37
".........................................
.................... وخرجت من عندهِ على غير هدى ، كان الليل مخيفاً ، أسيرُ شريداً في الشوارع .. ليس معي إلا سجائري أنفث معها أحزاني لعلي أستريح .
كان الليل يشتل فيني أشجار الهم والقلق والخوف .. مضغني الحزن وابتلعني ياسارة ، كل المارّين كانوا يرَون في وجهي عذاباً يُستعاذ منه !
كيف سأعود لأيامي القديمة : شاباً بأحلام طبيعية ؟، كيف أنسى؟ .. أنتِ مثل اسمي ، أحتاجُ موتَ ذاكرتي لأنساه !
كنتُ فتىً لا يعبأ بما يدور حوله ، من أوهمني أني القادر على التغيير وأني جيفارا الثائر على كل شيء ؟! من ورطني في مجابهة واقع المدينة التعيس ؟!
دخلتِ حياتي كقوةٍ جبارة ، واجهتُ بكِ كل شيء ، خضتُ بكِ حروباً لا تطيقها بداية عشريناتي ، وعدتُ بوجهٍ يحملُ سمرة الحزن وتغضّن السبعين !
جئنا كـ ومضة ، وعشنا كـ حلم ، والآن ، معلقين كـ لغزٍ سرمديّ .. ياسارة " !
* * *
((بعد ثلاثة أشهـر))
:
:
" هذا الليل ياسارة ، ديكتاتورٌ معتدي ، يحتل كل يومي وينتهك حتى ساعاتِ نهاري ، يزور العالمين حين تغيب الشمس .. ويسكنني وحدي حتى في حضورها !
هذا الظلام من حولي فمٌ كبير ، يجوع لكل شيءٍ حين يحضر .. تروحُ الأشياء ساقطةً تباعاً في بطنه .. وأنا الآن من جوف الظلمات أكتب لك :
ظلمة الليل وظلمة غربتي وظلمتكِ أنتِ !
في بداية زواجنا كنتُ طفلاً للتوّ تعلم لعبة الكلام ، أو أبكماً خَرسَ لسانهُ عمراً طويلاً ثم أنطقه الله حين صدمة ، صدمة حضورك الطاغي !
لو سألتِ كل من يعرفني لقالوا لكِ أني منذ صغري ولي مع النطقِ علاقةٌ فاترة ، أجنح للصمت ماوسعني .. وأعتزلُ في محراب عزلتي كمتبتل ..
وحين اجتمعنا ..حين ضمتنا غرفتنا كمعتقلٍ للحب ، تفتق فمي عن أبجديةٍ لا تنقضي .. وقطفتُ لكِ من ثمار الحديث أطايبه،
وغزلتُ لكِ ما تراكم في عقلي طويلاً وجمعتهُ من بين دفات الكتب !
كنتُ أستمع لك كطفل ، وبفرحٍ لحوح كنتُ أجيد المقاطعة كثيراً ، وأسرق الحديث من لسانك وأنطلقُ به صوب قريتي ذكرياتي طفولتي أحلامي.. وكنتِ تصغين !
إصغاؤك كان يشبه أرضاً عطشى للمطر .. وكنت أتصاعد في سمائكِ غيمةً من حديث ، وبرقاً من عشق ، ورعداً من رغبة ، وأهطل كل الليل سعيداً ..
أتحدث ، فأرى في عينيك جمهوراً عريضاً من لهفة ، وحشداً من بريق المتعة يتكدس فيها .. وأتسامى في أدائي يؤزني إعجابك أزا ، ويحفظني من فوقي وتحتي ..
وتتحدثين ،فأشتم رائحة الموسيقى في حروفك ، ويطل الصبح من شرفتنا فلا أبالي ، وننام بعد أن أنهكنا لذة الكلام !
هل تذكرين صمتي حين بدأ يُطلّ ضيفاً ثقيلاً ؟! وأصبحتِ على مسرح الحديث بطلةً وحيدة، وكنتُ جمهوراً فتر حماسه !
هل تذكرين ملامح سعادتي الغامرة حين أخذت في التقلص، و بدأت تلكمها يدُ التعاسة ؟
كنتُ قوياً بكِ واستمد منكِ طاقةً أتقوى بها على عضلات زمني المفتولة ، حتى طالني الأذى ووهنَت قوتي..
وكنتِ طفلةً لستِ تعلمين بما يعتملُ في بالي ويشغلني ،
أعود إليكِ حزيناً ، فتطلبين ذات الرجل الذي كان في أول أيام زواجه ..عروسٌ لا تسأمين الحب وحديث العشق ، وأنا لستُ آلةً يا سارة ، أكنتِ حقاً تجهلين ؟!
هل تذكرين موقف شقيقي خالد في ذلك السوق ، وإجاباتي الباردة كبرودة ذلك اليوم الزمهرير ؟
كان ذاك اللقاء العاصف فضيحةً لسرحاني الطويل ، وعرفتِ أخيراً ما بات يشغلني .. واقتنعتِ بأني أعيش في موجٍ متلاطم ،
كنت أوهمُ نفسي طويلاً أني على ضفة البحر وصلتُ بسلام ، وأني كسبتُكِ للأبد ، رُفِعت الآلام وجف التعب ، كانت نرجسيتي تصفني ببطلٍ اِجتاز أهوال الغرق ،
لكني عرفتُ بعد مغادرة اللذة ،ودهشة الوصال ، بعد أن أفقتُ من خمرة جسدك ، أنني في عاصمةٍ موجها لا يعرف الركود .. تموج وليس فيها قطرةٌ من بحـر.. ياسارة !
هل تذكرين ؟ بعد حادثة السوق بليلتين ؟!
كنتِ أخيراً تلوذين بالصمتِ في حضوري لأول مرة ، لم يعد يعصف بكِ الحماس حين أعود إليكِ ، وكنتُ أشعر بالبرد في الغرفة جراء دمعك الهاطل مثل سيل شتاء ..
تنشغلين بالتلفاز وأحاديث الهاتف وتتركيني بين إطباقي و أوراقي ..
وكنتُ أختلس النظرات لسكوتك ، وأراكِ ساهمةً تصعدين بعينيك ماوراء النافذة ،كأنكِ تنظرين لعاصمتنا الكبيرة ، وسمعتُ سؤالكِ للرياض : أين نمضي يا مدينتي ؟!
وعرفتُ أنكِ طفلةٌ شبّت فجأة، وصارت فتاةً لا يخدعها الوهـم !
أدرككِ شيءٌ من العقل الذي أدركني ، أخيراً عرفتِ أن هذا الحب يرزحُ تحت الحصار .. وأن مقاومتنا وإن طالت .. ضعيفة !
بتنا نتعاطى الحب بجرعاتٍ أقل ، وتراجعت أسهم متعتنا رغم سعينا الحثيث لفصل واقعنا عن واقع المدينة الصاخب ..ونخدع بعضنا : " المهم نحنُ معاً "
و "نحنُ معاً " جملةٌ غبيّة .. لا تنفع في عاصمة الصحراء .. وصدّقنا كذبتنا وحاولنا ..
ونجحنا مرات وفشلنا كثيراً ، كان الخصام يزداد كأننا جنديين في ذات الجبهة ، نحارب عدواً واحداً وندافع عن وطن ، لكنّ دويّ القصف يفقدنا أعصابنا وننام كثيراً بغضب !
واستفحل التفكيرُ في جنبات عقولنا.. وندعي أننا لسنا نفعل .. وانخفض منسوب ماء سعادتنا ..
لأن الحب بجنون ليس كالحب بعقل يا سمرائي !
يومها شهق الهاتف بصوت محمد ، كان يحادثني بخوفٍ لستُ أنساه ، يخبرني بأن أبي ينام في المستشفى مريضاً ، ودب الرعب في قلبي ..
وحاولتِ مواساتي ياسارة ونهرتكِ بغضب ، أكنتُ أحاسبكِ ولستُ أدري ؟
تركتكِ دامعةً في السرير ولم أواسيكِ ..يالقسوتي !
وانطلقتُ أشق طرقات المدينة ، وجملة أخي ترن في أذني كجرس " تعال واطلب منه الصفح ، الأعمار في يد الله يافيصل من يدري "
وباتت سرعتي تلتهم الأرض تحتي ، وخشيتُ أن يكون الوقـت فات !
عندما ننتهي أو نشعر أننا على حافة النهاية ، هنا ، ندفع ضريبة الذاكرة يا سارة !
أليس غريباً أن تكون الذكريات سعيدة ، وتستحضريها وقت الحزن فتتمنينَ لو أنها ماكانت أساساً ..
كان والدي يتبدا أمامي كلوحةٍ كبيرة تغطي زجاجة مركبتي ، أقود وأتأمله .. أشاهدهُ شاباً راشداً كهلاً مريضاً .. مر أمامي كألبوم عمر !
وذكرتُ شحوبه آخر مرةٍ شاهدته ، وخشيتُ فقده .. خشيتُ فقد صوتهِ أكثر ، صوتُ والدي ياسارة كان يتمرغ طويلاً في رمل الدفء قبل أن يغادر حنجرته ..
وضاقت الرؤية في عينيّ ، لم يكن يوماً مطيراً ، لكني كنت أبكي . وهتفتُ بصوتٍ أظنه لم يغادر جوفي : "انتظر .."
أكنتُ أقولها لأبي .. أم لعزرائيل الذي يحوم في سماء الرياض طلباً له !
كان يرقدُ في سريره وادعاً ، كان مسجىً بغطاء ٍ أبيض كبياض روحه ياسارة ، والأنابيب والأجهزة وأصواتها التريبة تلتف حوله وفوقه ..
ودخلتُ الغرفة لاهثاً ، أتيتُ كقادمٍ للمدينة بعد غربة ..تغرّبنا تحت سماء مدينتا الواحدة ! ورأيته كما لم أره من قبل :
كان ضئيلاً ياسارة.. امتصّه الوقت ولاكه ، كشجرةٍ غادرها الريّ وعادت في الذبول ، كان صامتاً وحديث الزائرين يتعاظم حوله ..
كانوا أشقائي و أعمامي وأبناء عمومتي .. كل من رميتُ بقرباهم عرض الحائط مهراً لسعادتنا ..
وشممتُ حال دخولي نفوراً دب في عينيهم ، سلقوني بنظراتٍ حداد .. و لم أحفل بهم ياسارة !
أقسمُ لك أني عدتُ طفلاً تلك اللحظة ..هل قلت لكِ أني عندما كنت صغيراً وأشاهد والدي عائداً للبيت ..
لا شيء كان يثنيني عن الانطلاق تجاهه ، ولا حتى لعب الأطفال تفعل !
يعود فتخبرني براءتي أن أفرح ،أهرع صوبه ويتلقفني بأيدٍ شداد ، ويرفعني في سماء الفناء لأشهق بضحكاتي ، عوّدني مرآه الفرح ..
واعتدنا صرامته التي تفشلُ كثيراً في ستر طيبته !
عدتُ طفلاً في غرفة المستشفى ياسارة ، عزلت رؤيتي عن كل شيءٍ إلا عينهُ الواجمة ، وقفت أمام الباب وتبادلنا النظرات .. وأظنّ عينيه لمحت حمرة الدمع في عينيّ ،
وحلّ في الغرفة صمتٌ يشبه صمت الجماد ، وذرَعَت خطواتي بلاط الغرفة المشحونة .. ووقفتُ على رأسهِ كما كان طفل القرية القديم يفعل حين يجدهُ نائماً ..
وتحسستُ يده الملأى بوخزات الإبر ، ودبت فيني سكينةٌ لم أجدها طويلاً .. وأراد سحب يده عني ومنعه المرض أن يفعل !
أردت تقبيل جبينه وازورّ عني يمينا .. وحججتُ إلى يمينه وتجافى عني شمالاً ..واستعنتُ بقوتي على ضعفه ، وعافيتي على مرضه ،
أمسكت رأسه بيديّ واغتصبتُ قبلةً بالكاد حصلتُ عليها ..
وتركتُ على جبينه برودةً طارئةً جرّاء قطرتين من ماء البصر ، سقطتا عليهِ كمذنبٍ اجترح إثماً عظيماً وجاء يتوب ، غالبتها ولم أفلح في منعها أن تسقط مع قبلتي !
طاف نظري في هؤلاء الحانقين من حولي ياسارة ،
هم لا يفهمون أن القلوب حين يأمرها الله بالحب ، لا تلقي لهراء الأسماء بالاً ، وليست في وارد مطابقة الهويّات والألوان ..
خلق الله القلوب وأودعها صدورنا دون أن يكون لنا حرية التصرف فيها ، نحنُ لا نتحكم في كمية الدم الذي تضخمه في أجسامنا ،
وليس لنا قدرة التحكم في نبضاتنا ، وعضلة القلب لا إرادية الحركة .. هكذا نشأ القلب فينا ، مستقلاً بذاته !
حتى في الحب ، معزولون عن حرية التصرف والاختيار ، يتدبرُ القلب أمورَه ، يُسكِنُ في جوفه من يهوى ، وننساقُ مع الحب لا إرادياً ..
وهذا القلب النابض فيني ، أغضب كل هؤلاء يوم اختاركِ ياسارة !
هؤلاء..
لو كنتُ خارجاً من خزيٍ وفضيحة ، لقاموا جميعاً يصافحون عودتي !
لو كنتُ عائداً من السجن ياسارة ، لهبوا من مقاعدهم يمطروني بوابل ترحيب ..
لكني تزوجتكِ ياسارة .. أقحمتكِ في دمائهم الزرقاء .. فصار وجودي ثقيلاً كليل امروء القيس ياسارة !
انقطع الكلام المباح وحل الصمت حال دخولي ، بعضهم خرج، وبعضهم بقيَ يرشقني بنظراتٍ يغلفها الشزر ، وصوت همهاتهم ليس تخطئه أذني !
كانت قبائل الجاهلية تبرأ ممن يقترفُ خزياً .. يطردون أبناءهم حين يجنونَ فضيحةً أو إثماً كبيرا ،
ألم تقرأي عن الصعاليك وتأبط شراً ياسارة ؟
جاهليّة الرياض صيرتني صعلوكاً دون رهط .. كل ذنبي تأبطتُ حباً ! صعلوككِ تأبط قلباً وما ينبغي له !
