُدت : من أين أتيت ولماذا تأخرت !
تغرقُ في البكاء حين أغرق في سهرتي سامراً مع فهد ..
تغضب بسرعة ، أيضاً ترضى بسرعة ، لكني بدأتُ أتحلل من تدليلها رويداً رويداً ، لم أعد أولي غضبها كل عنايتي .. بات من المعتاد بعض الشيء أن تنام غضبى !
ليتها تعرفُ أن للرجال طقوسهم مع هذا الحب ، يقتلهم البعد لكن يحيي أشواقهم ، تماماً كما تفتر أشواقهم حين يغيب الغياب !


حين أكتب قصةً أو مقال .. حتى وقتي مع الكتابة يقتلها ويشعرها بالغيرة !
طفلةٌ تشربتِ الدلال ، وعوّدها والدها الثريّ امتلاك ما تريـد ، وتريد امتلاكي ، تماماً كأي لعبةٍ لا تريد أن تتركها !
حنقها أحال أفكاري هذا المساء الى الشتات ، رميتُ الورقة والقلم وصحت فيها :

- ماذا تريدين .. ساعة ولم أستطع كتابة ما يستحق ! ملامحك المحتقنة وتمتماتك تشتتني ماذا بك؟!

و هطلَ صوتها يواري سَورة الغضب :

- تعود من المدرسة متعباً ، تنام ثم تخرج لرفاقك .. وقتي معك يتقلص .. والآن في غرفتي تتركني للكتابة!

ليس ذا وقتُ الكتابة ! الكتابة تحتاجُ عزلةً لا تؤمنُ بها هذه الطفلة السمراء ..
وذكرتُ ورقةً أعطتينها زهرة مدبرة البيت يوم عدت ظهراً ، تمتليء بحاجات البيت الصغير والفتاة المدللة :

- حسنا..هل تريدين الخروج معي للتبضع ؟

وحلق غضبها بعيداً كأسراب حمام ، وارتفعت نبرتها الحادة وعاد صوتها هديلاً .. قفزت ترتدي ملابسها تسبقني للخروج ..تغضب بسرعة رضاها !


تتعضد يدي في السوق كأننا عاشقين مازالا بريئين لم يلوّثا حبهما بالوصل كل ليلة !
عباءتها الفوضوية ، عيونها الفاتنة ، شبابي الأنيق كل هذا يميّزنا عن كل المبتضعين الجامدين .. لا أدري لماذا التجهم سمة سكان هذه المدينة !
يتركون الصمت عنواناً لهيئتهم ، تجمدُ أفواههم عن النطق وشفاههم عن ارتكاب الابتسام ، يتركون لعيونهم الثرثرة !
عيونُهم ترمقنا اختلاساً .. وأردتُ أن أقول لهم " زوجتي ! هل تفهمون ! " لكني تركتهم، وغرقتُ في الصمت الذي يجمعنا كبصمةٍ مميزة ، تخبرنا أننا كلنا هنا ذوو قربى !


صدفةٌ خير من ألف ميعاد ، لكن بعض الصدفِ شرٌ من ألف جيش !
لا أدري لماذا أقداري سيئةٌ للحد الذي تجعل من المعارك في حياتي شيئاً كانهمار مطر ، يصب دفعةً واحدةً بلا توقف !
رأيتهُ من بعيد .. وانقبض قلبي كخبرٍ مفجع ، واشتممتُ رائحة خوفي تتصاعدُ من مساماتي الطافحة الآن عرقاً !
قبضتُ يد سارة، وتركتُ العربة للمكان ، وانطلقتُ للخروج ، " فيصل ماذا بك " ولم أرد ..
كنت أتوقف في كل دهليز، أختلس النظر كسارق ثم أعبر .. لكن لا محيـص ،
يبدو أن يوم نحسي في أوج عزه !


ها أنا .. أقفُ وسارة المتلثمة بعباءةٍ ليست من أعرافنا ، وجهاً لوجه .. مع شقيقي خالد !
صدفةٌ أحضرتهُ ها هنا لتعلمني طعم النحس .. صدفةٌ أخرجتني في التوقيت الذي خرج فيه لتجمعنا كفتنةٍ أشد من قتل !
حاولتُ الهروب وتفاديه .. وعادت الصدفةُ ترميني في طريقه حتى اقتنتعتُ أن كل شيءٍ في هذه الأرض ضدي !

وقفنا كخصمين كانت تجمعهما قبل العداوةِ عروةٌ وثقى ، ودارت أيامنا تترددُ في المساحة القصيرة بيني وبينه !
تبادلنا النظرات الجديدة والقديمة .. كان يمسك ابنه مشعل في يده وكنت أمسك السمراء المغضوب عليها في يدي !

كنتُ واقفاً كأي رجلٍ أنهكهُ الوقوف الطويل ، أنفاسي تخبر الرائين أني متعبٌ للحد الذي أغالب السقوط ، كان سقوطي لحوحاً كنبي ٍ يستميتُ في الإقناع !
وأخي منتصبٌ كسبابةٍ تتوعد.. نعم خالد ، الفتى الذي علمني القيادة قبل ثلاث عشرة سنة ..
كنتُ كلما انطفأت المركبة لبلاهتي وجهلي أتوتر ، ويخبرني " لا عليك لا عليك كلنا بدأنا هكذا " ، ودرستُها معه حتى حذقتها ، وجئتُ هنا !

خالد .. رجلٌ غاضب في الخامسة والثلاثين من العمر ، كان قبل عشر سنوات يسمعني قصائده أول ماذاع صيته في قبيلتنا ..
على رقصات النار في جسد الحطب كنتُ أشيد بما أسمع ليدب الرقص في عينيه بريقاً .. الآن ترقصُ في عينيه نارٌ أسمع فرقعة ألسنتها تماماً كذاك المساء القديم !

خالد .. يوم كنا في عمرة رمضان وأنا ابن التاسعة ، وتدافع الناس وارتج المكان وضاق بمن فيه كيوم قيامة ..
رفعني على كتفهِ كرضيع يوم بكيتُ وأنا أشتم الموت في ذاك الزحام !

يقفُ أمامي الآن ، ليس أخي القديم ، رجلٌ غاضب .. عينيه تحملقان فيني كما لو كانتا تريدان القفز وضربي ثم العودة لمكانهما ،
وعرفني مشعل وانطلق مسلماً في حبور ..
ورأس مشعل الصغير يتلقى صفعةً من والده تخبرهُ بالتراجع ، وتخبرني أني ما عدتُ قريباً !

تخطانا ، بصق على الأرض ساخطاً وتخطانا ، كانت بصقته على الأرض وشعرتُ بها تلطخ وجهي .. تخطاني كأي رجلٍ آخر .. لا يعرفه ولم تجمعهُ بهِ الأيام يوماً !
تخطاني كما لو لم أكن في يومٍ شقيقاً .. وتركني مع وجومي حتى أفقت ، وسحبتُ سارة للخارج ، أسحبها خلفي كحملٍ عرفتُ الآن أنه ثقيلٌ حقاً ..
"من هو تكلم من ؟! "، وببرود أجبتها:
" خالد، أخي خالد ، هذا الذي رأيتيه وبصق عليّ اسمه خالد ،شقيقي الكبير "

ألقيتُ جملتي الغبية كإعتراف ، إقرارٌ مزفوف بنبرةٍ بلهاء ، سئمتُ تجميل الصور القبيحة في هذا البلـد!
وتركتُ للدمع عينيها الجميلة ، وسخطها يرتطم بوجهي ولا إجابة :

- لا يريدني .. كوالدك ، كشقيقاتك ، كلهم لا يريدونني .. يأنفون مني

ماعدتُ قادراً على العزاء ، أصبحتُ أبلهاً سأِم الربت على الكتوف :

- أتعلمين لماذا شقيقاتي وأمي لا يهاتفونك ؟ والدي حلف عليهم أن يقاطعوكِ ويقاطعوني .. ها مارأيك ؟!

قلتها ببرود .. برود من أعيته المعارك والحروب ، وتركتها للنحيب والدمع الغزير ..
نزلَتْ إلى البيت وأغلقت الباب بقوة ، وضحكتُ منها ومن بلاهة اعترافاتي ..
وضحكتُ من مشعل وهو ينظر لوالده بعد الصفعة المفاجأة ، ضحكتُ حتى من البصقة التي لوّثت حذائي ، وتأملتُ هاتفي وأعلم أن صمته لن يُكسـر !


قديماً يا خالد ، كنت توبخني ، وتضربني ، لكن اعتذارك لم يكن ليتأخر !
تأتي على الفور محمّلاً بالندم قبل الهديّة ، تجيد إرضائي تماماً كما تجيد إثارة سخطي ..
وتجيدُ اجباري على حبك بقدر ماكنت تجبرني على كرهك ! وهذا الهاتف اللعين لن يحمل رقمك الآن ياخالـد ..

