حـلم رائـع
لم يك’ يتوقع للحظة واحدة أنه لن يجد غير هذا الصمت والسكون الذي خيم على بيته عندما عاد ذاك الصباح يحمل حقائب سفره. إنه خطأه أولاً وأخيراً, فهو أراد أن يفاجأ أسرته التي غاب عنها كل تلك السنين, ولكن عليه الآن أن ينتظر حتى يعودوا, فهو يعلم تماماً أن زوجته ستعود الساعة الواحدة ظهراً من المدرسه فهي مدرسة في أحد المدارس الإبتدائية, أما أطفاله فلا شك أنهم الآن يلعبون في باحة المدرسة منتظرين كما العادة أن يقرع الجرس حتى يعودوا إلى البيت ويبدأ ضجيجهم المعتاد بقلب هذا السكون عندما يبدأ الصغير علاء بملاحقة اخته مرح في البيت بعد أن تبدأ مرح بسرد ما حدث لهم في المدرسة هذا اليوم, ثم يجتمع الصغيران في احتجاج طفولي على أمهم مطالبين باحظار الطعام. وما هي إلا ساعة من الزمن- بعد أن يتناولوا الطعام- حتى يزول تعب اليوم كاملاً ويبدأ الجميع بالاسترخاء لقيلولة الظهيرة.
اجتاز عتبة الباب ووضع حقائبه في غرفة الصالون, ومشى قليلاً ليتوقف أمام صوره التي وضعت زوجته بعض منها في أحد الواجهات الزجاجية. ثلاث سنين مرت عندما تصور هذه الصورة في غرب الولايات المتحدة الأمريكية مع حصان "كيم" في مزرعتها. كان هذا في نهاية شهر آب, حيث كان الحرٌ ما زال يحتفظ بسيادته على السماء والأرض.
تذكر كيف كانت رحلته الأولى في حياته خارج الوطن, عندما اتصل بزوجته من مطار شارل ديغول في باريس ليخبرها بتفاصيل سفره إلى المنفى أولاً بأول والذي توج بوصوله إلى الولايات المتحدة, وكيف استيقظ في أول صباح له ليشرب بدل فنجان قهوته العربية الصغير كأساً من القهوة الأمريكية.
جلس للحظات حائراً لا يدري ماذا يفعل, عندما بدأت أقدامه تقودانه إلى غرفة البيت الثانية ليرى بعض من التفاصيل التي تغيرت في أثاثه تذكر حينها كيف بدأ يزيل يبديه أكداس الرمل والحصى من غرف البيت, ليبدأ بعد تعزيله منها بكسوة بيته الصغير بما يحتاج ويستحق. حقاً لقد تعب ليبني هذا البيت, وكيف مرت عليه حوالي ستة أشهر قضاها منهمكاً في كسوته, وتذكر كيف كانت زوجته والأولاد يزورونه بعد كل خطوة من اكساءه وكيف اختار مرح وعلاء غرفتهما الصغيرة فيه وبدءا يتابعان مراحل بناءها واكساءها وكم مرة كانت مرح تسأله: أين الباب؟ أين الشباك؟ أين البلاط؟ متى ستطلي الجدران؟ متى سترى هذه الغرفة النور؟
تابع مع زوجته تفاصيل اكساء البيت مع زيادة الدين عليهما, وكيف استطاعا باعجوبة وارادة أن يتما اكساء عشهما الدافئ ليتركه بعد فترة قصيرة متجهاً إلى الولايات المتحدة.
لا تستطيع مهما أوتيت من قوة الحدس أن تتنبأ ما سيحدث لك في المستقبل, فيمكن أن تتصور وتتخيل ما سيحدث لك لا بل ويحدث ما قد خططت له أو أردت له الحدوث, ولكنك لا تستطيع أبداً أن تقدر بشكل مطلق ما سيحدث لك. إنها الأيام تجري إلى مستقر لها وأنت أيها الإنسان ضئيلٌ جداً أمام ما يحدث ولكنك عظيم جداً أمام ما تريد أن تفعله وتغير به تفاصيل حياتك.
فتح خلاط المياه في الحمام, وبدأ يغسل وجهه, ثم نظر إلى تفاصيل وجهه في المرآه وهو يمسح وجهه. حقاً لقد تغير, فقد ازدادت عدداً تلك الشعرات البيضاء في رأسه وبدأت بعض تجاعيد الزمن تخط بقسوتها على وجنته وجبينه. حار بعد أن خرج من الحمام ماذا يفعل؟ فتح باب الغرفة الصغيرة- غرفة الأطفال- دخلها وقد اعتصر قلبه حزناً وألماً عندما تذكر لما غادرها آخر مرة, بعد أن قبل أطفاله النيام فيها وبكى قليلاً من الدموع, ولهيباً من الحرقة والحزن. التقط دفتر الرسم وبدأ يقلب صفحاته, إنها رسوم الصغيرة مرح. بدأت تعود به الذاكرة عندما ارسلت له مرح لوحتين صغيرتين كانت قد لونتهما على أوراق دفتر الرسم, ومازال يحتفظ بهما حتى الآن, حقاً لقد تغيرت لوحات هذه الفنانة الصغيرة كثيراً فقد اظهرت هذه اللوحات الصغيرة الجديدة المزيد من الخطوط الجريئة والألوان المعبرة. آه كم هو مشتاق ليضم أطفاله ويمسح وجوههم وشعرهم ويحملهم كما كان يحملهم الاثنان معاً, لإنهما كانا بغيرته يضطرانه إلى حملهما معاً, عندما لا تستطيع أمهم المتعبة حمل أحدهم. يا ترى كم كبرا الآن؟ وكم أصبح طول شعر مرح؟ كيف صار علاء؟ لقد أحضر لهما بعض الملابس ولكنه ليس متأكداً إن كانت ما تزال تناسبهم أو لا.