كنت أهمس في أذن والدي أسائله عن صحته ولم ينبس بحرف ، وأخبرني محمد أنه تعرض لنوبةٍ قلبية، أتعبتُ قلبه ياسارة !
وخرجت كما جئت كسيراً ، وتلقفتني شوارع الرياض أمشي وأفكر في أمري وأمرك وأمر أبي ، شعرتُ أني الرجل الأتعس في المدينة !
في بدء زواجنا كنت كالسكران لا يعي ، أعيشُ لذة الحب ببلاهة ، لستُ أدرك ماحولي ولا أفكر .. لا أرى لا أسمع لا ألمس إلا أنتِ ،
ثم بدأت حياتي تتراوحُ بين نقطتين ، التعاسة والسعادة ، أذكر الغائبين فأحزن وأتقوى على الحزن بنور وجهك ..
كنت أعيشُ بعيداً عن عائلتي كمعتزلٍ في غار بعيـد ، كلما ضاق قلبي قلت له " لا تحزن إن الحب معنا ! "
كان عقلي يترددُ بين صفاهم ومروتك ساعياً دون انقطاع ، أشواطٌ لا تنتهي ، وأجهدني السعيُ وخارت قواي ياسارة !
الآن ، كلا النقطتين تعاسـة ، ولا مفر من الحزن !
أمشي في شوارع المدينة وأفكر في الحزن الحتميّ ، يشب في صدري كحريق ، ماذا ستفعلين إن خذلتكِ وافترقنا ؟!
كيف تتلقينَ أخبار انسحابي ورفرفة علمي الأبيض معلناً الاستسلام لجيش الظروف القاسية ؟!
منظر الدمع في عينيكِ يقتلني ، وتخيلتكِ تبكين وكرهتُ نفسي ، وعرفت أني لعنةٌ تصيب كل مقتربٍ مني ، لماذا بات قدري أن أسبب الأسى لكل ملتصقٍ بي ؟!
أسوأ أقداري أن جعلت في عقوقي لوالديّ براً بك ، وأصبح البر بهما عقوقاً لك ، وعرفتُ أني لن أجمع الحسنيين ، وبات جنون الاختيار يعصف بي ..
ضج رأسي بكل هذا التفكير قبل أن أعود إليكِ تلك الليلة ، أتذكرين ؟ عدتُ بعمر شابّ وملامح سبعينيّ ، وسألتيني عن أبي وأجبتكِ باقتضاب " يشكو قلبه "
وقلتِ ستأمرين زهرة بإعداد عشاءي ، وصحتُ فيكِ بصوتٍ نزق " لا أريد شيئاً ، شاهدي قنواتكِ في الصالة أريد أن أنام "
وخرجتِ حزينةً ، لم أكلف نفسي عناء مُراضاتك ، واختليتُ بعقلي مفكراً ،
..ياسارة : تلك الليلة لم أنم !
* * *
مازلتُ أذكر شحوب ملامحكِ ذلك الأسبوع المشؤوم ، صفرة وجهكِ كانت مرعبة ، وعينيكِ تغوران عميقاً تغلفهم هالةٌ من سواد !
كنتِ تصرخين فيني بجنون كلما اقتربتُ منك ، دب فيكِ نفورٌ من حيث لا أدري ،
كانت يدي حين تلامسكِ أشبهَ بيد غريبٍ يريد إيذاءك ، وحين أسألك مابك كنتِ تبكين .. وأنا أكره بكاءك حتى في الفـرح !
ما عدتِ تغضبين من خروجي ، كنتُ قديماً حين أعود ، ترفعين في وجهي خطابات الشجب والتنديد ، لكن اختلف الحال ، بات خروجي كما لو كان يُريحك !
لا تكف هذه الأقدار عن لطمي ، يا لسخرية الأيام ياسارة !
جاءني اتصالُ شقيقتكِ صباحاً يومها ، كنت أعطي طلابي درساً عن " الفعل الماضي " وأفكر في المستقبل المخيـف ، واستغربتُ اتصالها المفاجيء ..
حدثتني بحديثٍ طويل عن وقوعكِ أرضاً بعد أن غادرتُ المنزل، وعن اتصال زهرة بها ، وعن المستشفى والطبيبة و... حديثٌ طويل انتهى بعبارةٍ أشعر بوقعها الآن :
"................ سارة حامـل " !
سعادتي الغامرة حين تزوجتكِ، ثم الحزن الذي اعتراني وصيّر حياتي مسلسل كآبةٍ مستمر ، كلا الحالتين النقيض، أنسياني التفكير في أمر الأطفال والأبوّة !
لهذا ، جاء وقع الخبر مزلزلاً ، سمعتهُ بفجائيةٍ بلهاء، كنت على وشك سؤال شقيقتك : كيـف حدث هذا !؟
آه ياسارة، كنتُ مشغولاً في تقرير مصيري ومصيرك ، آخر ما ينقصني التفكير في مصير شخصٍ ثالث !
في الأيام القليلة الماضية ، كنتُ أهوي في وادٍ سحيقٍ من الحيرة ، لم أتخذ قراراً نافذاً يخصني ويخصك ، أبقيتُ كل الأمور معلقةً دون حسم ..
لماذا لم أهتف سعيداً على وقع هذا النبأ كما يفعل الآباء في الأفلام ؟!
لماذا لم أغني وأرقص ، لماذا كنتُ أعودُ من الخرج واجماً شروداً ؟! أثناءها .. شعرتُ بالحزن، لأني كنتُ أكذب على نفسي كل هذا الوقت ،
لا لم أؤجل القرار ، أظنني كنتُ أتخذتُ قرارنا ياسارة ، كنت اتخذتهُ في أعماقي وأخدع نفسي ، وإلا لما اكتستني هذه المسحة الحزينة يوم أخبروني بتخلّق طفلنا ياسارة !
في بيت والدكِ كنتِ راقدةً على فراشك متعبة ، دخلتُ عليكِ زائراً قلقاً ، هل سأجيد تمثيل الفرح ؟!
وبكيتِ ياسارة ، كان بكاؤكِ خنجراً مسموماً أكرهه بقدر كرهي لهذه المدينة الآن !
أخبروكِ أن تلتزمي الراحة حتى لا تفقديه ، وأن النزيف يهدد بقاءه ، كل هذا قلتيهِ لي ثم ختمتِ حديثك المتعب بأصعب سؤال واجهته في عمري :
" فيصل ماذا سأخبره إن سألني عن جده وأعمامه ؟ "!
تركتُ الصمت المهيب عنواناً لإجابتي ، وعاد حديثك المدوّي يهطلُ على سمعي كسيلٍ من دبابيس مؤلمة، كانت نبرتكِ حزينةً وأتقوّى على الثبات أمامك :
" حيناً يافيصل، أتمنى أن يسقط ويهرب من هذا الجحيم الذي يعيشه أبوه .. " .. ثم غلبكِ البكاء وأكملتِ الحديث بصعوبة :
"..وحيناً، أتمنى أن يبقى في أحشائي وألِده ، أريدهُ منك، حين يأتي فلتمضِ يافيصل ، أريد بصمةً في حياتي منك لأذكرك طويلا "
هل تذكرين جوابي ياسارة ؟ كان انهياراً ! ماعاد السد قادراً على دفع سيل الدموع الجارف ..
بكيتُ أمامكِ للمرة الأولى ، لملمتُ أشلائي وانتشلتُ جسدي من حطام الحزن المتكدس في تلك الغرفة و انصرفت !
هل تعلمين أني زرتُ والدي في منزلنا مرتين ؟
كنتُ كلما جئته عائداً ساءت حالته واربدّ وجهه ، تنتهي زياتي بصراخ خالد ، أرحتهم من سيئات حضوري وأشفقت على قلب أبي من وزر مجيئي !
أصبحتُ مرضاً عضالاً ، أقترب من أمي فأشعر في عينيها حزناً على أبي وعتباً عليّ تفشل في مداراته ..
أصبحتُ آلةً تزرع الغضب في أي مكانٍ تمرّه ، أين وجّهتُ وجهي وجدتُ من حولي ينتظر مغادرتي بترقب !
لا زلتُ أذكر خالد حين تزوج ، كان أول من صيّرنا أعماماً وجعل من والديّ جداً وجدة ، حين أخبرنا بحمل زوجته أول مرة كان البيت كرنفالاً من بهجة ..
تكرر الأمر مع بقية أشقائي ، ذات الفرحة كان البيت يتلقاها حتى مع شقيقي محمد قبل عامين ، رغم امتلاء البيت بأطفالٍ صغار يزرعون في حضورهم ضوضاء تُفرح والدي ..
وأنا ياسارة أروح وأجيء متدثراً بخبر حملك ، مازلت أطويه في بئر كتماني كما لو كنتُ أستتر الفضيحة ،
طفلنا ، كنتِ تحملينهُ جنيناً ، وكنتُ أحملهُ سراً !
يُفترض بدموعي أن تكون الآن فرحا .. لكني أعرف أنها ليست كذلك ، دموع حزنٍ كدموعك التي تقتلني كل مرة !
شقيقك كانت نظراته ترسل لي نفوراً لا أحتمله ، مازال يتعالى عليّ بثرائكم ، يلتمع في صوته البارد حقدٌ دفين ، ووالدكِ مازالت نبرته تسحقني في كل حديث..
قال لي وأنا أخرج من زيارتك في بيتكم " ابنتي ليست سعيدة! أعرف ذلك في عينيها " !
كان يلقيها بغضب ، كان يقرّعني ، كأنه يخبرني أني الاختيار الخاطيء لفتاته ، وأجدني أسوقُ أعذاراً بلهاء ، أعتذر بتعبك ووهنِ الحمل وأنا الذي أعرفُ جيداً أسباب حزنك !
ضاقت بي المجالس ، خيّم الليل في عيني ، أسيرُ في الطرقات مشياً لا إلى مكان ، تماماً كأيامنا القادمة لا أدري إلى أين تمشي..
الحب في الرياض يعاني بيروقراطيةً لا أدري من فرضها .. حين يمارس اثنان في أي بقعةٍ من هذا الكون حب بعضهما ، لا شيء يعيقهما أن يفعلا حياةً سعيدة ..
لا إجراءات معقدة تجتاحُ ورقة حبهم قبل اعتماد ، أما في الرياض، يلزمنا موافقاتٌ من أناس كثر ، لا يكفي أن نقرر وحدنا ، نحتاجُ ألف مشورةٍ وتواقيع الرضا ،
وبعد كل هذا ، يخبروننا أن مشروعنا تمت الموافقة عليه وبورك الحب وحامله !
حبيبكِ ياسارة ثار بشبابه على كل هذا ، ظنّ أن المدينة وواقعها التعيس يقبل التغيير ، كان يردد ببلاهة " الموت للجبناء " !
تغيير واقع هذا المدينة يشبه زحزحة هذا الكون من مكانه ..أنت لا تدري من أي نقطةٍ تلامس يدك هذا الكون لتبدأ الدفع ، ولو وجدتها ، تحتاجُ قوةً جبارة لتحركه خطوةً ضئيلة ،
هذه القوة تماماً هي القوة التي أحتاجها الآن في مواجهة كل ما يعترضني من مآسي !
مضت الأيام بي كتائهٍ لا يجد دروبه ، طرقات هذه المدينة لا تنتهي وأنساق معها وحيداً طريداً ، كان صوتُ أغنيتكِ المفضلة يبكيني ..
"اصحى تزعل" ! أهديتيها لي قبل زواجنا وغنيتيها كثيراً بصوت العنادل القابع في حنجرتك ، وشعرتُ أني لأول مرةٍ أسمعها الآن :
((اصحى تزعل ، لو تفارقنا و بعدنا ، وجيت مره عنّك اسأل !
ماتهون ايام حبك ، حلوه كانت ولاّ مرة ، تبقى انتَ في حياتي أحلى حب وأحلى عشرة ..
آه يا زماني .. اللي تغير ! من بقى بك ما تأثر ، اصحى تزعل ))
لماذا من بين آلاف الأغنيات اخترتيها لتكون أغنيتنا ، ولماذا في ثالث مكالماتنا قبل عام ونصف كنتِ تلحين أن أستمع إليها ..
أكنتِ تعرفين مصيرنا وأنا لا أدري . هل استشرفتي الغيب أو اطلعتِ على أيامنا في عقلك الباطن ، هل اعترتكِ حالة " ديجافو " طويلة المدى ؟!
لا أظن .. لكنها صدفةٌ محضة ، وإلا لكنتِ بلهاء وأنتِ ترتبطين بزوجٍ تعرفين أنه لعنةٌ تمحقُ كل أرضٍ يجوسها!
هل تذكرين حين أخبرتكِ بوجهٍ دبت فيه سمرة الحزن وانحسر بياضه ، أن والدي يحتاج عملية قلبٍ جراحية ستُجرى له بعد عشرة أيام ؟!
هتفتِ ببراءةٍ أنهكتني :" فيصل هل أخبرته بحملي ؟ " كان صوتكِ بريئاً لكنه صوتُ عقلٍ يخبرني أنكِ ماعدتِ طفلة !
كنتِ تعلمين ياسارة بأن إخبارهم يشبه فيضاناً ضارباً يجتاحهم ، ابتسمتُ لكِ وقلت " لا " ، وسمعتُ تنهيدة الراحة عابقةً في صوتك !
أكنا لصّين نواري مالاً سرقناه ؟ أو إرهابييَن يتكتمان على عملية تفجير أنجزاها في جنح ليل ،
ألم نحمل ورقةً تخبرنا أننا على سنة الله ونبيّه ؟ وعلمونا طويلاً أن الحلال فضيلـة، مابال المدينة تضيقُ الآن بالحلال كالحرام فجأة !
أسئلتي لا أملك لها جواباً .. هل تذكرين ؟ كنا نتحدث عنه بالاشارة ، أسألكِ عن طفلنا بالإشارة لبطنك فقط:
" هل سيبقى ؟ هل هو بخير ؟ هل تشعرين به " كنت أستعينُ عليه بضمير الغائب في حضوري وحضورك وحضوره!