قبل عقدين من الزمن ، كنت تلعبُ مع أقرانك أمام بيتنا في تلك القرية المنسيّة ، وكنتُ طفلاً أرصد باب بيتنا كحارس ، وطاشت كرتكم وارتطمت بوجهي ..
سقطتُ من درج البيت متدحرجاً كالكرة تماماً .. وانحبس نفسي دقيقةٌ كنت أشهق فيها ببكائي الحاد ،
حملتني لأم فوّاز ، وفرشتَ بصري على البساكيت والحلوى التي تبيعُها .. وبت أتبوأ من بسطتها ما أشاء
لكنك الآن لن تتصل !

وحين أيقظتك من نومك صبح خميسٍ بارد ، كان صوتي الصادح يطرق سمعك في فراشك حتى أضجرك ، خرجتَ مسعوراً ،
وحملتَ حذاءً لعيناً لطمتهُ في فخذي الصغير أربع مراتٍ لعينة ..
عدتَ لنومك تسبقك لعناتي ، واستيقظتَ وخرجتَ لرفاقك تشيّعك نظراتي الحاقدة ، وددتُ حينها لو كنتُ كبيراً بما يكفي لأرد لك الصفعات المؤلمة ..
أتيتَ مساءً تحمل قفصاً فيه أنثى أرنب ، بطنها يمتليء بصغارٍ على وشك خروج ، وفرحتُ بها وشكرتك .. وأحببتك بسرعة كرهك ، وتكاثرت الأرانب في حديقتنا الصغيرة ..
ذاك وقتٌ زلّ ... يوم كنا أشقاء جيدين .. ماتت أم فواز وماتت الأرانب الصغيرة وماتت أمهم وماتت تلك الأيام ومات ذلك البيت ولن تتصل ..

لن تبحث عني تطلب صفحاً كما كنتَ تفعل .. جدارٌ شُرِخ وصدعٌ دب فيما بيننا .. وانقسمنا وكنا نسيجاً واحداً ، مزقتنا الأسماء ياخالد !


سأصعدُ الآن لطفلتي الغضبي ياشقيقي ، وسأكذب عليها وعليّ وأن الأمر سيمر بخير ، وسأنام متفائلاً لأصحو كما اعتدتُ على خيبةٍ جديدةٍ تنتظرني ..
وصدفة لعينة تقرع بابي أو تلجُ بلا استئذان.. تماماً كصدفة انشقاق الأرض عنك في ذلك السوق اللعين .
من أنا ؟ لا أدري .. أنا الذي ترك الجهات الأربع واختار الضياع ..
ابحثوا عن الضياع ، وإذا وجدتموه ، هناك ستجدوني .. أسكنُ في الضياع وحدي، بعيداً عنـكـم وعن صوت أمـي !

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  07-06-2011 09:28 مساءً   [94]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 02-08-2007
رقم العضوية : 122
المشاركات : 10,275
الجنس :
قوة السمعة : 859,151,242
مليح اني خلصتها

:nAshOomA (21):
توقيع :JOKER
<embed src="http://jo1r.l7njo.com//uploads/files/JO1R.COM-e4f8527b7c.swf" WIDTH=550 HEIGHT=210 quality="high" loop="false" menu="false" TYPE="application/x-shockwave-flash" AllowScriptAccess="never" nojava="true"></embed>

<embed src="http://jo1r.l7njo.com//uploads/files/JO1R.COM-e1a226ae41.swf" WIDTH=500 HEIGHT=300 quality="high" loop="false" menu="false" TYPE="application/x-shockwave-flash" AllowScriptAccess="never" nojava="true"></embed>

<embed src="http://download.mrkzy.com/e/1711_md_13056507996.swf" WIDTH=450 HEIGHT=223 quality="high" loop="false" menu="false" TYPE="application/x-shockwave-flash" AllowScriptAccess="never" nojava="true"></embed>

توقيع خرافي من ايد اخرف


hug014

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  10-06-2011 12:06 صباحاً   [95]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 05-08-2008
رقم العضوية : 12,196
المشاركات : 2,877
الجنس :
قوة السمعة : 859,003,115
37

".........................................
.................... وخرجت من عندهِ على غير هدى ، كان الليل مخيفاً ، أسيرُ شريداً في الشوارع .. ليس معي إلا سجائري أنفث معها أحزاني لعلي أستريح .
كان الليل يشتل فيني أشجار الهم والقلق والخوف .. مضغني الحزن وابتلعني ياسارة ، كل المارّين كانوا يرَون في وجهي عذاباً يُستعاذ منه !
كيف سأعود لأيامي القديمة : شاباً بأحلام طبيعية ؟، كيف أنسى؟ .. أنتِ مثل اسمي ، أحتاجُ موتَ ذاكرتي لأنساه !
كنتُ فتىً لا يعبأ بما يدور حوله ، من أوهمني أني القادر على التغيير وأني جيفارا الثائر على كل شيء ؟! من ورطني في مجابهة واقع المدينة التعيس ؟!
دخلتِ حياتي كقوةٍ جبارة ، واجهتُ بكِ كل شيء ، خضتُ بكِ حروباً لا تطيقها بداية عشريناتي ، وعدتُ بوجهٍ يحملُ سمرة الحزن وتغضّن السبعين !
جئنا كـ ومضة ، وعشنا كـ حلم ، والآن ، معلقين كـ لغزٍ سرمديّ .. ياسارة " !

* * *



((بعد ثلاثة أشهـر))

:
:


" هذا الليل ياسارة ، ديكتاتورٌ معتدي ، يحتل كل يومي وينتهك حتى ساعاتِ نهاري ، يزور العالمين حين تغيب الشمس .. ويسكنني وحدي حتى في حضورها !
هذا الظلام من حولي فمٌ كبير ، يجوع لكل شيءٍ حين يحضر .. تروحُ الأشياء ساقطةً تباعاً في بطنه .. وأنا الآن من جوف الظلمات أكتب لك :
ظلمة الليل وظلمة غربتي وظلمتكِ أنتِ !


في بداية زواجنا كنتُ طفلاً للتوّ تعلم لعبة الكلام ، أو أبكماً خَرسَ لسانهُ عمراً طويلاً ثم أنطقه الله حين صدمة ، صدمة حضورك الطاغي !
لو سألتِ كل من يعرفني لقالوا لكِ أني منذ صغري ولي مع النطقِ علاقةٌ فاترة ، أجنح للصمت ماوسعني .. وأعتزلُ في محراب عزلتي كمتبتل ..
وحين اجتمعنا ..حين ضمتنا غرفتنا كمعتقلٍ للحب ، تفتق فمي عن أبجديةٍ لا تنقضي .. وقطفتُ لكِ من ثمار الحديث أطايبه،
وغزلتُ لكِ ما تراكم في عقلي طويلاً وجمعتهُ من بين دفات الكتب !
كنتُ أستمع لك كطفل ، وبفرحٍ لحوح كنتُ أجيد المقاطعة كثيراً ، وأسرق الحديث من لسانك وأنطلقُ به صوب قريتي ذكرياتي طفولتي أحلامي.. وكنتِ تصغين !


إصغاؤك كان يشبه أرضاً عطشى للمطر .. وكنت أتصاعد في سمائكِ غيمةً من حديث ، وبرقاً من عشق ، ورعداً من رغبة ، وأهطل كل الليل سعيداً ..
أتحدث ، فأرى في عينيك جمهوراً عريضاً من لهفة ، وحشداً من بريق المتعة يتكدس فيها .. وأتسامى في أدائي يؤزني إعجابك أزا ، ويحفظني من فوقي وتحتي ..
وتتحدثين ،فأشتم رائحة الموسيقى في حروفك ، ويطل الصبح من شرفتنا فلا أبالي ، وننام بعد أن أنهكنا لذة الكلام !


هل تذكرين صمتي حين بدأ يُطلّ ضيفاً ثقيلاً ؟! وأصبحتِ على مسرح الحديث بطلةً وحيدة، وكنتُ جمهوراً فتر حماسه !
هل تذكرين ملامح سعادتي الغامرة حين أخذت في التقلص، و بدأت تلكمها يدُ التعاسة ؟
كنتُ قوياً بكِ واستمد منكِ طاقةً أتقوى بها على عضلات زمني المفتولة ، حتى طالني الأذى ووهنَت قوتي..
وكنتِ طفلةً لستِ تعلمين بما يعتملُ في بالي ويشغلني ،
أعود إليكِ حزيناً ، فتطلبين ذات الرجل الذي كان في أول أيام زواجه ..عروسٌ لا تسأمين الحب وحديث العشق ، وأنا لستُ آلةً يا سارة ، أكنتِ حقاً تجهلين ؟!


هل تذكرين موقف شقيقي خالد في ذلك السوق ، وإجاباتي الباردة كبرودة ذلك اليوم الزمهرير ؟
كان ذاك اللقاء العاصف فضيحةً لسرحاني الطويل ، وعرفتِ أخيراً ما بات يشغلني .. واقتنعتِ بأني أعيش في موجٍ متلاطم ،
كنت أوهمُ نفسي طويلاً أني على ضفة البحر وصلتُ بسلام ، وأني كسبتُكِ للأبد ، رُفِعت الآلام وجف التعب ، كانت نرجسيتي تصفني ببطلٍ اِجتاز أهوال الغرق ،
لكني عرفتُ بعد مغادرة اللذة ،ودهشة الوصال ، بعد أن أفقتُ من خمرة جسدك ، أنني في عاصمةٍ موجها لا يعرف الركود .. تموج وليس فيها قطرةٌ من بحـر.. ياسارة !