إن هذا الزمن لا يمكن أن يتوقف أبدأ, فقد خلق متحركاً وسيبقى دائماً. لا تستطيع أن تتعامل معه بمزاجك الخاص كأن توقفه لظرف خاص بك, فهو-أي الزمن-لا يمكن أن يتوقف, وعليك أن تسير معه دائماً, لا بل يضطر بك الحال أحياناً أن تسبقه حتى تبقى حياً, فكيف اذا سبقك الزمن في اللحظة التي يحتاج منك فيها لأن تسبقه, ستكون بلا محاله ميتاً في قوقعتك وقد سبقك الزمن ولو كنت تظن نفسك حياً بنبض القلب والروح, فقد اكتسحك الزمن كاعصار عنيف. لقد حاول الزمن كثيراً أن يسبقه عندما اضطره إلى التوقف أمام روتين الحياة اليومية لأكثر من سنتين, عندما اضطر للعمل في مجال غير مجاله ليحسن وضعه المادي, ولكنه استطاع دائماً أن يواكب الزمن ويبقى معه في سجال طويل برغم القسوة التي أظهرها عليه الآخر في الغربة. الآن وبعد أن بنى جيلاً جديداً هما أطفاله, فقد أصبح أكثر قدرة على تحدي الزمن ولا يمكن له مهما قسى مرة أخرى أن يوقف ساعته في مكانه ويدوسه كما داس الكثيرين غيره.
فتح باب النافذه المطلة على باحة صغيرة سيمر منها الأولاد وأمهم عند العودة من المدرسة, ونظر إلى ضوء الشمس كيف اشتد وسقط عامودياً على الأرض تاركاً ظلاً بسيطاً لهذه الجدران الهائله أمامه. تذكر عندما كان يودع الأطفال كل صباح عندما كان باص الروضة يأتي لاصطحابهم, ويقبل زوجته قبل أن يفترقا كلٌ إلى عمله. انتظر كثيراً, أو هكذا بدا له ولكن لم يظهر أحد. سحقاً لهذا الزمن كم هو بطيء الآن, لقد طالت كثيراً الساعة الأخيرة التي تفصله عن لحظة اللقاء الرائع الذي تاق إليه كثيراً وتخيله كل يوم في غربته.
في لحظة ما حين تشتد حاجتك إلى تنفس هواء نقي وإلى شرب ماء عذب, وإلى أن يسرح نظرك بعيداً في الأفق تشعر أنك بدأت تختنق رويداً رويداً, وأن عروقك بدأت تجف وما عادت ترى أبعد من جدران القفص الذي أنت فيه, هكذا تماماً كان يعيش في غربته وحيداً بين جدران المكان منفياً بين جدران الزمن, وربما مات جسده أكثر من مرة, وكتب الآخرون على شاهدة قبره: هنا يرقد سجين في غير مكانه, هنا يرقد من تحدى الزمن.
طالت وقفته أمام النافذة, وعبثاً مرًّ الوقت دون أن يلوح له أي ظل حتى الجيران لم يمر منهم أحد, وقد ألقى هذا السكون المفاجئ قلقاً رهيباً جعله يتصور نفسه وحيداً بين كل هذه الجدران العالية.
مما لا شك فيه أن السجن يتحول مع الوقت إلى وطن للسجين, ويبدأ هذا الأخير بالتعامل معه كما يتعامل الحمل مع الذئب, فتارةً يشعر أن السجن أصبح شيئاً منه فهو بيته ومؤاه الذي يعيش فيه تفاصيل حياته, لكنه مع هذا يشعر دائماً أن السجن هو عدوه الحيوي الذي يفصله عن الحرية.
خرج إلى غرفة الصالون وارتمى قليلاً على الأريكة المتعبة مثله, وبدأ ينظر إلى بعض التحف والهدايا حوله, وكيف امضت زوجته الغالية وقتاً طويلاً في اختيار مكانها وانسجامها. كان يحدق في كل قطعة كأنه يراها, لكنه في حقيقة الأمر لا يراها, فأفكاره مازالت تسرقه بعيداً إلى الماضي إلى أن ألقت عليه هذه الأفكار بثقلها, فبدأ باطباق أجفانه مستسلماً لنوم هادئ في هذا السكون المريع. أخيراً بدأ يسمع بعض الجلبة في الخارج, وسمع صوت خطوات صغيرة وأخرى كبيرة, وسمع ضحكات أولاده وضجيجهم المعتاد. ماهي إلا لحظات حتى تفتح حبيبته الباب لتوقظه من غفوته, ويبدأ هذا اللقاء المقدس الذي طال انتظاره. سمع طرقات على الباب, وصوت زمور السياره لأكثر من مره, لم يك يريد أن يصحو, ولكن لماذا تطرق زوجته الباب طالما لديها المفتاح؟ ومن أين أتى صوت الزمور؟
صورتين أمامه, واحدة لصوت وضجيج أولاده ولقاءه المقدس تلك الصورة التي حلم بها طويلاً, والتي بدأت تتلاشى رويداً رويداً أمام طرق الباب وزمور السيارة, حتى استفاق على صوت الهاتف الخليوي, انه صاحبه الذي يمر عليه صباح كل يوم ليذهبا معاً إلى العمل في ولاية نيوجرسي الأمريكية.