كان يفترض بي أن أقول هل طفلنا بخير .. هل تشعرين بطفلنا ؟!
لكن كلمة " طفلنا " تشبه البكاء في تلك اللحظة وماكنتُ أقوى نطقها !
***
لا أنسى ياسارة تاريخ السابع عشر من شهر محرم ! تاريخ ميلادك ..
في هذا اليوم ، جئتِ للدنيا وجئتِ إليّ ، كنتُ طفلاً سبقكِ للدنيا بعامين .. حينها كنتُ في قريتنا أمشي محاطاً بحب الجميع حولي ..
لا أدري في اللحظة التي جئتِ للحياة أين كنت على وجه الدقة .. ربما في بيتنا أو بين النخيل أو واقفاً ببابنا الأسود القديم !
في ذلك اليوم وأنا طفل العامين لا بد أن شيئاً اعتراني لحظة ولادتك ، كما تعتري الأنبياء رجفة الوحي أو كما ينقبض صدر الأم حين تشعر أن ابنها تعرض لخطر ..
لا بد أن شعوراً خاطفاً أو تعبيراً لا إرادياً أو لحظة وجوم طافت بي ، من المحال أن تكون تلك اللحظة عادية ، لأن أهم أقداري جاء إلى الدنيا !
وكبرنا ولم نعرف أسماء بعضنا ولا نعرف من نحن ، مسرح حياتي لا يشبه مسرحك البعيد ، شابٌ مثلي وفتاةٌ مثلك لا بد أن تسير حياتهما خطين متوازيين بلا نقاط التقاء ..
لكنّ القدر ياسارة كان يحرفُ مساراتنا وتميلُ خطوط حياتنا حتى شكّلت رأس مثلث ، جمعنا متجر ماجد .. والتقينا !
أسأل نفسي طويلاً :
ماذا لو كنا نعرف غيبنا؟ .. ونعرفُ أقدارنا وكل أحداث ما بعد ذاك اللقاء .؟ أكنتُ سأحضر لماجد أم كنت سأهربُ مختبئاً في زوايا المدينة ؟
أكنتِ تحضرين أم ترسلين جهازكِ مع سائقك ؟ لا أدري .. كلما أدريهِ أنّا هاهنا نعيش حباً تحت حصار !
يوم الرابع عشر من شهر محرم ، بقيَ على عيد ميلادكِ ثلاثة أيام ، وبقيَ على عملية والدي يومان ليس أكثر !
يوم الرابع عشر من محرم سيكون تاريخاً يُنسيكِ يوم ميلادك كل العمـر ! ولن أنساه ما حييت ..
قبله بيومين أدخلت المستشفى وخسرتِ الحمل ، غسلوكِ من طُهري الذي صيّروه جريمة !
حين عرفت، بكيتُ حزناً ، ليس عليه ، بل على ارتياحي للخبر !
أليس مؤلماً أن أرتاح ياسارة في يومٍ يجبُ فيه أن أحـزن ؟!
هل تذكرين حديثنا ياسارة أيام الخطوبة ؟ كنا نضحكُ من أطفالنا الذين خلقناهم في مخيلتنا ولم يأتوا بعد ، " سعود و عنود " ،
كان ذاك حديثُ عهدِ الصفو وأيام النعيم ، تخيّلناهم وكسيناهم وأنشأنا لهم غرفاً مستقلةً في منزلنا ،
وتخاصمنا بلذة العشاق كيف نربيهم ، كنتِ تقولين اترك تربيتهم لي ..وأخبرتكِ حينها : دعي الطفل لي ، والطفلة لك !
وضحكنا حين قلتِ : أخشى أن يرثوا نرجسيتك !
وختمتُ الحديث البريء " حسناً كل أمرهم متروكٌ لك ، المهم أني أمتلك قلب أمهم " وسمعتُ خجلك يفوح من صمتك ياسارة !
الآن ، ذهب طفلنا الذي لم نفرح به ، لكن عزاءنا ياسارة سُمرة الحزن التي تكتسينا وهو يغادرنا بعد أن حل ضيفاً أسابيع قليلة ..
حاولتُ مواساتك وكان كل الحديث هباء .. من السخف التمثيل أمام من يعرفُ كل شيءٍ يعتملُ في خفاك !
وعدتُ لبيتي ذليلاً ، ووقفتُ أمام غرف الأطفال ، طالما وجدتكِ نائمةً فيها وكنت أظنك تستغرقين معهم في خيالك الخصب ،
وبحثتُ في الغرفة عن سعود و عنود ولم أجد إلا ظلمةً كئيبة وصمتاً يقتلني جموده ..
ورادوتُ النوم واستعصم ، تحسستُ فراشنا ولم أجدك، وباغتني شعورٌ أنني لن أجدك مرةً أخرى ..
وأن خسارة الطفل ليست آخر خساراتي .. هناك أفدح !
" فيصل خلاص ، لن أغادر بيت والدي ، أرجوك لا تأتِ .. ستبقى أجمل شيءٍ حدث لي " !
هذه رسالتك التي لم أنساها ، قرأتها فجراً حين استيقظتْ ، ماذا أقول ياسارة .. أقسم أن الأرض زُلزت تحتي ، وشعرتُ بالسماء المتعبة من الوقوف تستريحُ على ظهري !
قرأتها بطعم ابتلاع الزجاج ياسارة !
ليلةٌ باردة في آخر أيام شتاء ، والمطر يهطلُ ليجعل كل شيءٍ في الجوار حزيناً ، غسل الأرض ولم يغسلني من همومي أحد ..
والدي ازداد مرضه تلك الليلة ، وكان شقيقي يلح أن آتي لأزوره مهما يكن ،لكني لم أفعل ، أجّلتُ ذلك بعد أن أنتهي من كل شيء .. ووقفتُ أمام بيتكم !
كنتُ قبل أشهر أخطو إليه خاطباً ، ثم عريساً ، ثم زوجُ سارة ، والآن أخطو إليه ربما آخر مـرة !
ليس غريباً وجه والدكِ المحتقن ، وقفتُ في مجلسهِ تماماً كما جئتُ أول مرة ، كان وجهي يُخبر بكل شيء .. لكن والدكِ ليس يفهم !
هبّ فيني متحدثاً عن حزنك ، نحيبك المتواصل ، خوف شقيقاتكِ عليك ، كالَ ليَ التهم ، أشبعني اتهاماً ياسارة .. ولم أجب ..
فقط وضعتُ يدي في جيبي، أخرجتُ مفتاح البيت ، جنّتُنا التي ضمتنا سبعة أشهر ، ورميته على الطاولة أمامي :
" خلاص يابو مشاري ! لستُ الزوج المناسب لسارة ، مهما فعلت لن أستطيع إسعادها .. "
لعنني وقزّمني كثيراً ياسارة ، قال لي تماماً كما قال ابنه " في ظروفٍ طبيعية ماكنا نفكر في قبولك زوجاً لسارة "
سبعة أشهر من الصمت على عجرفته ، في الرياض لكل منا ورقةٌ رابحةٌ يستخدمها حين خصام ، أزال التقية وأودعها سمعي صريحة ، وأنا مللتُ السكوت :
" وفي ظروف طبيعية يابومشاري، أنت تعلم أني لن أفكر في التقدم لك " ! هكذا ياسارة .. طالما يريدها حفلة شتمٍ فلتكن ، كنت أنحطّ وأعلم ذلك .. اعذريني !
" يوماً ما سأحقق ثراءً ، وأصل مكانتك ونتساوى ، لكن مهما أثريتَ أنت لن تتساوى معي في هذه الرياض ، هنا لن تتساوى معنا .. "
أرأيتِ كيف أنحططتُ لأسفل القاع ؟، آمنتُ بكل ماكفرتُ به قديماً، وبتّ رجلاً كأي رجلٍ آخر في هذه المدينـة ، هذه الفوقية والعنصرية أوراقٌ رابحة وكلنا ينطوي على ورقةٍ تخصّه ..
انتفضت يد والدك وأشار للباب " برا يا وقـح يا حقيـر يا ... " عشراتُ الكلمات التي لم تزدني حزناً .. وصلتُ لأبعد نقطةٍ فيه ولم يعد شيئاً ذا بال !
" سارة طالق " آخر ماجاد به اللسان تلك الليلة وأسوأ ما جاد به طيلة العمر !
ليلتها عرفتُ أني خسرتكِ حقاً ، وأنكِ حلمٌ انقضى وأفقتُ منه ، وأني سأبدأ رحلة صراعٍ مع نسيانك .. كُتب علي الصراع منذ تعارفنا ياسارة !
وبكيتُ في طرقات المدينة كغريب ، شعرتُ بالشوارع تلوكني كعلكةٍ فاسدة ، سرتُ بين أفكاكها حتى جن الليل ، وتغزّر المطر ..
صوتُ الرعد كان مخيفاً ، ولمعة البرق تنشق في السماء عن ملامح وجهك النوراني ، سألت نفسي هل أخبروك ؟ هل زفوا إليك خبر رايتي البيضاء واستسلامي ؟.
أقسم لك أني كنتُ أُشرف على طريق الملك فهد وكان مختنقاً بالسيارات المتكدسة كذرات الحزن في جسمي ، كلما تخيلتُ بكائك ياطفلتي فكرت في رمي نفسي في هذا الطريق لأستريح ، جبانٌ لست شجاعاً ـ أردتُ الهرب انتحاراً من هذه الحياة وهذه المدينة .. وخذلتني الشجاعة ياسارة!
أتعلمين ماذا فعلت بقيّة تلك الليلة السوداء ؟!
ذهبتُ للمستشفى وانزويتُ في حضن أبي ، وهمست في أذنه باكياً " كل شيءٍ انتهى كل شيءٍ انتهى " !
" ... تألمتُ كثيراً وأُهِنتُ كثيراً وحاربتُ كثيراً لكن من الآن وصاعداً .. كل شيءٍ سيتوقف ، انتهى كل شيء ياأبي .. " وبللتُ فراشه وبرودة أطرافه بحرارة دمعي ..
كان لا يستطيعُ الحديث ياسارة ، كلما أراد الكلام تصاعد صوتهُ بين الأنابيب كصوت المضمضة، أرخى يده المتعبة على رأسي وشعرتُ بصفحه ..
انظري ياسارة ، لم يهنئني أحدٌ يوم زواجي بك ، وامتلأتُ بالتهاني يوم وفراقك !
خرجت على غير هدى ، كان الليل مخيفاً ، أسيرُ شريداً في الشوارع .. ليس معي إلا سجائري أنفث معها أحزاني لعلي أستريح ..
كان الليل يشتل فيني أشجار الهم والقلق والخوف .. مضغني الحزن وابتلعني ياسارة ، كل المارّين كانوا يرَون في وجهي عذاباً يُستعاذ منه !
كيف سأعود لأيامي القديمة : شاباً بأحلام طبيعية ؟، كيف أنسى؟ .. أنتِ مثل اسمي ، أحتاجُ موتَ ذاكرتي لأنساه !
كنتُ فتىً لا يعبأ بما يدور حوله ، من أوهمني أني القادر على التغيير وأني جيفارا الثائر على كل شيء ..
دخلتِ حياتي كقوةٍ جبارة ، واجهتُ بكِ كل شيء ، خضتُ بكِ حروباً لا تطيقها بداية عشريناتي ، وعدتُ بوجهٍ يحملُ سمرة الحزن وتغضن السبعين !
جئنا كـ ومضة ، وعشنا كـ حلم ، وانتهينا كلغزٍ سرمديّ .. ياسارة !
أعلم أنكِ بكيتِ كثيراً ، كانت دموعكِ الناشجة خلفيةً صوتيّة لكل مشاهدي تلك الليلة، ونسيتُ نفسي ووقفتْ بي سيارتي أمام بيتنا الذي غادرني مفتاحه للأبد ..
شاهدتُ نافذتنا غرقى في الظلام ، وغرف أطفالنا الذين لم يأتوا ، ومسحتُ رقمكِ من هاتفي .. وبدأتُ أستعد للفوضى الجديدة ، فوضى غيابك وانحجابك للأبد !
كل الرياض كانت نائمةً في ذلك الهزيع ، وحدي من كان يقظاً يغسل الدمع عينيه عن الكرى ، وشعرتُ أني وحيد .. ليس هناك أقسى من مواجهة الحزن وحيداً ياسارة ..
وناداني صوتٌ كأني أسمعه لأول مرة ، هبط في أذني ولامس شغاف قلبي وشعرتُ به يناديني ..
كان أذان الفجر الأول ياسارة ، 14 شهراً وأنا الغائب عن بيوت الله ،أقسم لكِ أني شعرتُ بهاتفٍ ينادي في جوف الليل تعال يا أيها الحزين ..
ومشيتُ حثيثاً تختنق عبراتي في صدري ، ودبت فيني سكينةٌ يوم دفعتُ باب المسجد ، وداهم خواء روحي خشوعٌ غاب طويلاً ..
نظرتُ للمصاحف للمحراب وشممتُ رائحة الطمأنينة تعبق في المكان ، وعرفتُ أن الله يراني .. خارت قواي وشهقتُ بدموعي ياسارة ..
ارتميتُ على الأرض في غير طهارة ، عفّرت جبهتي في السجاد وبدأتُ أبكي ..
لم أكن أدعي لم أكن أسأل لم أكن أرتجي .. كنتُ أبكي إلى الله وحسب ! كان بكاءً يتخللهُ راحةٌ من حيث لا أدري .. وعرفت أني بحضرة الرب الرحيم .. وهتفتُ بصوتي أزرعه في الأرض ليصعد في السماء : رب ارحمها ، وارحم ضعفي .. أعوذ بنور وجهك من ظلمتي هذه ، وأعوذ برحمتك من قسوةٍ تلفني .. رب كن معها وكن معي .. لذت بالمسجد تلك الليلة ياسارة .. وتوضأتُ وصليت أول ركعتين بعد قطيعة ، وقرأتُ سورة يوسف أتسلى بها عن أحزاني .. كل هذا كان في الرابع عشر من شهر محرم ياسارة .............