هل تذكرين ؟ بعد حادثة السوق بليلتين ؟!
كنتِ أخيراً تلوذين بالصمتِ في حضوري لأول مرة ، لم يعد يعصف بكِ الحماس حين أعود إليكِ ، وكنتُ أشعر بالبرد في الغرفة جراء دمعك الهاطل مثل سيل شتاء ..
تنشغلين بالتلفاز وأحاديث الهاتف وتتركيني بين إطباقي و أوراقي ..
وكنتُ أختلس النظرات لسكوتك ، وأراكِ ساهمةً تصعدين بعينيك ماوراء النافذة ،كأنكِ تنظرين لعاصمتنا الكبيرة ، وسمعتُ سؤالكِ للرياض : أين نمضي يا مدينتي ؟!
وعرفتُ أنكِ طفلةٌ شبّت فجأة، وصارت فتاةً لا يخدعها الوهـم !
أدرككِ شيءٌ من العقل الذي أدركني ، أخيراً عرفتِ أن هذا الحب يرزحُ تحت الحصار .. وأن مقاومتنا وإن طالت .. ضعيفة !
بتنا نتعاطى الحب بجرعاتٍ أقل ، وتراجعت أسهم متعتنا رغم سعينا الحثيث لفصل واقعنا عن واقع المدينة الصاخب ..ونخدع بعضنا : " المهم نحنُ معاً "
و "نحنُ معاً " جملةٌ غبيّة .. لا تنفع في عاصمة الصحراء .. وصدّقنا كذبتنا وحاولنا ..
ونجحنا مرات وفشلنا كثيراً ، كان الخصام يزداد كأننا جنديين في ذات الجبهة ، نحارب عدواً واحداً وندافع عن وطن ، لكنّ دويّ القصف يفقدنا أعصابنا وننام كثيراً بغضب !
واستفحل التفكيرُ في جنبات عقولنا.. وندعي أننا لسنا نفعل .. وانخفض منسوب ماء سعادتنا ..
لأن الحب بجنون ليس كالحب بعقل يا سمرائي !


يومها شهق الهاتف بصوت محمد ، كان يحادثني بخوفٍ لستُ أنساه ، يخبرني بأن أبي ينام في المستشفى مريضاً ، ودب الرعب في قلبي ..
وحاولتِ مواساتي ياسارة ونهرتكِ بغضب ، أكنتُ أحاسبكِ ولستُ أدري ؟
تركتكِ دامعةً في السرير ولم أواسيكِ ..يالقسوتي !
وانطلقتُ أشق طرقات المدينة ، وجملة أخي ترن في أذني كجرس " تعال واطلب منه الصفح ، الأعمار في يد الله يافيصل من يدري "
وباتت سرعتي تلتهم الأرض تحتي ، وخشيتُ أن يكون الوقـت فات !

عندما ننتهي أو نشعر أننا على حافة النهاية ، هنا ، ندفع ضريبة الذاكرة يا سارة !
أليس غريباً أن تكون الذكريات سعيدة ، وتستحضريها وقت الحزن فتتمنينَ لو أنها ماكانت أساساً ..
كان والدي يتبدا أمامي كلوحةٍ كبيرة تغطي زجاجة مركبتي ، أقود وأتأمله .. أشاهدهُ شاباً راشداً كهلاً مريضاً .. مر أمامي كألبوم عمر !
وذكرتُ شحوبه آخر مرةٍ شاهدته ، وخشيتُ فقده .. خشيتُ فقد صوتهِ أكثر ، صوتُ والدي ياسارة كان يتمرغ طويلاً في رمل الدفء قبل أن يغادر حنجرته ..
وضاقت الرؤية في عينيّ ، لم يكن يوماً مطيراً ، لكني كنت أبكي . وهتفتُ بصوتٍ أظنه لم يغادر جوفي : "انتظر .."
أكنتُ أقولها لأبي .. أم لعزرائيل الذي يحوم في سماء الرياض طلباً له !


كان يرقدُ في سريره وادعاً ، كان مسجىً بغطاء ٍ أبيض كبياض روحه ياسارة ، والأنابيب والأجهزة وأصواتها التريبة تلتف حوله وفوقه ..
ودخلتُ الغرفة لاهثاً ، أتيتُ كقادمٍ للمدينة بعد غربة ..تغرّبنا تحت سماء مدينتا الواحدة ! ورأيته كما لم أره من قبل :
كان ضئيلاً ياسارة.. امتصّه الوقت ولاكه ، كشجرةٍ غادرها الريّ وعادت في الذبول ، كان صامتاً وحديث الزائرين يتعاظم حوله ..
كانوا أشقائي و أعمامي وأبناء عمومتي .. كل من رميتُ بقرباهم عرض الحائط مهراً لسعادتنا ..
وشممتُ حال دخولي نفوراً دب في عينيهم ، سلقوني بنظراتٍ حداد .. و لم أحفل بهم ياسارة !


أقسمُ لك أني عدتُ طفلاً تلك اللحظة ..هل قلت لكِ أني عندما كنت صغيراً وأشاهد والدي عائداً للبيت ..
لا شيء كان يثنيني عن الانطلاق تجاهه ، ولا حتى لعب الأطفال تفعل !
يعود فتخبرني براءتي أن أفرح ،أهرع صوبه ويتلقفني بأيدٍ شداد ، ويرفعني في سماء الفناء لأشهق بضحكاتي ، عوّدني مرآه الفرح ..
واعتدنا صرامته التي تفشلُ كثيراً في ستر طيبته !


عدتُ طفلاً في غرفة المستشفى ياسارة ، عزلت رؤيتي عن كل شيءٍ إلا عينهُ الواجمة ، وقفت أمام الباب وتبادلنا النظرات .. وأظنّ عينيه لمحت حمرة الدمع في عينيّ ،
وحلّ في الغرفة صمتٌ يشبه صمت الجماد ، وذرَعَت خطواتي بلاط الغرفة المشحونة .. ووقفتُ على رأسهِ كما كان طفل القرية القديم يفعل حين يجدهُ نائماً ..
وتحسستُ يده الملأى بوخزات الإبر ، ودبت فيني سكينةٌ لم أجدها طويلاً .. وأراد سحب يده عني ومنعه المرض أن يفعل !
أردت تقبيل جبينه وازورّ عني يمينا .. وحججتُ إلى يمينه وتجافى عني شمالاً ..واستعنتُ بقوتي على ضعفه ، وعافيتي على مرضه ،
أمسكت رأسه بيديّ واغتصبتُ قبلةً بالكاد حصلتُ عليها ..
وتركتُ على جبينه برودةً طارئةً جرّاء قطرتين من ماء البصر ، سقطتا عليهِ كمذنبٍ اجترح إثماً عظيماً وجاء يتوب ، غالبتها ولم أفلح في منعها أن تسقط مع قبلتي !


طاف نظري في هؤلاء الحانقين من حولي ياسارة ،
هم لا يفهمون أن القلوب حين يأمرها الله بالحب ، لا تلقي لهراء الأسماء بالاً ، وليست في وارد مطابقة الهويّات والألوان ..
خلق الله القلوب وأودعها صدورنا دون أن يكون لنا حرية التصرف فيها ، نحنُ لا نتحكم في كمية الدم الذي تضخمه في أجسامنا ،
وليس لنا قدرة التحكم في نبضاتنا ، وعضلة القلب لا إرادية الحركة .. هكذا نشأ القلب فينا ، مستقلاً بذاته !
حتى في الحب ، معزولون عن حرية التصرف والاختيار ، يتدبرُ القلب أمورَه ، يُسكِنُ في جوفه من يهوى ، وننساقُ مع الحب لا إرادياً ..
وهذا القلب النابض فيني ، أغضب كل هؤلاء يوم اختاركِ ياسارة !

هؤلاء..
لو كنتُ خارجاً من خزيٍ وفضيحة ، لقاموا جميعاً يصافحون عودتي !
لو كنتُ عائداً من السجن ياسارة ، لهبوا من مقاعدهم يمطروني بوابل ترحيب ..
لكني تزوجتكِ ياسارة .. أقحمتكِ في دمائهم الزرقاء .. فصار وجودي ثقيلاً كليل امروء القيس ياسارة !
انقطع الكلام المباح وحل الصمت حال دخولي ، بعضهم خرج، وبعضهم بقيَ يرشقني بنظراتٍ يغلفها الشزر ، وصوت همهاتهم ليس تخطئه أذني !
كانت قبائل الجاهلية تبرأ ممن يقترفُ خزياً .. يطردون أبناءهم حين يجنونَ فضيحةً أو إثماً كبيرا ،
ألم تقرأي عن الصعاليك وتأبط شراً ياسارة ؟
جاهليّة الرياض صيرتني صعلوكاً دون رهط .. كل ذنبي تأبطتُ حباً ! صعلوككِ تأبط قلباً وما ينبغي له !


