ابيض واسود
حتى الحروف رفضت أن تخضع لجرة قلمه, فهو كلما أراد أن يعبر عن فكرةٍ ما كانت الحروف تتباعد وتغير مواقعها على الورقة البيضاء, لينظر إليها كل مرة وجد فيها جُملاً أخرى.
حتى الحروف رفضت أن تخضع لجرة قلمه, فهو كلما أراد أن يعبر عن فكرةٍ ما كانت الحروف تتباعد وتغير مواقعها على الورقة البيضاء, لينظر إليها كل مرة وجد فيها جُملاً أخرى.
كانت صبا- الطفلة ابنة الربيع الخامس- تركض أمامه ضاحكةً ملء فاها, وهو يحاول الامساك بها في لعبة طفولية تنتهي بأن يحملها على كتفه ويدور بها في أرجاء الغرفة, وهي تطلب منه المزيد كلما تراخى أو حاول انزالها, حتى ترضى أخيراً بقطعة حلوى صغيرة مقابل هدنة استرخى فيها لفترة لتطالبه بعدها من جديد باللعب بعد أن تذوقت القليل من الحلوى.
لكن الحروف خانته من جديد, واعادت ترتيب نفسها بعبثٍ جنوني, ليجد نفسه من جديد يقرأ ما غيرته الحروف:
كانت صبا- الطفلة ابنة الربيع الخامس- تصرخ أمام بيتها الذي فجرته قنبلة عنقودية تزن أكثر من وزن الصغيرة لتقدم لها هدية الميلاد جثثاً هم أفراد اسرتها جميعاً, واصبعين من يدها الصغيرة الغضة الطرية, مرطبةً كل هذا الحزن الحار بدموع عينيها التي فاقت غزارتها بركة الدم في البيت, وطغى صوت صراخها على هدير محرك الـ ب-52 , وكل الأسلحة التي تحملها كطائر موت تحت جناحيها.
نهض غاضباً مرة أخرى لينفث سيكارة أخرى بجانب الشباك محاولاً الهروب من هذه الحرب التي اعلنتها الحروف عليه, آملاً التوصل إلى هدنة صغيرة تستكين فيها الحروف لأفكاره.
انتظرها طويلاً ذاك المساء, حتى جاءت إليه أخيراً بابتسامة صغيرة على شفتيها. كان ما جمعهما من حب رغم قصر الفترة كافياً ليثبت له أنها تحبه, وأنها تأخرت فقط بسبب زحمة الطريق التي لم تكُ طبيعية كازدحام الأفكار في مخيلته التي لم تريحها إلى رؤية تلك الابتسامة معلنة نهاية معاناة الانتظار.
قبل أن يعود لكتابة هذه الفكرة الجديدة, وكلما كتب كلمة تغيرت أمام عينيه سابقتها, وكأن الحروف ازدادت ضراوةً وقسوةً, حتى قرأ ما كتبته الحروف:
انتهى به المطاف لخمارة صغيرة بعد انتظار دام طويلاً لكنها لم تأت. شرب كأس يأسه ومرارة الواقع الذي يعيش, وضاجع قبل أن ينام هزيمته معلناً في الصباح دفن الحب.
أصرَّ مع ذلك على المتابعة محاولاً سحق الحروف بفكرة أخرى .
كانت فرحته عظيمة جداً عندما استطاع الدخول في كلية الطب للدراسة, كفرحته وفرحة أهله عندما تخرج منها بعد ست سنوات من الدراسة والمعاناة. الآن يشعر أنه انسان آخر أكثر مما يقال عنه كدكتور. لقد استطاع تحقيق شيئاً عظيماً في حياته, بعد طريق طويل من المعاناة والتضحيات.
لم تكُ هذه الفكرة الجديدة كفيلة بتغير طبيعة حروفه العدائية التي مالبثت أن تغيرت مرة أخرى ليجد نفسه أمام معاناة جديدة, فقد كانت الظروف المادية أقوى منه بكثير مما اضطره للعمل لتأمين قوت يومه الأمر الذي هزمه أمام رغبته في انهاء دراسته قي كلية الطب حتى اللحظة الأخيرة. كان حلماً رائعاً أن يتخرج كطبيب, لكنه أفاق منه ليجد نفسه بائعاً على الرصيف مثل الكثير غيره من أهل الحي, من دون حتى أن يبيع شيئاً ذاك اليوم.
انتصف الليل, ومازال يسمع صوت الحروف تتحرك في سخريةٍ كأنها قدرٌ لا مهرب منه. كان يخشى أن ينام قبل أن ينهي هذه الحرب المشتعلة ناراً في رأسهِ حتى خاف أن يحلم بانتصار مزيف ليجد نفسه مهزوماً صباحاً بعد نوم عميق.
مرةً أخرى عاد إلى طاولته, مزق كل أوراقه القديمة, وجلس يفكر أمام ورقة بيضاء جديدة, كتب:
ماذا تنتظر في محطة الباص في منتصف الليل؟ أجاب: انتظر الباص. لكنه منتصف الليل يا سيد وما من باص في هذا الوقت. أجاب: لا فرق بين الليل والنهار لأعمى مثلي, فإن الأمل بوصلتي, والباص قادمٌ عاجلاً أم آجلاً.
كان التعب قد أكل منه موضعاً, فنام طويلاً وعميقاً, وفي الصباح كانت الحروف تلفظ انفاسها الأخيرة محاولةً دون جدوى تغير كلماته الأخيرة.