........................" . فيصل
* * *
لن تقرأي رسالتي هذه ، اعتدتُ كتابتها منذ ثلاثة أشهر، منذ افترقنا ، أكتبها ثم أودعها سلة مهملاتٍ تمتليء بشقيقاتها ،
هاهو ربيعُ الثاني يفرشُ اسمه في التقويم وعلى توقيت المدينة ، وليس ثمة ربيع ياسارة ،
خريفٌ هذه الدنيا بعدكِ ، أكتب لأسلو ، أبعث حزني بين سطوري لأنام ، أكفكف دمعي بتدبيج الحروف ، صار النوم يتجافى عني في سطوة هذا الحزن ،
وأستعين عليه بالله وصبري وصلاتي ثم بالكتابة !
لا أعرفُ بعد ليلة الرابع عشر من شهر محرم ماذا جرى لك ، ربما تكونين في الرياض ، ربما رحلتم مع الراحلين في هذا الصيف ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ،
تجافيتُ عن عالمكِ للأبد ..
ستبقين جرحاً غائراً .. وندبةٌ في قلبي ، وأعرفُ أني سأموت ولم أنساكِ يا سمراي الجميلة !
2004 / الرياض
:
:
38
(( الرياض / بعد خمسة أعوام ))
:
:
حين يخرجُ الرجل من قصة حبٍ جامحة ، انتهت بفشل ، يمر بدورةٍ مألوفة : يسقط حزناً ، يكتئب ، يحاول النهوض ، ينهضُ ضعيفاً ، يبدأ الحياة مجدداً من الصفر !
يظن من حوله انه اجتاز الخطر ، صار طبيعياً كما هم تماماً .. لكنهم مخطئون ..
هو اعتاد التمثيل حتى أتقنه ، هم لا يعيشون ليله حين يختلي بذاته ، ليل المحبين قاتمٌ بلون الحقيقة !
الحزن بعد الحب يشبه اشتعال السيجارة ، يبدأ قوياً همجياً ، كالنار تبدأ دفعةً قويةً تعلقُ في طرف اللفافة ، ثم تخمد .. وتسري جمرةٌ رتيبة تأتي على السيجارة حتى تنتهي ..
والعشّاق هكذا ، لا يُشفَون .. لكنهم يموتون ببطء !
حين يعصف بالرجل جرح الحب ، يحتاج مدةً طويلة ليهدأ نزفه ، وتتطامن روحه ،
.. لا يلتئم الجُرحُ وفينا ذاكرة!
يصل لاقتناعٍ تام أن سعادتهُ قضت ، ويبدأ البذل بسخاء لكل من حوله ، لا يحتملُ حزن الأقرباء والغرباء ، يريد أن يمنحَ السعادة لكل من يستطيع .. بعد أن اقتنع أن سعادته مضت !
وهذا ما أنا عليه الآن بعد خمس سنينٍ عجاف ، أصبحتُ أباً لأشقائي وشقيقاتي ، أقربُ الخلق طراً لهم ، وملاذاً رحيماً لكل مشتكي ..
حتى طلابي صارت بيني وبينهم أبوةٌ وألفةٌ لا يجدها أي زميلٍ آخر ..
بعد أن غادرتني سعادتي ، وعبثاً أحاول استرجاعها ، أريد أن أمحضها لكل باحث ، طبيبٌ يداوي الناس .. وهو عليلُ !
الكتابة اندلاع جرح ، صدق كافكا ..
عزائي في مأساتي الماضية أني خرجتُ منها بنزفٍ حبريّ ، وقف له الكل احتراماً ، صارت قصصي أشد ما تلقى رواجاً .. نقلتُ الحزن والجرح لساحة الورق ..
تنفستُ حزني حروفاً ، وصارت أطلالي أدباً يُشاد به طويلاً ..
الكتابة علاجٌ مؤقتٌ للحزن ، يؤخذ عند اللزوم ، كلما عاودتني كآبة الذكريات صُغتُ دموعي حروفاً أبتلّ بها من سقمي !
الكتابة تشبه عكازاً ، أو كرسياً متحركاً لمُعاقٍ عن المشي ،
هذا الكرسيّ لا يجعل المعاق كالأناس العاديين ، ولا يغيّر في إعاقته شيئاً ، لكنهُ ينقلُه ، يسهّل كثيراً من صعوبة واقعه ،
والكتابة لم تكن لتزيل حزني تماماً ، لم تصيّرني رجلاً عادياً خالياً من جرح ، لكني بها كنتُ أتحررُ قليلاً !
خمس سنين ، لم يعد كل الحزن مكبوتاً في صدري ، سكبتهُ أبجديةً في جنبات الورق ، تقاسمتُ وأوراقي ترِكة سارة الثقيلة !
سـارة ، مازال اسمها يخزّ قلبي ، جرسُ نطقه يخلقُ دمعة !
مضغني الحزن خمس سنين ، أهداني سمرةً كالحة ، وملامح مندقّة ، وابتسامةٌ كلما بدَت خالطها بعض صفار !
صارعتُ الموج وانتصرت ، موج سارة ، كان يُفترض بي أن أموت ، من أحب فتاةً كتلك لا يمكن أن يحيا بعدها .. لكنّ سهام الليل التي ما فتأتُ أبعثها لم تخطيء ..
عدتُ للحياة مجدداً أحمل جرحاً اعتدته ، بات بيني وبينه أُلفة .. أسكنتُ سارة في قلبي ومارستُ الحياة .
ها أنا أقفُ الآن في عرسٍ ثقافيٍ بهيج ، أقفُ كدليلٍ آخر على نجاحي في الخروج من ليلي الأدهم ..
أقف في معرض الكتاب أحمل بطاقةً تزيّن جيبي الأماميّ .. تحمل اسمي مسبوقاً بـ " الأستاذ الأديب " ، اليوم أوقعُ كتابي الثاني .. مجموعةٌ قصصية تحمل عنوان " حديث الغرباء " !
أخبار التوزيع تسعدني ، مبتهجٌ لتلقّي الناس كتابي بحبور ، أوزعُ حزني بينهم في قصصٍ مكتوبة بجرحي وحبر قلبي ، يتلقفونها كأنهم يقولون لم يذهب حزنك سدى !
حين تنشر كتاباً ، هذا يشبه تماماً تلقيّك لمولود ، طفلٌ يحمل اسمك ، باتت حروفي فلذات كبدي ، وأدبي عائلتي السعيدة ..
أنظرُ لقصصي مطبوعةً تحملُ اسمي وأتخيّلها مجموعة أطفالٍ ربّيتهم طويلاً ، كسيتهم علمتهم أطعمتهم ، ولما بلغوا زينتهم وزخرفهم أخرجتهم للناس ممارياً بهم الحشود ،
أفاخر بهم في هذا الجمع الكبيـر كأب يمشي ويتلوهُ أبناؤه ..هاهو أدبي يخبر العالم أني ما بتّ وحيداً !
بعض طلابي وزملاء المدرسة ، أصدقائي ، لفيف المعجبين بحرفي ، وقعتُ لكل هؤلاء سعيداً ، كنت أكتب اسمي بزهو وأتلقى التهاني كيوم زواج .. لا أقول يوم زواجي .. أنا الرجل الذي لم يعرف التهاني في يومه القديم ذاك !
نسخٌ كثيرة من كتابي مضت ، ذهب أطفالي مع الناس يخبرونهم عن الحب والرياض والفتاة السمراء وكل قصص المدينة في ست سنين !
- فيصل ؟!
سمعتُ اسمي حين هممتُ مغادرة المكان !
امرأةٌ تحمل طفلةً سمراء جميلة ، تقفُ أمامي بصوتٍ أتذكره ولا أنساه !
قبل أن أسترجع الصورة القديمة ، قبل أن أعرف محدثتي هتفَتْ بي :
- أنا .. سارة !
خمس سنواتٍ لم أرها ، ودعتها في غرفة المستشفى الكئيبة يوم خسرنا طفلنا ، ويصفعني الزمنُ بعودتها تحمل طفلةً ليست تنتمي لي !
شممتُ عطورها القديمة ، وسمعت أغانينا القديمة ، ومر في سماء ذاكرتي صوتها القديم وضحكتها وأنوثتها الطاغية ، ومغامراتنا في سماء المدينة ،
ورواياتنا التي تحدثنا عنها ، وليالينا التي أحييناها وودعناها ، وعواصفنا التي اجتاحتنا ، مر كل شيءٍ وأفقتُ على صوتها .. تحمل طفلتها باليمنى وتقدم لي كتابي بيسراها :
- ممكن توقع لي ؟!
ثلاثون ثانية أستوعب طلبها ، ثلاثون ثانية ألكز رأس قلمي لأبدأ ، ثلاثون ثانية أفتح صفحة الكتاب الأولى ..
دقيقة كاملة ردّدت نظري بين الكتاب وبينها وبين الطفلة ، دقائق لم نتحدث ..
كنا نحترم جُرحنا ، وقفنا له باحترام .. دقائق حِداد نكّسنا فيها رؤوس الحديث ولم ننبس .. تركنا لعيوننا لغة الكلام ..
لا بد أن سمرتي هالتها ، نحولي أخبرها بكل شيء ، ملامحي الغائرة قدمت لها نبذةً سريعة تلخص خمس سنين ..
صوتها الخفيض .. نظراتها التي تحاولُ عبثاً إخفاء لهفتها ، ابتلاعُ الصمتِ لسانها ، كل هذا يخبرني أنها لم تنسَ .. لم تنسَ وإن حملت قبيلة أطفال !
أوقع إهداءً لسارة :
" إليها ، إلى من علمتني أن الحياة موتٌ طويل ، إلى من جاءت وأهدتني أجمل أيام العمر ، ثم راحت وتركت لي أقسى لحظات الحياة .. إلى سمرائي العصيّة على النسيان "
أردتُ كتابة ذلك .. ثم استعذتُ بالله من جهل خاطري .. ولم أكتب ، نظرتُ إليها وكانت تنتظرُ توقيعي ، وفكرتُ أن أكتب :
" إلى أم أطفالي الذين لم يأتوا ، إلى من انتظرتُ منها سعود والعنود ، وغابت ولم يحضر سعود ولا العنود ، تركَتْ لي في القلب جروحاً أربيهم كأطفالٍ يتامى من أمهم ! "
لم أكتب هذا أيضاً ، وخطَر لي بعد خمس سنين أنها بحاجة أجوبة ، لكزتُ رأس القلم مرةً أخرى وأوشكت أن أكتب :
" إهداء ، إلى من سأصعد في أرذل العمر ولن أنساها ، كأنما حدثت لي أمس ! عبثاً تحاول السنوات زحزحتكِ عن صدارة الذاكرة ، إلى من ستكبر وتشيخ وتهرم في ذاكرتي ..
رحل أبي بعدكِ بأشهر ..وحفرنا لأمي في الأرض سجادةً من تراب ، رحلوا ورحلتِ ، خلفتموني وحيداً ، وصرتُ يتيمَ الثلاثة .. هل مرّ بكِ يتيمُ ثلاثةٍ من قبل ؟! "
ابتسمتُ ساخراً من فكرة اهدائي السخيفة :
" إلى سارة ، طفلتي التي خذلتُها، واستسلمتُ لقسوة واقعنا التعيس ، إلى التي تركتها في أشد أوقات الحاجة لي ..
الى التي هبطتُ من جنتها بخطأي ، كما هبط أبي من جنتهِ من قبل ! أهدي هذا الكتاب "
لم أكتب !
" إلى القابعة خلف أسوار الليل ، التي جاءت كحلم ، إلى التي نلتُها وعاشرتها وقاربتها أجمل سنة في عمري ، إليها ، تلك التي ضاحكتها وغنيتها أنشودة عمر ،
الى التي نسيت طعم لمسة يدها ورائحة جسمها ونبرة صوتها ، توارت خلف خمس سنين ، لا أصدق الآن أني كنتُ قريباً منها يوماً، أو كنتُ أحدثها تحدثني وتتركُ لي قميصها أفتضه زراً زراً ..إلى التي بدأت أشك أنها أضغاث حلم جميلٍ لم يحدث .. وهو أجمل ماحدث! "
" إلى من علمتني أن أكون طفلاً ذو أمنيات كبيرة ، وغادرتني وطارت أمنياتي كأسراب حمام ، الآن بات العمر أداء واجـب ، أمنياتي محدودة :
أعيش لأكتب ، لأُسعد من حولي ، لأخبر الناس أن الحب في هذه المدينة أسطورةٌ ليست حقيقة !
شاهدي أمنياتي ، لم يعد بينها أن تعودي ! ظلي هناك بعيداً على حدود السحَر ، وعلى أطراف السحاب وفي وجه القمر.. لا تعودي لم يعد للحب فيني مستقر ..
إن قلتُ أني ماهويتُكِ .. كذبيني ، إن قلتُ أني قد نسيتكِ .. كذبيني !
اختبئي خلف قلبي ، أغطيكِ كل ليل بعد أن أربت على كتف اسمك ، يا أجمل أيامي التي خلق الله .. "
خطَر لي كل هذا ولم أدوّنه ، لكني أخيراً رحتُ أكتب خاطاً بحبر قلمي :
" إلى ملهمتي وباعثة الحرف من مهده.. التي لولاها ما كان هذا الكتاب ، ستجدين صورتكِ كثيراً هنا بين السطور ، وستقرأين في كل حرفٍ امتناناً لك !
إلى سارة ، أجمل ما حدث لي رغم كل شيء .. فيصل . "
كنتُ أكتب هذه الحروف ، وطفلتها الصغيرة تمتد يدها في جيبي لتنزع بطاقتي البرّاقة .. كانت تشاغب هذا الكرت الذي يحمل اسمي وصفتي ..
حين انتهيت التدوين ، خلعتُ بطاقتي وأعطيتها للطفلة :
- لا لا فيصل ، خذها ...
- دعيها معها ياسارة ، دعيها .. لتعرف من الآن ، أن الأسماء أهم ما في هذه المدينة !
- مارأيك فيها فيصل ..؟
- جميلة .. تماماً كـ أمها !
:
:
2009
تمت .