كنت أهمس في أذن والدي أسائله عن صحته ولم ينبس بحرف ، وأخبرني محمد أنه تعرض لنوبةٍ قلبية، أتعبتُ قلبه ياسارة !
وخرجت كما جئت كسيراً ، وتلقفتني شوارع الرياض أمشي وأفكر في أمري وأمرك وأمر أبي ، شعرتُ أني الرجل الأتعس في المدينة !

في بدء زواجنا كنت كالسكران لا يعي ، أعيشُ لذة الحب ببلاهة ، لستُ أدرك ماحولي ولا أفكر .. لا أرى لا أسمع لا ألمس إلا أنتِ ،
ثم بدأت حياتي تتراوحُ بين نقطتين ، التعاسة والسعادة ، أذكر الغائبين فأحزن وأتقوى على الحزن بنور وجهك ..
كنت أعيشُ بعيداً عن عائلتي كمعتزلٍ في غار بعيـد ، كلما ضاق قلبي قلت له " لا تحزن إن الحب معنا ! "
كان عقلي يترددُ بين صفاهم ومروتك ساعياً دون انقطاع ، أشواطٌ لا تنتهي ، وأجهدني السعيُ وخارت قواي ياسارة !
الآن ، كلا النقطتين تعاسـة ، ولا مفر من الحزن !
أمشي في شوارع المدينة وأفكر في الحزن الحتميّ ، يشب في صدري كحريق ، ماذا ستفعلين إن خذلتكِ وافترقنا ؟!
كيف تتلقينَ أخبار انسحابي ورفرفة علمي الأبيض معلناً الاستسلام لجيش الظروف القاسية ؟!
منظر الدمع في عينيكِ يقتلني ، وتخيلتكِ تبكين وكرهتُ نفسي ، وعرفت أني لعنةٌ تصيب كل مقتربٍ مني ، لماذا بات قدري أن أسبب الأسى لكل ملتصقٍ بي ؟!
أسوأ أقداري أن جعلت في عقوقي لوالديّ براً بك ، وأصبح البر بهما عقوقاً لك ، وعرفتُ أني لن أجمع الحسنيين ، وبات جنون الاختيار يعصف بي ..
ضج رأسي بكل هذا التفكير قبل أن أعود إليكِ تلك الليلة ، أتذكرين ؟ عدتُ بعمر شابّ وملامح سبعينيّ ، وسألتيني عن أبي وأجبتكِ باقتضاب " يشكو قلبه "
وقلتِ ستأمرين زهرة بإعداد عشاءي ، وصحتُ فيكِ بصوتٍ نزق " لا أريد شيئاً ، شاهدي قنواتكِ في الصالة أريد أن أنام "
وخرجتِ حزينةً ، لم أكلف نفسي عناء مُراضاتك ، واختليتُ بعقلي مفكراً ،
..ياسارة : تلك الليلة لم أنم !


* * *



مازلتُ أذكر شحوب ملامحكِ ذلك الأسبوع المشؤوم ، صفرة وجهكِ كانت مرعبة ، وعينيكِ تغوران عميقاً تغلفهم هالةٌ من سواد !
كنتِ تصرخين فيني بجنون كلما اقتربتُ منك ، دب فيكِ نفورٌ من حيث لا أدري ،
كانت يدي حين تلامسكِ أشبهَ بيد غريبٍ يريد إيذاءك ، وحين أسألك مابك كنتِ تبكين .. وأنا أكره بكاءك حتى في الفـرح !
ما عدتِ تغضبين من خروجي ، كنتُ قديماً حين أعود ، ترفعين في وجهي خطابات الشجب والتنديد ، لكن اختلف الحال ، بات خروجي كما لو كان يُريحك !

لا تكف هذه الأقدار عن لطمي ، يا لسخرية الأيام ياسارة !
جاءني اتصالُ شقيقتكِ صباحاً يومها ، كنت أعطي طلابي درساً عن " الفعل الماضي " وأفكر في المستقبل المخيـف ، واستغربتُ اتصالها المفاجيء ..
حدثتني بحديثٍ طويل عن وقوعكِ أرضاً بعد أن غادرتُ المنزل، وعن اتصال زهرة بها ، وعن المستشفى والطبيبة و... حديثٌ طويل انتهى بعبارةٍ أشعر بوقعها الآن :
"................ سارة حامـل " !


سعادتي الغامرة حين تزوجتكِ، ثم الحزن الذي اعتراني وصيّر حياتي مسلسل كآبةٍ مستمر ، كلا الحالتين النقيض، أنسياني التفكير في أمر الأطفال والأبوّة !
لهذا ، جاء وقع الخبر مزلزلاً ، سمعتهُ بفجائيةٍ بلهاء، كنت على وشك سؤال شقيقتك : كيـف حدث هذا !؟
آه ياسارة، كنتُ مشغولاً في تقرير مصيري ومصيرك ، آخر ما ينقصني التفكير في مصير شخصٍ ثالث !
في الأيام القليلة الماضية ، كنتُ أهوي في وادٍ سحيقٍ من الحيرة ، لم أتخذ قراراً نافذاً يخصني ويخصك ، أبقيتُ كل الأمور معلقةً دون حسم ..
لماذا لم أهتف سعيداً على وقع هذا النبأ كما يفعل الآباء في الأفلام ؟!
لماذا لم أغني وأرقص ، لماذا كنتُ أعودُ من الخرج واجماً شروداً ؟! أثناءها .. شعرتُ بالحزن، لأني كنتُ أكذب على نفسي كل هذا الوقت ،
لا لم أؤجل القرار ، أظنني كنتُ أتخذتُ قرارنا ياسارة ، كنت اتخذتهُ في أعماقي وأخدع نفسي ، وإلا لما اكتستني هذه المسحة الحزينة يوم أخبروني بتخلّق طفلنا ياسارة !


في بيت والدكِ كنتِ راقدةً على فراشك متعبة ، دخلتُ عليكِ زائراً قلقاً ، هل سأجيد تمثيل الفرح ؟!
وبكيتِ ياسارة ، كان بكاؤكِ خنجراً مسموماً أكرهه بقدر كرهي لهذه المدينة الآن !
أخبروكِ أن تلتزمي الراحة حتى لا تفقديه ، وأن النزيف يهدد بقاءه ، كل هذا قلتيهِ لي ثم ختمتِ حديثك المتعب بأصعب سؤال واجهته في عمري :

" فيصل ماذا سأخبره إن سألني عن جده وأعمامه ؟ "!

تركتُ الصمت المهيب عنواناً لإجابتي ، وعاد حديثك المدوّي يهطلُ على سمعي كسيلٍ من دبابيس مؤلمة، كانت نبرتكِ حزينةً وأتقوّى على الثبات أمامك :
" حيناً يافيصل، أتمنى أن يسقط ويهرب من هذا الجحيم الذي يعيشه أبوه .. " .. ثم غلبكِ البكاء وأكملتِ الحديث بصعوبة :
"..وحيناً، أتمنى أن يبقى في أحشائي وألِده ، أريدهُ منك، حين يأتي فلتمضِ يافيصل ، أريد بصمةً في حياتي منك لأذكرك طويلا "
هل تذكرين جوابي ياسارة ؟ كان انهياراً ! ماعاد السد قادراً على دفع سيل الدموع الجارف ..
بكيتُ أمامكِ للمرة الأولى ، لملمتُ أشلائي وانتشلتُ جسدي من حطام الحزن المتكدس في تلك الغرفة و انصرفت !


هل تعلمين أني زرتُ والدي في منزلنا مرتين ؟
كنتُ كلما جئته عائداً ساءت حالته واربدّ وجهه ، تنتهي زياتي بصراخ خالد ، أرحتهم من سيئات حضوري وأشفقت على قلب أبي من وزر مجيئي !
أصبحتُ مرضاً عضالاً ، أقترب من أمي فأشعر في عينيها حزناً على أبي وعتباً عليّ تفشل في مداراته ..
أصبحتُ آلةً تزرع الغضب في أي مكانٍ تمرّه ، أين وجّهتُ وجهي وجدتُ من حولي ينتظر مغادرتي بترقب !
لا زلتُ أذكر خالد حين تزوج ، كان أول من صيّرنا أعماماً وجعل من والديّ جداً وجدة ، حين أخبرنا بحمل زوجته أول مرة كان البيت كرنفالاً من بهجة ..
تكرر الأمر مع بقية أشقائي ، ذات الفرحة كان البيت يتلقاها حتى مع شقيقي محمد قبل عامين ، رغم امتلاء البيت بأطفالٍ صغار يزرعون في حضورهم ضوضاء تُفرح والدي ..
وأنا ياسارة أروح وأجيء متدثراً بخبر حملك ، مازلت أطويه في بئر كتماني كما لو كنتُ أستتر الفضيحة ،
طفلنا ، كنتِ تحملينهُ جنيناً ، وكنتُ أحملهُ سراً !
يُفترض بدموعي أن تكون الآن فرحا .. لكني أعرف أنها ليست كذلك ، دموع حزنٍ كدموعك التي تقتلني كل مرة !