".........................................
.................... وخرجت من عندهِ على غير هدى ، كان الليل مخيفاً ، أسيرُ شريداً في الشوارع .. ليس معي إلا سجائري أنفث معها أحزاني لعلي أستريح .
كان الليل يشتل فيني أشجار الهم والقلق والخوف .. مضغني الحزن وابتلعني ياسارة ، كل المارّين كانوا يرَون في وجهي عذاباً يُستعاذ منه !
كيف سأعود لأيامي القديمة : شاباً بأحلام طبيعية ؟، كيف أنسى؟ .. أنتِ مثل اسمي ، أحتاجُ موتَ ذاكرتي لأنساه !
كنتُ فتىً لا يعبأ بما يدور حوله ، من أوهمني أني القادر على التغيير وأني جيفارا الثائر على كل شيء ؟! من ورطني في مجابهة واقع المدينة التعيس ؟!
دخلتِ حياتي كقوةٍ جبارة ، واجهتُ بكِ كل شيء ، خضتُ بكِ حروباً لا تطيقها بداية عشريناتي ، وعدتُ بوجهٍ يحملُ سمرة الحزن وتغضّن السبعين !
جئنا كـ ومضة ، وعشنا كـ حلم ، والآن ، معلقين كـ لغزٍ سرمديّ .. ياسارة " !
* * *
((بعد ثلاثة أشهـر))
:
:
" هذا الليل ياسارة ، ديكتاتورٌ معتدي ، يحتل كل يومي وينتهك حتى ساعاتِ نهاري ، يزور العالمين حين تغيب الشمس .. ويسكنني وحدي حتى في حضورها !
هذا الظلام من حولي فمٌ كبير ، يجوع لكل شيءٍ حين يحضر .. تروحُ الأشياء ساقطةً تباعاً في بطنه .. وأنا الآن من جوف الظلمات أكتب لك :
ظلمة الليل وظلمة غربتي وظلمتكِ أنتِ !
في بداية زواجنا كنتُ طفلاً للتوّ تعلم لعبة الكلام ، أو أبكماً خَرسَ لسانهُ عمراً طويلاً ثم أنطقه الله حين صدمة ، صدمة حضورك الطاغي !
لو سألتِ كل من يعرفني لقالوا لكِ أني منذ صغري ولي مع النطقِ علاقةٌ فاترة ، أجنح للصمت ماوسعني .. وأعتزلُ في محراب عزلتي كمتبتل ..
وحين اجتمعنا ..حين ضمتنا غرفتنا كمعتقلٍ للحب ، تفتق فمي عن أبجديةٍ لا تنقضي .. وقطفتُ لكِ من ثمار الحديث أطايبه،
وغزلتُ لكِ ما تراكم في عقلي طويلاً وجمعتهُ من بين دفات الكتب !
كنتُ أستمع لك كطفل ، وبفرحٍ لحوح كنتُ أجيد المقاطعة كثيراً ، وأسرق الحديث من لسانك وأنطلقُ به صوب قريتي ذكرياتي طفولتي أحلامي.. وكنتِ تصغين !
إصغاؤك كان يشبه أرضاً عطشى للمطر .. وكنت أتصاعد في سمائكِ غيمةً من حديث ، وبرقاً من عشق ، ورعداً من رغبة ، وأهطل كل الليل سعيداً ..
أتحدث ، فأرى في عينيك جمهوراً عريضاً من لهفة ، وحشداً من بريق المتعة يتكدس فيها .. وأتسامى في أدائي يؤزني إعجابك أزا ، ويحفظني من فوقي وتحتي ..
وتتحدثين ،فأشتم رائحة الموسيقى في حروفك ، ويطل الصبح من شرفتنا فلا أبالي ، وننام بعد أن أنهكنا لذة الكلام !
هل تذكرين صمتي حين بدأ يُطلّ ضيفاً ثقيلاً ؟! وأصبحتِ على مسرح الحديث بطلةً وحيدة، وكنتُ جمهوراً فتر حماسه !
هل تذكرين ملامح سعادتي الغامرة حين أخذت في التقلص، و بدأت تلكمها يدُ التعاسة ؟
كنتُ قوياً بكِ واستمد منكِ طاقةً أتقوى بها على عضلات زمني المفتولة ، حتى طالني الأذى ووهنَت قوتي..
وكنتِ طفلةً لستِ تعلمين بما يعتملُ في بالي ويشغلني ،
أعود إليكِ حزيناً ، فتطلبين ذات الرجل الذي كان في أول أيام زواجه ..عروسٌ لا تسأمين الحب وحديث العشق ، وأنا لستُ آلةً يا سارة ، أكنتِ حقاً تجهلين ؟!
هل تذكرين موقف شقيقي خالد في ذلك السوق ، وإجاباتي الباردة كبرودة ذلك اليوم الزمهرير ؟
كان ذاك اللقاء العاصف فضيحةً لسرحاني الطويل ، وعرفتِ أخيراً ما بات يشغلني .. واقتنعتِ بأني أعيش في موجٍ متلاطم ،
كنت أوهمُ نفسي طويلاً أني على ضفة البحر وصلتُ بسلام ، وأني كسبتُكِ للأبد ، رُفِعت الآلام وجف التعب ، كانت نرجسيتي تصفني ببطلٍ اِجتاز أهوال الغرق ،
لكني عرفتُ بعد مغادرة اللذة ،ودهشة الوصال ، بعد أن أفقتُ من خمرة جسدك ، أنني في عاصمةٍ موجها لا يعرف الركود .. تموج وليس فيها قطرةٌ من بحـر.. ياسارة !
هل تذكرين ؟ بعد حادثة السوق بليلتين ؟!
كنتِ أخيراً تلوذين بالصمتِ في حضوري لأول مرة ، لم يعد يعصف بكِ الحماس حين أعود إليكِ ، وكنتُ أشعر بالبرد في الغرفة جراء دمعك الهاطل مثل سيل شتاء ..
تنشغلين بالتلفاز وأحاديث الهاتف وتتركيني بين إطباقي و أوراقي ..
وكنتُ أختلس النظرات لسكوتك ، وأراكِ ساهمةً تصعدين بعينيك ماوراء النافذة ،كأنكِ تنظرين لعاصمتنا الكبيرة ، وسمعتُ سؤالكِ للرياض : أين نمضي يا مدينتي ؟!
وعرفتُ أنكِ طفلةٌ شبّت فجأة، وصارت فتاةً لا يخدعها الوهـم !
أدرككِ شيءٌ من العقل الذي أدركني ، أخيراً عرفتِ أن هذا الحب يرزحُ تحت الحصار .. وأن مقاومتنا وإن طالت .. ضعيفة !
بتنا نتعاطى الحب بجرعاتٍ أقل ، وتراجعت أسهم متعتنا رغم سعينا الحثيث لفصل واقعنا عن واقع المدينة الصاخب ..ونخدع بعضنا : " المهم نحنُ معاً "
و "نحنُ معاً " جملةٌ غبيّة .. لا تنفع في عاصمة الصحراء .. وصدّقنا كذبتنا وحاولنا ..
ونجحنا مرات وفشلنا كثيراً ، كان الخصام يزداد كأننا جنديين في ذات الجبهة ، نحارب عدواً واحداً وندافع عن وطن ، لكنّ دويّ القصف يفقدنا أعصابنا وننام كثيراً بغضب !
واستفحل التفكيرُ في جنبات عقولنا.. وندعي أننا لسنا نفعل .. وانخفض منسوب ماء سعادتنا ..
لأن الحب بجنون ليس كالحب بعقل يا سمرائي !
يومها شهق الهاتف بصوت محمد ، كان يحادثني بخوفٍ لستُ أنساه ، يخبرني بأن أبي ينام في المستشفى مريضاً ، ودب الرعب في قلبي ..
وحاولتِ مواساتي ياسارة ونهرتكِ بغضب ، أكنتُ أحاسبكِ ولستُ أدري ؟
تركتكِ دامعةً في السرير ولم أواسيكِ ..يالقسوتي !
وانطلقتُ أشق طرقات المدينة ، وجملة أخي ترن في أذني كجرس " تعال واطلب منه الصفح ، الأعمار في يد الله يافيصل من يدري "
وباتت سرعتي تلتهم الأرض تحتي ، وخشيتُ أن يكون الوقـت فات !
عندما ننتهي أو نشعر أننا على حافة النهاية ، هنا ، ندفع ضريبة الذاكرة يا سارة !
أليس غريباً أن تكون الذكريات سعيدة ، وتستحضريها وقت الحزن فتتمنينَ لو أنها ماكانت أساساً ..
كان والدي يتبدا أمامي كلوحةٍ كبيرة تغطي زجاجة مركبتي ، أقود وأتأمله .. أشاهدهُ شاباً راشداً كهلاً مريضاً .. مر أمامي كألبوم عمر !
وذكرتُ شحوبه آخر مرةٍ شاهدته ، وخشيتُ فقده .. خشيتُ فقد صوتهِ أكثر ، صوتُ والدي ياسارة كان يتمرغ طويلاً في رمل الدفء قبل أن يغادر حنجرته ..
وضاقت الرؤية في عينيّ ، لم يكن يوماً مطيراً ، لكني كنت أبكي . وهتفتُ بصوتٍ أظنه لم يغادر جوفي : "انتظر .."
أكنتُ أقولها لأبي .. أم لعزرائيل الذي يحوم في سماء الرياض طلباً له !
كان يرقدُ في سريره وادعاً ، كان مسجىً بغطاء ٍ أبيض كبياض روحه ياسارة ، والأنابيب والأجهزة وأصواتها التريبة تلتف حوله وفوقه ..
ودخلتُ الغرفة لاهثاً ، أتيتُ كقادمٍ للمدينة بعد غربة ..تغرّبنا تحت سماء مدينتا الواحدة ! ورأيته كما لم أره من قبل :
كان ضئيلاً ياسارة.. امتصّه الوقت ولاكه ، كشجرةٍ غادرها الريّ وعادت في الذبول ، كان صامتاً وحديث الزائرين يتعاظم حوله ..
كانوا أشقائي و أعمامي وأبناء عمومتي .. كل من رميتُ بقرباهم عرض الحائط مهراً لسعادتنا ..
وشممتُ حال دخولي نفوراً دب في عينيهم ، سلقوني بنظراتٍ حداد .. و لم أحفل بهم ياسارة !
أقسمُ لك أني عدتُ طفلاً تلك اللحظة ..هل قلت لكِ أني عندما كنت صغيراً وأشاهد والدي عائداً للبيت ..
لا شيء كان يثنيني عن الانطلاق تجاهه ، ولا حتى لعب الأطفال تفعل !
يعود فتخبرني براءتي أن أفرح ،أهرع صوبه ويتلقفني بأيدٍ شداد ، ويرفعني في سماء الفناء لأشهق بضحكاتي ، عوّدني مرآه الفرح ..
واعتدنا صرامته التي تفشلُ كثيراً في ستر طيبته !
عدتُ طفلاً في غرفة المستشفى ياسارة ، عزلت رؤيتي عن كل شيءٍ إلا عينهُ الواجمة ، وقفت أمام الباب وتبادلنا النظرات .. وأظنّ عينيه لمحت حمرة الدمع في عينيّ ،
وحلّ في الغرفة صمتٌ يشبه صمت الجماد ، وذرَعَت خطواتي بلاط الغرفة المشحونة .. ووقفتُ على رأسهِ كما كان طفل القرية القديم يفعل حين يجدهُ نائماً ..
وتحسستُ يده الملأى بوخزات الإبر ، ودبت فيني سكينةٌ لم أجدها طويلاً .. وأراد سحب يده عني ومنعه المرض أن يفعل !
أردت تقبيل جبينه وازورّ عني يمينا .. وحججتُ إلى يمينه وتجافى عني شمالاً ..واستعنتُ بقوتي على ضعفه ، وعافيتي على مرضه ،
أمسكت رأسه بيديّ واغتصبتُ قبلةً بالكاد حصلتُ عليها ..
وتركتُ على جبينه برودةً طارئةً جرّاء قطرتين من ماء البصر ، سقطتا عليهِ كمذنبٍ اجترح إثماً عظيماً وجاء يتوب ، غالبتها ولم أفلح في منعها أن تسقط مع قبلتي !
طاف نظري في هؤلاء الحانقين من حولي ياسارة ،
هم لا يفهمون أن القلوب حين يأمرها الله بالحب ، لا تلقي لهراء الأسماء بالاً ، وليست في وارد مطابقة الهويّات والألوان ..
خلق الله القلوب وأودعها صدورنا دون أن يكون لنا حرية التصرف فيها ، نحنُ لا نتحكم في كمية الدم الذي تضخمه في أجسامنا ،
وليس لنا قدرة التحكم في نبضاتنا ، وعضلة القلب لا إرادية الحركة .. هكذا نشأ القلب فينا ، مستقلاً بذاته !
حتى في الحب ، معزولون عن حرية التصرف والاختيار ، يتدبرُ القلب أمورَه ، يُسكِنُ في جوفه من يهوى ، وننساقُ مع الحب لا إرادياً ..
وهذا القلب النابض فيني ، أغضب كل هؤلاء يوم اختاركِ ياسارة !
هؤلاء..
لو كنتُ خارجاً من خزيٍ وفضيحة ، لقاموا جميعاً يصافحون عودتي !
لو كنتُ عائداً من السجن ياسارة ، لهبوا من مقاعدهم يمطروني بوابل ترحيب ..
لكني تزوجتكِ ياسارة .. أقحمتكِ في دمائهم الزرقاء .. فصار وجودي ثقيلاً كليل امروء القيس ياسارة !
انقطع الكلام المباح وحل الصمت حال دخولي ، بعضهم خرج، وبعضهم بقيَ يرشقني بنظراتٍ يغلفها الشزر ، وصوت همهاتهم ليس تخطئه أذني !
كانت قبائل الجاهلية تبرأ ممن يقترفُ خزياً .. يطردون أبناءهم حين يجنونَ فضيحةً أو إثماً كبيرا ،
ألم تقرأي عن الصعاليك وتأبط شراً ياسارة ؟
جاهليّة الرياض صيرتني صعلوكاً دون رهط .. كل ذنبي تأبطتُ حباً ! صعلوككِ تأبط قلباً وما ينبغي له !
كنت أهمس في أذن والدي أسائله عن صحته ولم ينبس بحرف ، وأخبرني محمد أنه تعرض لنوبةٍ قلبية، أتعبتُ قلبه ياسارة !
وخرجت كما جئت كسيراً ، وتلقفتني شوارع الرياض أمشي وأفكر في أمري وأمرك وأمر أبي ، شعرتُ أني الرجل الأتعس في المدينة !
في بدء زواجنا كنت كالسكران لا يعي ، أعيشُ لذة الحب ببلاهة ، لستُ أدرك ماحولي ولا أفكر .. لا أرى لا أسمع لا ألمس إلا أنتِ ،
ثم بدأت حياتي تتراوحُ بين نقطتين ، التعاسة والسعادة ، أذكر الغائبين فأحزن وأتقوى على الحزن بنور وجهك ..
كنت أعيشُ بعيداً عن عائلتي كمعتزلٍ في غار بعيـد ، كلما ضاق قلبي قلت له " لا تحزن إن الحب معنا ! "
كان عقلي يترددُ بين صفاهم ومروتك ساعياً دون انقطاع ، أشواطٌ لا تنتهي ، وأجهدني السعيُ وخارت قواي ياسارة !
الآن ، كلا النقطتين تعاسـة ، ولا مفر من الحزن !
أمشي في شوارع المدينة وأفكر في الحزن الحتميّ ، يشب في صدري كحريق ، ماذا ستفعلين إن خذلتكِ وافترقنا ؟!
كيف تتلقينَ أخبار انسحابي ورفرفة علمي الأبيض معلناً الاستسلام لجيش الظروف القاسية ؟!
منظر الدمع في عينيكِ يقتلني ، وتخيلتكِ تبكين وكرهتُ نفسي ، وعرفت أني لعنةٌ تصيب كل مقتربٍ مني ، لماذا بات قدري أن أسبب الأسى لكل ملتصقٍ بي ؟!
أسوأ أقداري أن جعلت في عقوقي لوالديّ براً بك ، وأصبح البر بهما عقوقاً لك ، وعرفتُ أني لن أجمع الحسنيين ، وبات جنون الاختيار يعصف بي ..
ضج رأسي بكل هذا التفكير قبل أن أعود إليكِ تلك الليلة ، أتذكرين ؟ عدتُ بعمر شابّ وملامح سبعينيّ ، وسألتيني عن أبي وأجبتكِ باقتضاب " يشكو قلبه "
وقلتِ ستأمرين زهرة بإعداد عشاءي ، وصحتُ فيكِ بصوتٍ نزق " لا أريد شيئاً ، شاهدي قنواتكِ في الصالة أريد أن أنام "
وخرجتِ حزينةً ، لم أكلف نفسي عناء مُراضاتك ، واختليتُ بعقلي مفكراً ،
..ياسارة : تلك الليلة لم أنم !
* * *
مازلتُ أذكر شحوب ملامحكِ ذلك الأسبوع المشؤوم ، صفرة وجهكِ كانت مرعبة ، وعينيكِ تغوران عميقاً تغلفهم هالةٌ من سواد !
كنتِ تصرخين فيني بجنون كلما اقتربتُ منك ، دب فيكِ نفورٌ من حيث لا أدري ،
كانت يدي حين تلامسكِ أشبهَ بيد غريبٍ يريد إيذاءك ، وحين أسألك مابك كنتِ تبكين .. وأنا أكره بكاءك حتى في الفـرح !
ما عدتِ تغضبين من خروجي ، كنتُ قديماً حين أعود ، ترفعين في وجهي خطابات الشجب والتنديد ، لكن اختلف الحال ، بات خروجي كما لو كان يُريحك !
لا تكف هذه الأقدار عن لطمي ، يا لسخرية الأيام ياسارة !
جاءني اتصالُ شقيقتكِ صباحاً يومها ، كنت أعطي طلابي درساً عن " الفعل الماضي " وأفكر في المستقبل المخيـف ، واستغربتُ اتصالها المفاجيء ..
حدثتني بحديثٍ طويل عن وقوعكِ أرضاً بعد أن غادرتُ المنزل، وعن اتصال زهرة بها ، وعن المستشفى والطبيبة و... حديثٌ طويل انتهى بعبارةٍ أشعر بوقعها الآن :
"................ سارة حامـل " !
سعادتي الغامرة حين تزوجتكِ، ثم الحزن الذي اعتراني وصيّر حياتي مسلسل كآبةٍ مستمر ، كلا الحالتين النقيض، أنسياني التفكير في أمر الأطفال والأبوّة !
لهذا ، جاء وقع الخبر مزلزلاً ، سمعتهُ بفجائيةٍ بلهاء، كنت على وشك سؤال شقيقتك : كيـف حدث هذا !؟
آه ياسارة، كنتُ مشغولاً في تقرير مصيري ومصيرك ، آخر ما ينقصني التفكير في مصير شخصٍ ثالث !
في الأيام القليلة الماضية ، كنتُ أهوي في وادٍ سحيقٍ من الحيرة ، لم أتخذ قراراً نافذاً يخصني ويخصك ، أبقيتُ كل الأمور معلقةً دون حسم ..
لماذا لم أهتف سعيداً على وقع هذا النبأ كما يفعل الآباء في الأفلام ؟!
لماذا لم أغني وأرقص ، لماذا كنتُ أعودُ من الخرج واجماً شروداً ؟! أثناءها .. شعرتُ بالحزن، لأني كنتُ أكذب على نفسي كل هذا الوقت ،
لا لم أؤجل القرار ، أظنني كنتُ أتخذتُ قرارنا ياسارة ، كنت اتخذتهُ في أعماقي وأخدع نفسي ، وإلا لما اكتستني هذه المسحة الحزينة يوم أخبروني بتخلّق طفلنا ياسارة !
في بيت والدكِ كنتِ راقدةً على فراشك متعبة ، دخلتُ عليكِ زائراً قلقاً ، هل سأجيد تمثيل الفرح ؟!
وبكيتِ ياسارة ، كان بكاؤكِ خنجراً مسموماً أكرهه بقدر كرهي لهذه المدينة الآن !
أخبروكِ أن تلتزمي الراحة حتى لا تفقديه ، وأن النزيف يهدد بقاءه ، كل هذا قلتيهِ لي ثم ختمتِ حديثك المتعب بأصعب سؤال واجهته في عمري :
" فيصل ماذا سأخبره إن سألني عن جده وأعمامه ؟ "!
تركتُ الصمت المهيب عنواناً لإجابتي ، وعاد حديثك المدوّي يهطلُ على سمعي كسيلٍ من دبابيس مؤلمة، كانت نبرتكِ حزينةً وأتقوّى على الثبات أمامك :
" حيناً يافيصل، أتمنى أن يسقط ويهرب من هذا الجحيم الذي يعيشه أبوه .. " .. ثم غلبكِ البكاء وأكملتِ الحديث بصعوبة :
"..وحيناً، أتمنى أن يبقى في أحشائي وألِده ، أريدهُ منك، حين يأتي فلتمضِ يافيصل ، أريد بصمةً في حياتي منك لأذكرك طويلا "
هل تذكرين جوابي ياسارة ؟ كان انهياراً ! ماعاد السد قادراً على دفع سيل الدموع الجارف ..
بكيتُ أمامكِ للمرة الأولى ، لملمتُ أشلائي وانتشلتُ جسدي من حطام الحزن المتكدس في تلك الغرفة و انصرفت !
هل تعلمين أني زرتُ والدي في منزلنا مرتين ؟
كنتُ كلما جئته عائداً ساءت حالته واربدّ وجهه ، تنتهي زياتي بصراخ خالد ، أرحتهم من سيئات حضوري وأشفقت على قلب أبي من وزر مجيئي !
أصبحتُ مرضاً عضالاً ، أقترب من أمي فأشعر في عينيها حزناً على أبي وعتباً عليّ تفشل في مداراته ..
أصبحتُ آلةً تزرع الغضب في أي مكانٍ تمرّه ، أين وجّهتُ وجهي وجدتُ من حولي ينتظر مغادرتي بترقب !
لا زلتُ أذكر خالد حين تزوج ، كان أول من صيّرنا أعماماً وجعل من والديّ جداً وجدة ، حين أخبرنا بحمل زوجته أول مرة كان البيت كرنفالاً من بهجة ..
تكرر الأمر مع بقية أشقائي ، ذات الفرحة كان البيت يتلقاها حتى مع شقيقي محمد قبل عامين ، رغم امتلاء البيت بأطفالٍ صغار يزرعون في حضورهم ضوضاء تُفرح والدي ..
وأنا ياسارة أروح وأجيء متدثراً بخبر حملك ، مازلت أطويه في بئر كتماني كما لو كنتُ أستتر الفضيحة ،
طفلنا ، كنتِ تحملينهُ جنيناً ، وكنتُ أحملهُ سراً !
يُفترض بدموعي أن تكون الآن فرحا .. لكني أعرف أنها ليست كذلك ، دموع حزنٍ كدموعك التي تقتلني كل مرة !
شقيقك كانت نظراته ترسل لي نفوراً لا أحتمله ، مازال يتعالى عليّ بثرائكم ، يلتمع في صوته البارد حقدٌ دفين ، ووالدكِ مازالت نبرته تسحقني في كل حديث..
قال لي وأنا أخرج من زيارتك في بيتكم " ابنتي ليست سعيدة! أعرف ذلك في عينيها " !
كان يلقيها بغضب ، كان يقرّعني ، كأنه يخبرني أني الاختيار الخاطيء لفتاته ، وأجدني أسوقُ أعذاراً بلهاء ، أعتذر بتعبك ووهنِ الحمل وأنا الذي أعرفُ جيداً أسباب حزنك !
ضاقت بي المجالس ، خيّم الليل في عيني ، أسيرُ في الطرقات مشياً لا إلى مكان ، تماماً كأيامنا القادمة لا أدري إلى أين تمشي..
الحب في الرياض يعاني بيروقراطيةً لا أدري من فرضها .. حين يمارس اثنان في أي بقعةٍ من هذا الكون حب بعضهما ، لا شيء يعيقهما أن يفعلا حياةً سعيدة ..
لا إجراءات معقدة تجتاحُ ورقة حبهم قبل اعتماد ، أما في الرياض، يلزمنا موافقاتٌ من أناس كثر ، لا يكفي أن نقرر وحدنا ، نحتاجُ ألف مشورةٍ وتواقيع الرضا ،
وبعد كل هذا ، يخبروننا أن مشروعنا تمت الموافقة عليه وبورك الحب وحامله !
حبيبكِ ياسارة ثار بشبابه على كل هذا ، ظنّ أن المدينة وواقعها التعيس يقبل التغيير ، كان يردد ببلاهة " الموت للجبناء " !
تغيير واقع هذا المدينة يشبه زحزحة هذا الكون من مكانه ..أنت لا تدري من أي نقطةٍ تلامس يدك هذا الكون لتبدأ الدفع ، ولو وجدتها ، تحتاجُ قوةً جبارة لتحركه خطوةً ضئيلة ،
هذه القوة تماماً هي القوة التي أحتاجها الآن في مواجهة كل ما يعترضني من مآسي !
مضت الأيام بي كتائهٍ لا يجد دروبه ، طرقات هذه المدينة لا تنتهي وأنساق معها وحيداً طريداً ، كان صوتُ أغنيتكِ المفضلة يبكيني ..
"اصحى تزعل" ! أهديتيها لي قبل زواجنا وغنيتيها كثيراً بصوت العنادل القابع في حنجرتك ، وشعرتُ أني لأول مرةٍ أسمعها الآن :
((اصحى تزعل ، لو تفارقنا و بعدنا ، وجيت مره عنّك اسأل !
ماتهون ايام حبك ، حلوه كانت ولاّ مرة ، تبقى انتَ في حياتي أحلى حب وأحلى عشرة ..
آه يا زماني .. اللي تغير ! من بقى بك ما تأثر ، اصحى تزعل ))
لماذا من بين آلاف الأغنيات اخترتيها لتكون أغنيتنا ، ولماذا في ثالث مكالماتنا قبل عام ونصف كنتِ تلحين أن أستمع إليها ..
أكنتِ تعرفين مصيرنا وأنا لا أدري . هل استشرفتي الغيب أو اطلعتِ على أيامنا في عقلك الباطن ، هل اعترتكِ حالة " ديجافو " طويلة المدى ؟!
لا أظن .. لكنها صدفةٌ محضة ، وإلا لكنتِ بلهاء وأنتِ ترتبطين بزوجٍ تعرفين أنه لعنةٌ تمحقُ كل أرضٍ يجوسها!
هل تذكرين حين أخبرتكِ بوجهٍ دبت فيه سمرة الحزن وانحسر بياضه ، أن والدي يحتاج عملية قلبٍ جراحية ستُجرى له بعد عشرة أيام ؟!
هتفتِ ببراءةٍ أنهكتني :" فيصل هل أخبرته بحملي ؟ " كان صوتكِ بريئاً لكنه صوتُ عقلٍ يخبرني أنكِ ماعدتِ طفلة !
كنتِ تعلمين ياسارة بأن إخبارهم يشبه فيضاناً ضارباً يجتاحهم ، ابتسمتُ لكِ وقلت " لا " ، وسمعتُ تنهيدة الراحة عابقةً في صوتك !
أكنا لصّين نواري مالاً سرقناه ؟ أو إرهابييَن يتكتمان على عملية تفجير أنجزاها في جنح ليل ،
ألم نحمل ورقةً تخبرنا أننا على سنة الله ونبيّه ؟ وعلمونا طويلاً أن الحلال فضيلـة، مابال المدينة تضيقُ الآن بالحلال كالحرام فجأة !
أسئلتي لا أملك لها جواباً .. هل تذكرين ؟ كنا نتحدث عنه بالاشارة ، أسألكِ عن طفلنا بالإشارة لبطنك فقط:
" هل سيبقى ؟ هل هو بخير ؟ هل تشعرين به " كنت أستعينُ عليه بضمير الغائب في حضوري وحضورك وحضوره!