شقيقك كانت نظراته ترسل لي نفوراً لا أحتمله ، مازال يتعالى عليّ بثرائكم ، يلتمع في صوته البارد حقدٌ دفين ، ووالدكِ مازالت نبرته تسحقني في كل حديث..
قال لي وأنا أخرج من زيارتك في بيتكم " ابنتي ليست سعيدة! أعرف ذلك في عينيها " !
كان يلقيها بغضب ، كان يقرّعني ، كأنه يخبرني أني الاختيار الخاطيء لفتاته ، وأجدني أسوقُ أعذاراً بلهاء ، أعتذر بتعبك ووهنِ الحمل وأنا الذي أعرفُ جيداً أسباب حزنك !


ضاقت بي المجالس ، خيّم الليل في عيني ، أسيرُ في الطرقات مشياً لا إلى مكان ، تماماً كأيامنا القادمة لا أدري إلى أين تمشي..
الحب في الرياض يعاني بيروقراطيةً لا أدري من فرضها .. حين يمارس اثنان في أي بقعةٍ من هذا الكون حب بعضهما ، لا شيء يعيقهما أن يفعلا حياةً سعيدة ..
لا إجراءات معقدة تجتاحُ ورقة حبهم قبل اعتماد ، أما في الرياض، يلزمنا موافقاتٌ من أناس كثر ، لا يكفي أن نقرر وحدنا ، نحتاجُ ألف مشورةٍ وتواقيع الرضا ،
وبعد كل هذا ، يخبروننا أن مشروعنا تمت الموافقة عليه وبورك الحب وحامله !
حبيبكِ ياسارة ثار بشبابه على كل هذا ، ظنّ أن المدينة وواقعها التعيس يقبل التغيير ، كان يردد ببلاهة " الموت للجبناء " !
تغيير واقع هذا المدينة يشبه زحزحة هذا الكون من مكانه ..أنت لا تدري من أي نقطةٍ تلامس يدك هذا الكون لتبدأ الدفع ، ولو وجدتها ، تحتاجُ قوةً جبارة لتحركه خطوةً ضئيلة ،
هذه القوة تماماً هي القوة التي أحتاجها الآن في مواجهة كل ما يعترضني من مآسي !

مضت الأيام بي كتائهٍ لا يجد دروبه ، طرقات هذه المدينة لا تنتهي وأنساق معها وحيداً طريداً ، كان صوتُ أغنيتكِ المفضلة يبكيني ..
"اصحى تزعل" ! أهديتيها لي قبل زواجنا وغنيتيها كثيراً بصوت العنادل القابع في حنجرتك ، وشعرتُ أني لأول مرةٍ أسمعها الآن :

((اصحى تزعل ، لو تفارقنا و بعدنا ، وجيت مره عنّك اسأل !
ماتهون ايام حبك ، حلوه كانت ولاّ مرة ، تبقى انتَ في حياتي أحلى حب وأحلى عشرة ..
آه يا زماني .. اللي تغير ! من بقى بك ما تأثر ، اصحى تزعل ))

لماذا من بين آلاف الأغنيات اخترتيها لتكون أغنيتنا ، ولماذا في ثالث مكالماتنا قبل عام ونصف كنتِ تلحين أن أستمع إليها ..
أكنتِ تعرفين مصيرنا وأنا لا أدري . هل استشرفتي الغيب أو اطلعتِ على أيامنا في عقلك الباطن ، هل اعترتكِ حالة " ديجافو " طويلة المدى ؟!
لا أظن .. لكنها صدفةٌ محضة ، وإلا لكنتِ بلهاء وأنتِ ترتبطين بزوجٍ تعرفين أنه لعنةٌ تمحقُ كل أرضٍ يجوسها!


هل تذكرين حين أخبرتكِ بوجهٍ دبت فيه سمرة الحزن وانحسر بياضه ، أن والدي يحتاج عملية قلبٍ جراحية ستُجرى له بعد عشرة أيام ؟!
هتفتِ ببراءةٍ أنهكتني :" فيصل هل أخبرته بحملي ؟ " كان صوتكِ بريئاً لكنه صوتُ عقلٍ يخبرني أنكِ ماعدتِ طفلة !
كنتِ تعلمين ياسارة بأن إخبارهم يشبه فيضاناً ضارباً يجتاحهم ، ابتسمتُ لكِ وقلت " لا " ، وسمعتُ تنهيدة الراحة عابقةً في صوتك !
أكنا لصّين نواري مالاً سرقناه ؟ أو إرهابييَن يتكتمان على عملية تفجير أنجزاها في جنح ليل ،
ألم نحمل ورقةً تخبرنا أننا على سنة الله ونبيّه ؟ وعلمونا طويلاً أن الحلال فضيلـة، مابال المدينة تضيقُ الآن بالحلال كالحرام فجأة !
أسئلتي لا أملك لها جواباً .. هل تذكرين ؟ كنا نتحدث عنه بالاشارة ، أسألكِ عن طفلنا بالإشارة لبطنك فقط:
" هل سيبقى ؟ هل هو بخير ؟ هل تشعرين به " كنت أستعينُ عليه بضمير الغائب في حضوري وحضورك وحضوره!
كان يفترض بي أن أقول هل طفلنا بخير .. هل تشعرين بطفلنا ؟!
لكن كلمة " طفلنا " تشبه البكاء في تلك اللحظة وماكنتُ أقوى نطقها !

***


لا أنسى ياسارة تاريخ السابع عشر من شهر محرم ! تاريخ ميلادك ..
في هذا اليوم ، جئتِ للدنيا وجئتِ إليّ ، كنتُ طفلاً سبقكِ للدنيا بعامين .. حينها كنتُ في قريتنا أمشي محاطاً بحب الجميع حولي ..
لا أدري في اللحظة التي جئتِ للحياة أين كنت على وجه الدقة .. ربما في بيتنا أو بين النخيل أو واقفاً ببابنا الأسود القديم !
في ذلك اليوم وأنا طفل العامين لا بد أن شيئاً اعتراني لحظة ولادتك ، كما تعتري الأنبياء رجفة الوحي أو كما ينقبض صدر الأم حين تشعر أن ابنها تعرض لخطر ..
لا بد أن شعوراً خاطفاً أو تعبيراً لا إرادياً أو لحظة وجوم طافت بي ، من المحال أن تكون تلك اللحظة عادية ، لأن أهم أقداري جاء إلى الدنيا !
وكبرنا ولم نعرف أسماء بعضنا ولا نعرف من نحن ، مسرح حياتي لا يشبه مسرحك البعيد ، شابٌ مثلي وفتاةٌ مثلك لا بد أن تسير حياتهما خطين متوازيين بلا نقاط التقاء ..
لكنّ القدر ياسارة كان يحرفُ مساراتنا وتميلُ خطوط حياتنا حتى شكّلت رأس مثلث ، جمعنا متجر ماجد .. والتقينا !
أسأل نفسي طويلاً :
ماذا لو كنا نعرف غيبنا؟ .. ونعرفُ أقدارنا وكل أحداث ما بعد ذاك اللقاء .؟ أكنتُ سأحضر لماجد أم كنت سأهربُ مختبئاً في زوايا المدينة ؟
أكنتِ تحضرين أم ترسلين جهازكِ مع سائقك ؟ لا أدري .. كلما أدريهِ أنّا هاهنا نعيش حباً تحت حصار !

يوم الرابع عشر من شهر محرم ، بقيَ على عيد ميلادكِ ثلاثة أيام ، وبقيَ على عملية والدي يومان ليس أكثر !
يوم الرابع عشر من محرم سيكون تاريخاً يُنسيكِ يوم ميلادك كل العمـر ! ولن أنساه ما حييت ..

قبله بيومين أدخلت المستشفى وخسرتِ الحمل ، غسلوكِ من طُهري الذي صيّروه جريمة !
حين عرفت، بكيتُ حزناً ، ليس عليه ، بل على ارتياحي للخبر !
أليس مؤلماً أن أرتاح ياسارة في يومٍ يجبُ فيه أن أحـزن ؟!


هل تذكرين حديثنا ياسارة أيام الخطوبة ؟ كنا نضحكُ من أطفالنا الذين خلقناهم في مخيلتنا ولم يأتوا بعد ، " سعود و عنود " ،
كان ذاك حديثُ عهدِ الصفو وأيام النعيم ، تخيّلناهم وكسيناهم وأنشأنا لهم غرفاً مستقلةً في منزلنا ،
وتخاصمنا بلذة العشاق كيف نربيهم ، كنتِ تقولين اترك تربيتهم لي ..وأخبرتكِ حينها : دعي الطفل لي ، والطفلة لك !
وضحكنا حين قلتِ : أخشى أن يرثوا نرجسيتك !
وختمتُ الحديث البريء " حسناً كل أمرهم متروكٌ لك ، المهم أني أمتلك قلب أمهم " وسمعتُ خجلك يفوح من صمتك ياسارة !
الآن ، ذهب طفلنا الذي لم نفرح به ، لكن عزاءنا ياسارة سُمرة الحزن التي تكتسينا وهو يغادرنا بعد أن حل ضيفاً أسابيع قليلة ..