كان يفترض بي أن أقول هل طفلنا بخير .. هل تشعرين بطفلنا ؟!
لكن كلمة " طفلنا " تشبه البكاء في تلك اللحظة وماكنتُ أقوى نطقها !
***
لا أنسى ياسارة تاريخ السابع عشر من شهر محرم ! تاريخ ميلادك ..
في هذا اليوم ، جئتِ للدنيا وجئتِ إليّ ، كنتُ طفلاً سبقكِ للدنيا بعامين .. حينها كنتُ في قريتنا أمشي محاطاً بحب الجميع حولي ..
لا أدري في اللحظة التي جئتِ للحياة أين كنت على وجه الدقة .. ربما في بيتنا أو بين النخيل أو واقفاً ببابنا الأسود القديم !
في ذلك اليوم وأنا طفل العامين لا بد أن شيئاً اعتراني لحظة ولادتك ، كما تعتري الأنبياء رجفة الوحي أو كما ينقبض صدر الأم حين تشعر أن ابنها تعرض لخطر ..
لا بد أن شعوراً خاطفاً أو تعبيراً لا إرادياً أو لحظة وجوم طافت بي ، من المحال أن تكون تلك اللحظة عادية ، لأن أهم أقداري جاء إلى الدنيا !
وكبرنا ولم نعرف أسماء بعضنا ولا نعرف من نحن ، مسرح حياتي لا يشبه مسرحك البعيد ، شابٌ مثلي وفتاةٌ مثلك لا بد أن تسير حياتهما خطين متوازيين بلا نقاط التقاء ..
لكنّ القدر ياسارة كان يحرفُ مساراتنا وتميلُ خطوط حياتنا حتى شكّلت رأس مثلث ، جمعنا متجر ماجد .. والتقينا !
أسأل نفسي طويلاً :
ماذا لو كنا نعرف غيبنا؟ .. ونعرفُ أقدارنا وكل أحداث ما بعد ذاك اللقاء .؟ أكنتُ سأحضر لماجد أم كنت سأهربُ مختبئاً في زوايا المدينة ؟
أكنتِ تحضرين أم ترسلين جهازكِ مع سائقك ؟ لا أدري .. كلما أدريهِ أنّا هاهنا نعيش حباً تحت حصار !
يوم الرابع عشر من شهر محرم ، بقيَ على عيد ميلادكِ ثلاثة أيام ، وبقيَ على عملية والدي يومان ليس أكثر !
يوم الرابع عشر من محرم سيكون تاريخاً يُنسيكِ يوم ميلادك كل العمـر ! ولن أنساه ما حييت ..
قبله بيومين أدخلت المستشفى وخسرتِ الحمل ، غسلوكِ من طُهري الذي صيّروه جريمة !
حين عرفت، بكيتُ حزناً ، ليس عليه ، بل على ارتياحي للخبر !
أليس مؤلماً أن أرتاح ياسارة في يومٍ يجبُ فيه أن أحـزن ؟!
هل تذكرين حديثنا ياسارة أيام الخطوبة ؟ كنا نضحكُ من أطفالنا الذين خلقناهم في مخيلتنا ولم يأتوا بعد ، " سعود و عنود " ،
كان ذاك حديثُ عهدِ الصفو وأيام النعيم ، تخيّلناهم وكسيناهم وأنشأنا لهم غرفاً مستقلةً في منزلنا ،
وتخاصمنا بلذة العشاق كيف نربيهم ، كنتِ تقولين اترك تربيتهم لي ..وأخبرتكِ حينها : دعي الطفل لي ، والطفلة لك !
وضحكنا حين قلتِ : أخشى أن يرثوا نرجسيتك !
وختمتُ الحديث البريء " حسناً كل أمرهم متروكٌ لك ، المهم أني أمتلك قلب أمهم " وسمعتُ خجلك يفوح من صمتك ياسارة !
الآن ، ذهب طفلنا الذي لم نفرح به ، لكن عزاءنا ياسارة سُمرة الحزن التي تكتسينا وهو يغادرنا بعد أن حل ضيفاً أسابيع قليلة ..
حاولتُ مواساتك وكان كل الحديث هباء .. من السخف التمثيل أمام من يعرفُ كل شيءٍ يعتملُ في خفاك !
وعدتُ لبيتي ذليلاً ، ووقفتُ أمام غرف الأطفال ، طالما وجدتكِ نائمةً فيها وكنت أظنك تستغرقين معهم في خيالك الخصب ،
وبحثتُ في الغرفة عن سعود و عنود ولم أجد إلا ظلمةً كئيبة وصمتاً يقتلني جموده ..
ورادوتُ النوم واستعصم ، تحسستُ فراشنا ولم أجدك، وباغتني شعورٌ أنني لن أجدك مرةً أخرى ..
وأن خسارة الطفل ليست آخر خساراتي .. هناك أفدح !
" فيصل خلاص ، لن أغادر بيت والدي ، أرجوك لا تأتِ .. ستبقى أجمل شيءٍ حدث لي " !
هذه رسالتك التي لم أنساها ، قرأتها فجراً حين استيقظتْ ، ماذا أقول ياسارة .. أقسم أن الأرض زُلزت تحتي ، وشعرتُ بالسماء المتعبة من الوقوف تستريحُ على ظهري !
قرأتها بطعم ابتلاع الزجاج ياسارة !
ليلةٌ باردة في آخر أيام شتاء ، والمطر يهطلُ ليجعل كل شيءٍ في الجوار حزيناً ، غسل الأرض ولم يغسلني من همومي أحد ..
والدي ازداد مرضه تلك الليلة ، وكان شقيقي يلح أن آتي لأزوره مهما يكن ،لكني لم أفعل ، أجّلتُ ذلك بعد أن أنتهي من كل شيء .. ووقفتُ أمام بيتكم !
كنتُ قبل أشهر أخطو إليه خاطباً ، ثم عريساً ، ثم زوجُ سارة ، والآن أخطو إليه ربما آخر مـرة !
ليس غريباً وجه والدكِ المحتقن ، وقفتُ في مجلسهِ تماماً كما جئتُ أول مرة ، كان وجهي يُخبر بكل شيء .. لكن والدكِ ليس يفهم !
هبّ فيني متحدثاً عن حزنك ، نحيبك المتواصل ، خوف شقيقاتكِ عليك ، كالَ ليَ التهم ، أشبعني اتهاماً ياسارة .. ولم أجب ..
فقط وضعتُ يدي في جيبي، أخرجتُ مفتاح البيت ، جنّتُنا التي ضمتنا سبعة أشهر ، ورميته على الطاولة أمامي :
" خلاص يابو مشاري ! لستُ الزوج المناسب لسارة ، مهما فعلت لن أستطيع إسعادها .. "
لعنني وقزّمني كثيراً ياسارة ، قال لي تماماً كما قال ابنه " في ظروفٍ طبيعية ماكنا نفكر في قبولك زوجاً لسارة "
سبعة أشهر من الصمت على عجرفته ، في الرياض لكل منا ورقةٌ رابحةٌ يستخدمها حين خصام ، أزال التقية وأودعها سمعي صريحة ، وأنا مللتُ السكوت :
" وفي ظروف طبيعية يابومشاري، أنت تعلم أني لن أفكر في التقدم لك " ! هكذا ياسارة .. طالما يريدها حفلة شتمٍ فلتكن ، كنت أنحطّ وأعلم ذلك .. اعذريني !
" يوماً ما سأحقق ثراءً ، وأصل مكانتك ونتساوى ، لكن مهما أثريتَ أنت لن تتساوى معي في هذه الرياض ، هنا لن تتساوى معنا .. "
أرأيتِ كيف أنحططتُ لأسفل القاع ؟، آمنتُ بكل ماكفرتُ به قديماً، وبتّ رجلاً كأي رجلٍ آخر في هذه المدينـة ، هذه الفوقية والعنصرية أوراقٌ رابحة وكلنا ينطوي على ورقةٍ تخصّه ..
انتفضت يد والدك وأشار للباب " برا يا وقـح يا حقيـر يا ... " عشراتُ الكلمات التي لم تزدني حزناً .. وصلتُ لأبعد نقطةٍ فيه ولم يعد شيئاً ذا بال !
" سارة طالق " آخر ماجاد به اللسان تلك الليلة وأسوأ ما جاد به طيلة العمر !
ليلتها عرفتُ أني خسرتكِ حقاً ، وأنكِ حلمٌ انقضى وأفقتُ منه ، وأني سأبدأ رحلة صراعٍ مع نسيانك .. كُتب علي الصراع منذ تعارفنا ياسارة !
وبكيتُ في طرقات المدينة كغريب ، شعرتُ بالشوارع تلوكني كعلكةٍ فاسدة ، سرتُ بين أفكاكها حتى جن الليل ، وتغزّر المطر ..
صوتُ الرعد كان مخيفاً ، ولمعة البرق تنشق في السماء عن ملامح وجهك النوراني ، سألت نفسي هل أخبروك ؟ هل زفوا إليك خبر رايتي البيضاء واستسلامي ؟.
أقسم لك أني كنتُ أُشرف على طريق الملك فهد وكان مختنقاً بالسيارات المتكدسة كذرات الحزن في جسمي ، كلما تخيلتُ بكائك ياطفلتي فكرت في رمي نفسي في هذا الطريق لأستريح ، جبانٌ لست شجاعاً ـ أردتُ الهرب انتحاراً من هذه الحياة وهذه المدينة .. وخذلتني الشجاعة ياسارة!
أتعلمين ماذا فعلت بقيّة تلك الليلة السوداء ؟!
ذهبتُ للمستشفى وانزويتُ في حضن أبي ، وهمست في أذنه باكياً " كل شيءٍ انتهى كل شيءٍ انتهى " !
" ... تألمتُ كثيراً وأُهِنتُ كثيراً وحاربتُ كثيراً لكن من الآن وصاعداً .. كل شيءٍ سيتوقف ، انتهى كل شيء ياأبي .. " وبللتُ فراشه وبرودة أطرافه بحرارة دمعي ..
كان لا يستطيعُ الحديث ياسارة ، كلما أراد الكلام تصاعد صوتهُ بين الأنابيب كصوت المضمضة، أرخى يده المتعبة على رأسي وشعرتُ بصفحه ..
انظري ياسارة ، لم يهنئني أحدٌ يوم زواجي بك ، وامتلأتُ بالتهاني يوم وفراقك !
خرجت على غير هدى ، كان الليل مخيفاً ، أسيرُ شريداً في الشوارع .. ليس معي إلا سجائري أنفث معها أحزاني لعلي أستريح ..
كان الليل يشتل فيني أشجار الهم والقلق والخوف .. مضغني الحزن وابتلعني ياسارة ، كل المارّين كانوا يرَون في وجهي عذاباً يُستعاذ منه !
كيف سأعود لأيامي القديمة : شاباً بأحلام طبيعية ؟، كيف أنسى؟ .. أنتِ مثل اسمي ، أحتاجُ موتَ ذاكرتي لأنساه !
كنتُ فتىً لا يعبأ بما يدور حوله ، من أوهمني أني القادر على التغيير وأني جيفارا الثائر على كل شيء ..
دخلتِ حياتي كقوةٍ جبارة ، واجهتُ بكِ كل شيء ، خضتُ بكِ حروباً لا تطيقها بداية عشريناتي ، وعدتُ بوجهٍ يحملُ سمرة الحزن وتغضن السبعين !
جئنا كـ ومضة ، وعشنا كـ حلم ، وانتهينا كلغزٍ سرمديّ .. ياسارة !
أعلم أنكِ بكيتِ كثيراً ، كانت دموعكِ الناشجة خلفيةً صوتيّة لكل مشاهدي تلك الليلة، ونسيتُ نفسي ووقفتْ بي سيارتي أمام بيتنا الذي غادرني مفتاحه للأبد ..
شاهدتُ نافذتنا غرقى في الظلام ، وغرف أطفالنا الذين لم يأتوا ، ومسحتُ رقمكِ من هاتفي .. وبدأتُ أستعد للفوضى الجديدة ، فوضى غيابك وانحجابك للأبد !
كل الرياض كانت نائمةً في ذلك الهزيع ، وحدي من كان يقظاً يغسل الدمع عينيه عن الكرى ، وشعرتُ أني وحيد .. ليس هناك أقسى من مواجهة الحزن وحيداً ياسارة ..
وناداني صوتٌ كأني أسمعه لأول مرة ، هبط في أذني ولامس شغاف قلبي وشعرتُ به يناديني ..
كان أذان الفجر الأول ياسارة ، 14 شهراً وأنا الغائب عن بيوت الله ،أقسم لكِ أني شعرتُ بهاتفٍ ينادي في جوف الليل تعال يا أيها الحزين ..
ومشيتُ حثيثاً تختنق عبراتي في صدري ، ودبت فيني سكينةٌ يوم دفعتُ باب المسجد ، وداهم خواء روحي خشوعٌ غاب طويلاً ..
نظرتُ للمصاحف للمحراب وشممتُ رائحة الطمأنينة تعبق في المكان ، وعرفتُ أن الله يراني .. خارت قواي وشهقتُ بدموعي ياسارة ..
ارتميتُ على الأرض في غير طهارة ، عفّرت جبهتي في السجاد وبدأتُ أبكي ..
لم أكن أدعي لم أكن أسأل لم أكن أرتجي .. كنتُ أبكي إلى الله وحسب ! كان بكاءً يتخللهُ راحةٌ من حيث لا أدري .. وعرفت أني بحضرة الرب الرحيم .. وهتفتُ بصوتي أزرعه في الأرض ليصعد في السماء : رب ارحمها ، وارحم ضعفي .. أعوذ بنور وجهك من ظلمتي هذه ، وأعوذ برحمتك من قسوةٍ تلفني .. رب كن معها وكن معي .. لذت بالمسجد تلك الليلة ياسارة .. وتوضأتُ وصليت أول ركعتين بعد قطيعة ، وقرأتُ سورة يوسف أتسلى بها عن أحزاني .. كل هذا كان في الرابع عشر من شهر محرم ياسارة .............