حاولتُ مواساتك وكان كل الحديث هباء .. من السخف التمثيل أمام من يعرفُ كل شيءٍ يعتملُ في خفاك !
وعدتُ لبيتي ذليلاً ، ووقفتُ أمام غرف الأطفال ، طالما وجدتكِ نائمةً فيها وكنت أظنك تستغرقين معهم في خيالك الخصب ،
وبحثتُ في الغرفة عن سعود و عنود ولم أجد إلا ظلمةً كئيبة وصمتاً يقتلني جموده ..
ورادوتُ النوم واستعصم ، تحسستُ فراشنا ولم أجدك، وباغتني شعورٌ أنني لن أجدك مرةً أخرى ..
وأن خسارة الطفل ليست آخر خساراتي .. هناك أفدح !

" فيصل خلاص ، لن أغادر بيت والدي ، أرجوك لا تأتِ .. ستبقى أجمل شيءٍ حدث لي " !

هذه رسالتك التي لم أنساها ، قرأتها فجراً حين استيقظتْ ، ماذا أقول ياسارة .. أقسم أن الأرض زُلزت تحتي ، وشعرتُ بالسماء المتعبة من الوقوف تستريحُ على ظهري !
قرأتها بطعم ابتلاع الزجاج ياسارة !


ليلةٌ باردة في آخر أيام شتاء ، والمطر يهطلُ ليجعل كل شيءٍ في الجوار حزيناً ، غسل الأرض ولم يغسلني من همومي أحد ..
والدي ازداد مرضه تلك الليلة ، وكان شقيقي يلح أن آتي لأزوره مهما يكن ،لكني لم أفعل ، أجّلتُ ذلك بعد أن أنتهي من كل شيء .. ووقفتُ أمام بيتكم !
كنتُ قبل أشهر أخطو إليه خاطباً ، ثم عريساً ، ثم زوجُ سارة ، والآن أخطو إليه ربما آخر مـرة !

ليس غريباً وجه والدكِ المحتقن ، وقفتُ في مجلسهِ تماماً كما جئتُ أول مرة ، كان وجهي يُخبر بكل شيء .. لكن والدكِ ليس يفهم !
هبّ فيني متحدثاً عن حزنك ، نحيبك المتواصل ، خوف شقيقاتكِ عليك ، كالَ ليَ التهم ، أشبعني اتهاماً ياسارة .. ولم أجب ..
فقط وضعتُ يدي في جيبي، أخرجتُ مفتاح البيت ، جنّتُنا التي ضمتنا سبعة أشهر ، ورميته على الطاولة أمامي :
" خلاص يابو مشاري ! لستُ الزوج المناسب لسارة ، مهما فعلت لن أستطيع إسعادها .. "

لعنني وقزّمني كثيراً ياسارة ، قال لي تماماً كما قال ابنه " في ظروفٍ طبيعية ماكنا نفكر في قبولك زوجاً لسارة "
سبعة أشهر من الصمت على عجرفته ، في الرياض لكل منا ورقةٌ رابحةٌ يستخدمها حين خصام ، أزال التقية وأودعها سمعي صريحة ، وأنا مللتُ السكوت :
" وفي ظروف طبيعية يابومشاري، أنت تعلم أني لن أفكر في التقدم لك " ! هكذا ياسارة .. طالما يريدها حفلة شتمٍ فلتكن ، كنت أنحطّ وأعلم ذلك .. اعذريني !
" يوماً ما سأحقق ثراءً ، وأصل مكانتك ونتساوى ، لكن مهما أثريتَ أنت لن تتساوى معي في هذه الرياض ، هنا لن تتساوى معنا .. "
أرأيتِ كيف أنحططتُ لأسفل القاع ؟، آمنتُ بكل ماكفرتُ به قديماً، وبتّ رجلاً كأي رجلٍ آخر في هذه المدينـة ، هذه الفوقية والعنصرية أوراقٌ رابحة وكلنا ينطوي على ورقةٍ تخصّه ..
انتفضت يد والدك وأشار للباب " برا يا وقـح يا حقيـر يا ... " عشراتُ الكلمات التي لم تزدني حزناً .. وصلتُ لأبعد نقطةٍ فيه ولم يعد شيئاً ذا بال !
" سارة طالق " آخر ماجاد به اللسان تلك الليلة وأسوأ ما جاد به طيلة العمر !


ليلتها عرفتُ أني خسرتكِ حقاً ، وأنكِ حلمٌ انقضى وأفقتُ منه ، وأني سأبدأ رحلة صراعٍ مع نسيانك .. كُتب علي الصراع منذ تعارفنا ياسارة !
وبكيتُ في طرقات المدينة كغريب ، شعرتُ بالشوارع تلوكني كعلكةٍ فاسدة ، سرتُ بين أفكاكها حتى جن الليل ، وتغزّر المطر ..
صوتُ الرعد كان مخيفاً ، ولمعة البرق تنشق في السماء عن ملامح وجهك النوراني ، سألت نفسي هل أخبروك ؟ هل زفوا إليك خبر رايتي البيضاء واستسلامي ؟.
أقسم لك أني كنتُ أُشرف على طريق الملك فهد وكان مختنقاً بالسيارات المتكدسة كذرات الحزن في جسمي ، كلما تخيلتُ بكائك ياطفلتي فكرت في رمي نفسي في هذا الطريق لأستريح ، جبانٌ لست شجاعاً ـ أردتُ الهرب انتحاراً من هذه الحياة وهذه المدينة .. وخذلتني الشجاعة ياسارة!

أتعلمين ماذا فعلت بقيّة تلك الليلة السوداء ؟!
ذهبتُ للمستشفى وانزويتُ في حضن أبي ، وهمست في أذنه باكياً " كل شيءٍ انتهى كل شيءٍ انتهى " !
" ... تألمتُ كثيراً وأُهِنتُ كثيراً وحاربتُ كثيراً لكن من الآن وصاعداً .. كل شيءٍ سيتوقف ، انتهى كل شيء ياأبي .. " وبللتُ فراشه وبرودة أطرافه بحرارة دمعي ..
كان لا يستطيعُ الحديث ياسارة ، كلما أراد الكلام تصاعد صوتهُ بين الأنابيب كصوت المضمضة، أرخى يده المتعبة على رأسي وشعرتُ بصفحه ..
انظري ياسارة ، لم يهنئني أحدٌ يوم زواجي بك ، وامتلأتُ بالتهاني يوم وفراقك !

خرجت على غير هدى ، كان الليل مخيفاً ، أسيرُ شريداً في الشوارع .. ليس معي إلا سجائري أنفث معها أحزاني لعلي أستريح ..
كان الليل يشتل فيني أشجار الهم والقلق والخوف .. مضغني الحزن وابتلعني ياسارة ، كل المارّين كانوا يرَون في وجهي عذاباً يُستعاذ منه !
كيف سأعود لأيامي القديمة : شاباً بأحلام طبيعية ؟، كيف أنسى؟ .. أنتِ مثل اسمي ، أحتاجُ موتَ ذاكرتي لأنساه !
كنتُ فتىً لا يعبأ بما يدور حوله ، من أوهمني أني القادر على التغيير وأني جيفارا الثائر على كل شيء ..
دخلتِ حياتي كقوةٍ جبارة ، واجهتُ بكِ كل شيء ، خضتُ بكِ حروباً لا تطيقها بداية عشريناتي ، وعدتُ بوجهٍ يحملُ سمرة الحزن وتغضن السبعين !
جئنا كـ ومضة ، وعشنا كـ حلم ، وانتهينا كلغزٍ سرمديّ .. ياسارة !