........................" . فيصل
* * *
لن تقرأي رسالتي هذه ، اعتدتُ كتابتها منذ ثلاثة أشهر، منذ افترقنا ، أكتبها ثم أودعها سلة مهملاتٍ تمتليء بشقيقاتها ،
هاهو ربيعُ الثاني يفرشُ اسمه في التقويم وعلى توقيت المدينة ، وليس ثمة ربيع ياسارة ،
خريفٌ هذه الدنيا بعدكِ ، أكتب لأسلو ، أبعث حزني بين سطوري لأنام ، أكفكف دمعي بتدبيج الحروف ، صار النوم يتجافى عني في سطوة هذا الحزن ،
وأستعين عليه بالله وصبري وصلاتي ثم بالكتابة !
لا أعرفُ بعد ليلة الرابع عشر من شهر محرم ماذا جرى لك ، ربما تكونين في الرياض ، ربما رحلتم مع الراحلين في هذا الصيف ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ،
تجافيتُ عن عالمكِ للأبد ..
ستبقين جرحاً غائراً .. وندبةٌ في قلبي ، وأعرفُ أني سأموت ولم أنساكِ يا سمراي الجميلة !
2004 / الرياض
:
:
38
(( الرياض / بعد خمسة أعوام ))
:
:
حين يخرجُ الرجل من قصة حبٍ جامحة ، انتهت بفشل ، يمر بدورةٍ مألوفة : يسقط حزناً ، يكتئب ، يحاول النهوض ، ينهضُ ضعيفاً ، يبدأ الحياة مجدداً من الصفر !
يظن من حوله انه اجتاز الخطر ، صار طبيعياً كما هم تماماً .. لكنهم مخطئون ..
هو اعتاد التمثيل حتى أتقنه ، هم لا يعيشون ليله حين يختلي بذاته ، ليل المحبين قاتمٌ بلون الحقيقة !
الحزن بعد الحب يشبه اشتعال السيجارة ، يبدأ قوياً همجياً ، كالنار تبدأ دفعةً قويةً تعلقُ في طرف اللفافة ، ثم تخمد .. وتسري جمرةٌ رتيبة تأتي على السيجارة حتى تنتهي ..
والعشّاق هكذا ، لا يُشفَون .. لكنهم يموتون ببطء !
حين يعصف بالرجل جرح الحب ، يحتاج مدةً طويلة ليهدأ نزفه ، وتتطامن روحه ،
.. لا يلتئم الجُرحُ وفينا ذاكرة!
يصل لاقتناعٍ تام أن سعادتهُ قضت ، ويبدأ البذل بسخاء لكل من حوله ، لا يحتملُ حزن الأقرباء والغرباء ، يريد أن يمنحَ السعادة لكل من يستطيع .. بعد أن اقتنع أن سعادته مضت !
وهذا ما أنا عليه الآن بعد خمس سنينٍ عجاف ، أصبحتُ أباً لأشقائي وشقيقاتي ، أقربُ الخلق طراً لهم ، وملاذاً رحيماً لكل مشتكي ..
حتى طلابي صارت بيني وبينهم أبوةٌ وألفةٌ لا يجدها أي زميلٍ آخر ..
بعد أن غادرتني سعادتي ، وعبثاً أحاول استرجاعها ، أريد أن أمحضها لكل باحث ، طبيبٌ يداوي الناس .. وهو عليلُ !
الكتابة اندلاع جرح ، صدق كافكا ..
عزائي في مأساتي الماضية أني خرجتُ منها بنزفٍ حبريّ ، وقف له الكل احتراماً ، صارت قصصي أشد ما تلقى رواجاً .. نقلتُ الحزن والجرح لساحة الورق ..
تنفستُ حزني حروفاً ، وصارت أطلالي أدباً يُشاد به طويلاً ..
الكتابة علاجٌ مؤقتٌ للحزن ، يؤخذ عند اللزوم ، كلما عاودتني كآبة الذكريات صُغتُ دموعي حروفاً أبتلّ بها من سقمي !
الكتابة تشبه عكازاً ، أو كرسياً متحركاً لمُعاقٍ عن المشي ،
هذا الكرسيّ لا يجعل المعاق كالأناس العاديين ، ولا يغيّر في إعاقته شيئاً ، لكنهُ ينقلُه ، يسهّل كثيراً من صعوبة واقعه ،
والكتابة لم تكن لتزيل حزني تماماً ، لم تصيّرني رجلاً عادياً خالياً من جرح ، لكني بها كنتُ أتحررُ قليلاً !
خمس سنين ، لم يعد كل الحزن مكبوتاً في صدري ، سكبتهُ أبجديةً في جنبات الورق ، تقاسمتُ وأوراقي ترِكة سارة الثقيلة !
سـارة ، مازال اسمها يخزّ قلبي ، جرسُ نطقه يخلقُ دمعة !
مضغني الحزن خمس سنين ، أهداني سمرةً كالحة ، وملامح مندقّة ، وابتسامةٌ كلما بدَت خالطها بعض صفار !
صارعتُ الموج وانتصرت ، موج سارة ، كان يُفترض بي أن أموت ، من أحب فتاةً كتلك لا يمكن أن يحيا بعدها .. لكنّ سهام الليل التي ما فتأتُ أبعثها لم تخطيء ..
عدتُ للحياة مجدداً أحمل جرحاً اعتدته ، بات بيني وبينه أُلفة .. أسكنتُ سارة في قلبي ومارستُ الحياة .
ها أنا أقفُ الآن في عرسٍ ثقافيٍ بهيج ، أقفُ كدليلٍ آخر على نجاحي في الخروج من ليلي الأدهم ..
أقف في معرض الكتاب أحمل بطاقةً تزيّن جيبي الأماميّ .. تحمل اسمي مسبوقاً بـ " الأستاذ الأديب " ، اليوم أوقعُ كتابي الثاني .. مجموعةٌ قصصية تحمل عنوان " حديث الغرباء " !
أخبار التوزيع تسعدني ، مبتهجٌ لتلقّي الناس كتابي بحبور ، أوزعُ حزني بينهم في قصصٍ مكتوبة بجرحي وحبر قلبي ، يتلقفونها كأنهم يقولون لم يذهب حزنك سدى !
حين تنشر كتاباً ، هذا يشبه تماماً تلقيّك لمولود ، طفلٌ يحمل اسمك ، باتت حروفي فلذات كبدي ، وأدبي عائلتي السعيدة ..
أنظرُ لقصصي مطبوعةً تحملُ اسمي وأتخيّلها مجموعة أطفالٍ ربّيتهم طويلاً ، كسيتهم علمتهم أطعمتهم ، ولما بلغوا زينتهم وزخرفهم أخرجتهم للناس ممارياً بهم الحشود ،
أفاخر بهم في هذا الجمع الكبيـر كأب يمشي ويتلوهُ أبناؤه ..هاهو أدبي يخبر العالم أني ما بتّ وحيداً !
بعض طلابي وزملاء المدرسة ، أصدقائي ، لفيف المعجبين بحرفي ، وقعتُ لكل هؤلاء سعيداً ، كنت أكتب اسمي بزهو وأتلقى التهاني كيوم زواج .. لا أقول يوم زواجي .. أنا الرجل الذي لم يعرف التهاني في يومه القديم ذاك !
نسخٌ كثيرة من كتابي مضت ، ذهب أطفالي مع الناس يخبرونهم عن الحب والرياض والفتاة السمراء وكل قصص المدينة في ست سنين !
- فيصل ؟!
سمعتُ اسمي حين هممتُ مغادرة المكان !
امرأةٌ تحمل طفلةً سمراء جميلة ، تقفُ أمامي بصوتٍ أتذكره ولا أنساه !
قبل أن أسترجع الصورة القديمة ، قبل أن أعرف محدثتي هتفَتْ بي :
- أنا .. سارة !
خمس سنواتٍ لم أرها ، ودعتها في غرفة المستشفى الكئيبة يوم خسرنا طفلنا ، ويصفعني الزمنُ بعودتها تحمل طفلةً ليست تنتمي لي !
شممتُ عطورها القديمة ، وسمعت أغانينا القديمة ، ومر في سماء ذاكرتي صوتها القديم وضحكتها وأنوثتها الطاغية ، ومغامراتنا في سماء المدينة ،
ورواياتنا التي تحدثنا عنها ، وليالينا التي أحييناها وودعناها ، وعواصفنا التي اجتاحتنا ، مر كل شيءٍ وأفقتُ على صوتها .. تحمل طفلتها باليمنى وتقدم لي كتابي بيسراها :
- ممكن توقع لي ؟!
ثلاثون ثانية أستوعب طلبها ، ثلاثون ثانية ألكز رأس قلمي لأبدأ ، ثلاثون ثانية أفتح صفحة الكتاب الأولى ..
دقيقة كاملة ردّدت نظري بين الكتاب وبينها وبين الطفلة ، دقائق لم نتحدث ..
كنا نحترم جُرحنا ، وقفنا له باحترام .. دقائق حِداد نكّسنا فيها رؤوس الحديث ولم ننبس .. تركنا لعيوننا لغة الكلام ..
لا بد أن سمرتي هالتها ، نحولي أخبرها بكل شيء ، ملامحي الغائرة قدمت لها نبذةً سريعة تلخص خمس سنين ..
صوتها الخفيض .. نظراتها التي تحاولُ عبثاً إخفاء لهفتها ، ابتلاعُ الصمتِ لسانها ، كل هذا يخبرني أنها لم تنسَ .. لم تنسَ وإن حملت قبيلة أطفال !
أوقع إهداءً لسارة :
" إليها ، إلى من علمتني أن الحياة موتٌ طويل ، إلى من جاءت وأهدتني أجمل أيام العمر ، ثم راحت وتركت لي أقسى لحظات الحياة .. إلى سمرائي العصيّة على النسيان "
أردتُ كتابة ذلك .. ثم استعذتُ بالله من جهل خاطري .. ولم أكتب ، نظرتُ إليها وكانت تنتظرُ توقيعي ، وفكرتُ أن أكتب :
" إلى أم أطفالي الذين لم يأتوا ، إلى من انتظرتُ منها سعود والعنود ، وغابت ولم يحضر سعود ولا العنود ، تركَتْ لي في القلب جروحاً أربيهم كأطفالٍ يتامى من أمهم ! "
لم أكتب هذا أيضاً ، وخطَر لي بعد خمس سنين أنها بحاجة أجوبة ، لكزتُ رأس القلم مرةً أخرى وأوشكت أن أكتب :
" إهداء ، إلى من سأصعد في أرذل العمر ولن أنساها ، كأنما حدثت لي أمس ! عبثاً تحاول السنوات زحزحتكِ عن صدارة الذاكرة ، إلى من ستكبر وتشيخ وتهرم في ذاكرتي ..
رحل أبي بعدكِ بأشهر ..وحفرنا لأمي في الأرض سجادةً من تراب ، رحلوا ورحلتِ ، خلفتموني وحيداً ، وصرتُ يتيمَ الثلاثة .. هل مرّ بكِ يتيمُ ثلاثةٍ من قبل ؟! "
ابتسمتُ ساخراً من فكرة اهدائي السخيفة :
" إلى سارة ، طفلتي التي خذلتُها، واستسلمتُ لقسوة واقعنا التعيس ، إلى التي تركتها في أشد أوقات الحاجة لي ..
الى التي هبطتُ من جنتها بخطأي ، كما هبط أبي من جنتهِ من قبل ! أهدي هذا الكتاب "
لم أكتب !
" إلى القابعة خلف أسوار الليل ، التي جاءت كحلم ، إلى التي نلتُها وعاشرتها وقاربتها أجمل سنة في عمري ، إليها ، تلك التي ضاحكتها وغنيتها أنشودة عمر ،
الى التي نسيت طعم لمسة يدها ورائحة جسمها ونبرة صوتها ، توارت خلف خمس سنين ، لا أصدق الآن أني كنتُ قريباً منها يوماً، أو كنتُ أحدثها تحدثني وتتركُ لي قميصها أفتضه زراً زراً ..إلى التي بدأت أشك أنها أضغاث حلم جميلٍ لم يحدث .. وهو أجمل ماحدث! "
" إلى من علمتني أن أكون طفلاً ذو أمنيات كبيرة ، وغادرتني وطارت أمنياتي كأسراب حمام ، الآن بات العمر أداء واجـب ، أمنياتي محدودة :
أعيش لأكتب ، لأُسعد من حولي ، لأخبر الناس أن الحب في هذه المدينة أسطورةٌ ليست حقيقة !
شاهدي أمنياتي ، لم يعد بينها أن تعودي ! ظلي هناك بعيداً على حدود السحَر ، وعلى أطراف السحاب وفي وجه القمر.. لا تعودي لم يعد للحب فيني مستقر ..
إن قلتُ أني ماهويتُكِ .. كذبيني ، إن قلتُ أني قد نسيتكِ .. كذبيني !
اختبئي خلف قلبي ، أغطيكِ كل ليل بعد أن أربت على كتف اسمك ، يا أجمل أيامي التي خلق الله .. "
خطَر لي كل هذا ولم أدوّنه ، لكني أخيراً رحتُ أكتب خاطاً بحبر قلمي :
" إلى ملهمتي وباعثة الحرف من مهده.. التي لولاها ما كان هذا الكتاب ، ستجدين صورتكِ كثيراً هنا بين السطور ، وستقرأين في كل حرفٍ امتناناً لك !
إلى سارة ، أجمل ما حدث لي رغم كل شيء .. فيصل . "
كنتُ أكتب هذه الحروف ، وطفلتها الصغيرة تمتد يدها في جيبي لتنزع بطاقتي البرّاقة .. كانت تشاغب هذا الكرت الذي يحمل اسمي وصفتي ..
حين انتهيت التدوين ، خلعتُ بطاقتي وأعطيتها للطفلة :
- لا لا فيصل ، خذها ...
- دعيها معها ياسارة ، دعيها .. لتعرف من الآن ، أن الأسماء أهم ما في هذه المدينة !
- مارأيك فيها فيصل ..؟
- جميلة .. تماماً كـ أمها !
:
:
2009
تمت .