أعلم أنكِ بكيتِ كثيراً ، كانت دموعكِ الناشجة خلفيةً صوتيّة لكل مشاهدي تلك الليلة، ونسيتُ نفسي ووقفتْ بي سيارتي أمام بيتنا الذي غادرني مفتاحه للأبد ..
شاهدتُ نافذتنا غرقى في الظلام ، وغرف أطفالنا الذين لم يأتوا ، ومسحتُ رقمكِ من هاتفي .. وبدأتُ أستعد للفوضى الجديدة ، فوضى غيابك وانحجابك للأبد !
كل الرياض كانت نائمةً في ذلك الهزيع ، وحدي من كان يقظاً يغسل الدمع عينيه عن الكرى ، وشعرتُ أني وحيد .. ليس هناك أقسى من مواجهة الحزن وحيداً ياسارة ..
وناداني صوتٌ كأني أسمعه لأول مرة ، هبط في أذني ولامس شغاف قلبي وشعرتُ به يناديني ..
كان أذان الفجر الأول ياسارة ، 14 شهراً وأنا الغائب عن بيوت الله ،أقسم لكِ أني شعرتُ بهاتفٍ ينادي في جوف الليل تعال يا أيها الحزين ..
ومشيتُ حثيثاً تختنق عبراتي في صدري ، ودبت فيني سكينةٌ يوم دفعتُ باب المسجد ، وداهم خواء روحي خشوعٌ غاب طويلاً ..
نظرتُ للمصاحف للمحراب وشممتُ رائحة الطمأنينة تعبق في المكان ، وعرفتُ أن الله يراني .. خارت قواي وشهقتُ بدموعي ياسارة ..
ارتميتُ على الأرض في غير طهارة ، عفّرت جبهتي في السجاد وبدأتُ أبكي ..
لم أكن أدعي لم أكن أسأل لم أكن أرتجي .. كنتُ أبكي إلى الله وحسب ! كان بكاءً يتخللهُ راحةٌ من حيث لا أدري .. وعرفت أني بحضرة الرب الرحيم .. وهتفتُ بصوتي أزرعه في الأرض ليصعد في السماء : رب ارحمها ، وارحم ضعفي .. أعوذ بنور وجهك من ظلمتي هذه ، وأعوذ برحمتك من قسوةٍ تلفني .. رب كن معها وكن معي .. لذت بالمسجد تلك الليلة ياسارة .. وتوضأتُ وصليت أول ركعتين بعد قطيعة ، وقرأتُ سورة يوسف أتسلى بها عن أحزاني .. كل هذا كان في الرابع عشر من شهر محرم ياسارة .............
........................" . فيصل


* * *

لن تقرأي رسالتي هذه ، اعتدتُ كتابتها منذ ثلاثة أشهر، منذ افترقنا ، أكتبها ثم أودعها سلة مهملاتٍ تمتليء بشقيقاتها ،
هاهو ربيعُ الثاني يفرشُ اسمه في التقويم وعلى توقيت المدينة ، وليس ثمة ربيع ياسارة ،
خريفٌ هذه الدنيا بعدكِ ، أكتب لأسلو ، أبعث حزني بين سطوري لأنام ، أكفكف دمعي بتدبيج الحروف ، صار النوم يتجافى عني في سطوة هذا الحزن ،
وأستعين عليه بالله وصبري وصلاتي ثم بالكتابة !
لا أعرفُ بعد ليلة الرابع عشر من شهر محرم ماذا جرى لك ، ربما تكونين في الرياض ، ربما رحلتم مع الراحلين في هذا الصيف ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ،
تجافيتُ عن عالمكِ للأبد ..
ستبقين جرحاً غائراً .. وندبةٌ في قلبي ، وأعرفُ أني سأموت ولم أنساكِ يا سمراي الجميلة !

2004 / الرياض

:

:










38

(( الرياض / بعد خمسة أعوام ))

:
:

حين يخرجُ الرجل من قصة حبٍ جامحة ، انتهت بفشل ، يمر بدورةٍ مألوفة : يسقط حزناً ، يكتئب ، يحاول النهوض ، ينهضُ ضعيفاً ، يبدأ الحياة مجدداً من الصفر !
يظن من حوله انه اجتاز الخطر ، صار طبيعياً كما هم تماماً .. لكنهم مخطئون ..
هو اعتاد التمثيل حتى أتقنه ، هم لا يعيشون ليله حين يختلي بذاته ، ليل المحبين قاتمٌ بلون الحقيقة !

الحزن بعد الحب يشبه اشتعال السيجارة ، يبدأ قوياً همجياً ، كالنار تبدأ دفعةً قويةً تعلقُ في طرف اللفافة ، ثم تخمد .. وتسري جمرةٌ رتيبة تأتي على السيجارة حتى تنتهي ..
والعشّاق هكذا ، لا يُشفَون .. لكنهم يموتون ببطء !

حين يعصف بالرجل جرح الحب ، يحتاج مدةً طويلة ليهدأ نزفه ، وتتطامن روحه ،
.. لا يلتئم الجُرحُ وفينا ذاكرة!
يصل لاقتناعٍ تام أن سعادتهُ قضت ، ويبدأ البذل بسخاء لكل من حوله ، لا يحتملُ حزن الأقرباء والغرباء ، يريد أن يمنحَ السعادة لكل من يستطيع .. بعد أن اقتنع أن سعادته مضت !
وهذا ما أنا عليه الآن بعد خمس سنينٍ عجاف ، أصبحتُ أباً لأشقائي وشقيقاتي ، أقربُ الخلق طراً لهم ، وملاذاً رحيماً لكل مشتكي ..
حتى طلابي صارت بيني وبينهم أبوةٌ وألفةٌ لا يجدها أي زميلٍ آخر ..
بعد أن غادرتني سعادتي ، وعبثاً أحاول استرجاعها ، أريد أن أمحضها لكل باحث ، طبيبٌ يداوي الناس .. وهو عليلُ !

الكتابة اندلاع جرح ، صدق كافكا ..
عزائي في مأساتي الماضية أني خرجتُ منها بنزفٍ حبريّ ، وقف له الكل احتراماً ، صارت قصصي أشد ما تلقى رواجاً .. نقلتُ الحزن والجرح لساحة الورق ..
تنفستُ حزني حروفاً ، وصارت أطلالي أدباً يُشاد به طويلاً ..
الكتابة علاجٌ مؤقتٌ للحزن ، يؤخذ عند اللزوم ، كلما عاودتني كآبة الذكريات صُغتُ دموعي حروفاً أبتلّ بها من سقمي !

الكتابة تشبه عكازاً ، أو كرسياً متحركاً لمُعاقٍ عن المشي ،
هذا الكرسيّ لا يجعل المعاق كالأناس العاديين ، ولا يغيّر في إعاقته شيئاً ، لكنهُ ينقلُه ، يسهّل كثيراً من صعوبة واقعه ،
والكتابة لم تكن لتزيل حزني تماماً ، لم تصيّرني رجلاً عادياً خالياً من جرح ، لكني بها كنتُ أتحررُ قليلاً !
خمس سنين ، لم يعد كل الحزن مكبوتاً في صدري ، سكبتهُ أبجديةً في جنبات الورق ، تقاسمتُ وأوراقي ترِكة سارة الثقيلة !
سـارة ، مازال اسمها يخزّ قلبي ، جرسُ نطقه يخلقُ دمعة !

مضغني الحزن خمس سنين ، أهداني سمرةً كالحة ، وملامح مندقّة ، وابتسامةٌ كلما بدَت خالطها بعض صفار !
صارعتُ الموج وانتصرت ، موج سارة ، كان يُفترض بي أن أموت ، من أحب فتاةً كتلك لا يمكن أن يحيا بعدها .. لكنّ سهام الليل التي ما فتأتُ أبعثها لم تخطيء ..
عدتُ للحياة مجدداً أحمل جرحاً اعتدته ، بات بيني وبينه أُلفة .. أسكنتُ سارة في قلبي ومارستُ الحياة .

ها أنا أقفُ الآن في عرسٍ ثقافيٍ بهيج ، أقفُ كدليلٍ آخر على نجاحي في الخروج من ليلي الأدهم ..
أقف في معرض الكتاب أحمل بطاقةً تزيّن جيبي الأماميّ .. تحمل اسمي مسبوقاً بـ " الأستاذ الأديب " ، اليوم أوقعُ كتابي الثاني .. مجموعةٌ قصصية تحمل عنوان " حديث الغرباء " !
أخبار التوزيع تسعدني ، مبتهجٌ لتلقّي الناس كتابي بحبور ، أوزعُ حزني بينهم في قصصٍ مكتوبة بجرحي وحبر قلبي ، يتلقفونها كأنهم يقولون لم يذهب حزنك سدى !

حين تنشر كتاباً ، هذا يشبه تماماً تلقيّك لمولود ، طفلٌ يحمل اسمك ، باتت حروفي فلذات كبدي ، وأدبي عائلتي السعيدة ..
أنظرُ لقصصي مطبوعةً تحملُ اسمي وأتخيّلها مجموعة أطفالٍ ربّيتهم طويلاً ، كسيتهم علمتهم أطعمتهم ، ولما بلغوا زينتهم وزخرفهم أخرجتهم للناس ممارياً بهم الحشود ،
أفاخر بهم في هذا الجمع الكبيـر كأب يمشي ويتلوهُ أبناؤه ..هاهو أدبي يخبر العالم أني ما بتّ وحيداً !

بعض طلابي وزملاء المدرسة ، أصدقائي ، لفيف المعجبين بحرفي ، وقعتُ لكل هؤلاء سعيداً ، كنت أكتب اسمي بزهو وأتلقى التهاني كيوم زواج .. لا أقول يوم زواجي .. أنا الرجل الذي لم يعرف التهاني في يومه القديم ذاك !
نسخٌ كثيرة من كتابي مضت ، ذهب أطفالي مع الناس يخبرونهم عن الحب والرياض والفتاة السمراء وكل قصص المدينة في ست سنين !


- فيصل ؟!

سمعتُ اسمي حين هممتُ مغادرة المكان !
امرأةٌ تحمل طفلةً سمراء جميلة ، تقفُ أمامي بصوتٍ أتذكره ولا أنساه !
قبل أن أسترجع الصورة القديمة ، قبل أن أعرف محدثتي هتفَتْ بي :

- أنا .. سارة !

خمس سنواتٍ لم أرها ، ودعتها في غرفة المستشفى الكئيبة يوم خسرنا طفلنا ، ويصفعني الزمنُ بعودتها تحمل طفلةً ليست تنتمي لي !
شممتُ عطورها القديمة ، وسمعت أغانينا القديمة ، ومر في سماء ذاكرتي صوتها القديم وضحكتها وأنوثتها الطاغية ، ومغامراتنا في سماء المدينة ،
ورواياتنا التي تحدثنا عنها ، وليالينا التي أحييناها وودعناها ، وعواصفنا التي اجتاحتنا ، مر كل شيءٍ وأفقتُ على صوتها .. تحمل طفلتها باليمنى وتقدم لي كتابي بيسراها :

- ممكن توقع لي ؟!


ثلاثون ثانية أستوعب طلبها ، ثلاثون ثانية ألكز رأس قلمي لأبدأ ، ثلاثون ثانية أفتح صفحة الكتاب الأولى ..
دقيقة كاملة ردّدت نظري بين الكتاب وبينها وبين الطفلة ، دقائق لم نتحدث ..
كنا نحترم جُرحنا ، وقفنا له باحترام .. دقائق حِداد نكّسنا فيها رؤوس الحديث ولم ننبس .. تركنا لعيوننا لغة الكلام ..
لا بد أن سمرتي هالتها ، نحولي أخبرها بكل شيء ، ملامحي الغائرة قدمت لها نبذةً سريعة تلخص خمس سنين ..
صوتها الخفيض .. نظراتها التي تحاولُ عبثاً إخفاء لهفتها ، ابتلاعُ الصمتِ لسانها ، كل هذا يخبرني أنها لم تنسَ .. لم تنسَ وإن حملت قبيلة أطفال !

أوقع إهداءً لسارة :

" إليها ، إلى من علمتني أن الحياة موتٌ طويل ، إلى من جاءت وأهدتني أجمل أيام العمر ، ثم راحت وتركت لي أقسى لحظات الحياة .. إلى سمرائي العصيّة على النسيان "

أردتُ كتابة ذلك .. ثم استعذتُ بالله من جهل خاطري .. ولم أكتب ، نظرتُ إليها وكانت تنتظرُ توقيعي ، وفكرتُ أن أكتب :

" إلى أم أطفالي الذين لم يأتوا ، إلى من انتظرتُ منها سعود والعنود ، وغابت ولم يحضر سعود ولا العنود ، تركَتْ لي في القلب جروحاً أربيهم كأطفالٍ يتامى من أمهم ! "

لم أكتب هذا أيضاً ، وخطَر لي بعد خمس سنين أنها بحاجة أجوبة ، لكزتُ رأس القلم مرةً أخرى وأوشكت أن أكتب :

" إهداء ، إلى من سأصعد في أرذل العمر ولن أنساها ، كأنما حدثت لي أمس ! عبثاً تحاول السنوات زحزحتكِ عن صدارة الذاكرة ، إلى من ستكبر وتشيخ وتهرم في ذاكرتي ..
رحل أبي بعدكِ بأشهر ..وحفرنا لأمي في الأرض سجادةً من تراب ، رحلوا ورحلتِ ، خلفتموني وحيداً ، وصرتُ يتيمَ الثلاثة .. هل مرّ بكِ يتيمُ ثلاثةٍ من قبل ؟! "

ابتسمتُ ساخراً من فكرة اهدائي السخيفة :

" إلى سارة ، طفلتي التي خذلتُها، واستسلمتُ لقسوة واقعنا التعيس ، إلى التي تركتها في أشد أوقات الحاجة لي ..
الى التي هبطتُ من جنتها بخطأي ، كما هبط أبي من جنتهِ من قبل ! أهدي هذا الكتاب "

لم أكتب !

" إلى القابعة خلف أسوار الليل ، التي جاءت كحلم ، إلى التي نلتُها وعاشرتها وقاربتها أجمل سنة في عمري ، إليها ، تلك التي ضاحكتها وغنيتها أنشودة عمر ،
الى التي نسيت طعم لمسة يدها ورائحة جسمها ونبرة صوتها ، توارت خلف خمس سنين ، لا أصدق الآن أني كنتُ قريباً منها يوماً، أو كنتُ أحدثها تحدثني وتتركُ لي قميصها أفتضه زراً زراً ..إلى التي بدأت أشك أنها أضغاث حلم جميلٍ لم يحدث .. وهو أجمل ماحدث! "


" إلى من علمتني أن أكون طفلاً ذو أمنيات كبيرة ، وغادرتني وطارت أمنياتي كأسراب حمام ، الآن بات العمر أداء واجـب ، أمنياتي محدودة :
أعيش لأكتب ، لأُسعد من حولي ، لأخبر الناس أن الحب في هذه المدينة أسطورةٌ ليست حقيقة !
شاهدي أمنياتي ، لم يعد بينها أن تعودي ! ظلي هناك بعيداً على حدود السحَر ، وعلى أطراف السحاب وفي وجه القمر.. لا تعودي لم يعد للحب فيني مستقر ..
إن قلتُ أني ماهويتُكِ .. كذبيني ، إن قلتُ أني قد نسيتكِ .. كذبيني !
اختبئي خلف قلبي ، أغطيكِ كل ليل بعد أن أربت على كتف اسمك ، يا أجمل أيامي التي خلق الله .. "

خطَر لي كل هذا ولم أدوّنه ، لكني أخيراً رحتُ أكتب خاطاً بحبر قلمي :

" إلى ملهمتي وباعثة الحرف من مهده.. التي لولاها ما كان هذا الكتاب ، ستجدين صورتكِ كثيراً هنا بين السطور ، وستقرأين في كل حرفٍ امتناناً لك !
إلى سارة ، أجمل ما حدث لي رغم كل شيء .. فيصل . "


كنتُ أكتب هذه الحروف ، وطفلتها الصغيرة تمتد يدها في جيبي لتنزع بطاقتي البرّاقة .. كانت تشاغب هذا الكرت الذي يحمل اسمي وصفتي ..
حين انتهيت التدوين ، خلعتُ بطاقتي وأعطيتها للطفلة :

- لا لا فيصل ، خذها ...
- دعيها معها ياسارة ، دعيها .. لتعرف من الآن ، أن الأسماء أهم ما في هذه المدينة !


- مارأيك فيها فيصل ..؟

- جميلة .. تماماً كـ أمها !

:
:
2009

تمت .

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  16-06-2011 11:17 صباحاً   [96]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 24-07-2010
رقم العضوية : 42,215
المشاركات : 9,623
الجنس :
قوة السمعة : 2,147,483,647
متابعـــة .....

لساتني بالجزء 33 .....

يعطيك الف عافية هاشم....

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  24-06-2011 05:25 مساءً   [97]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 24-07-2010
رقم العضوية : 42,215
المشاركات : 9,623
الجنس :
قوة السمعة : 2,147,483,647
قصة راااااااااائعه جدا برغم كل ما فيها

مؤثرة وواقعية ....


مشكور هاشم ع انتقاءك الرائع
ويعطيك الف الف عافية



:hi:

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  24-06-2011 07:47 مساءً   [98]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 05-08-2008
رقم العضوية : 12,196
المشاركات : 2,877
الجنس :
قوة السمعة : 859,003,115
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة: الهدى;1689548
قصة راااااااااائعه جدا برغم كل ما فيها

مؤثرة وواقعية ....


مشكور هاشم ع انتقاءك الرائع
ويعطيك الف الف عافية



:hi:
الله يعافيك يا رب
انا ما عجبتني النهاية :ohgod:

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  24-06-2011 08:27 مساءً   [99]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 24-07-2010
رقم العضوية : 42,215
المشاركات : 9,623
الجنس :
قوة السمعة : 2,147,483,647
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة: HASHEM13;1689759 الله يعافيك يا رب
انا ما عجبتني النهاية :ohgod:

نهاية حزينة و متوقعه .....بس حلوة القصة وواقعية جدا

مشكور اخي هاشم ..

look/images/icons/i1.gif بعضُ ما خبأتهُ الرياض ..
  24-06-2011 10:31 مساءً   [100]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 05-08-2008
رقم العضوية : 12,196
المشاركات : 2,877
الجنس :
قوة السمعة : 859,003,115
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة: الهدى;1689803 نهاية حزينة و متوقعه .....بس حلوة القصة وواقعية جدا

مشكور اخي هاشم ..
فعلا قصة حلوة واكثر شي عجبني فيها دقة التفاصيل وكمية الثقافه المتخلله في النص
التي تظهر من خلال ذكر الاقوال الادبيه وبعض الأدباء الذين أسمع بهم أول مره

صح انه المتابعين كانوا قلة
بس تواجدك بكفي وبزيد

اشكرك لتواجدك :hi:

اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد
الصفحة 2 من 10 < 1 8 9 10 > الأخيرة





الكلمات الدلالية
لا يوجد كلمات دلالية ..









الساعة الآن 03:06 AM