[imgr]http://allofjo.net/web/tpllib/img.php?im=cat_135/7078.jpg&w=360&h=359[/imgr]
ناهض حتر ـ وصل الأردن إلى الحافة: الرهانات القصوى على سياسات المحافظين الجدد لمرحلة جورج بوش، سقطت جميعا. وبينما تتفاعل مبادرات إدارة باراك أوباما في المنطقة بدينامية متسارعة تنذر بتغيير عميق في لوحة القوى والصراعات الإقليمية، ما تزال النخبة القيادية في الأردن مشلولة عن تنظيم تصوّر وتحرك مناسبين للمرحلة الجديدة، تفزعها حكومة نتنياهو ـ ليبرمان ، ولكنها لاتقوى حتى على انتقادها بصورة علنية . وفي حين يتعمّق الإنشقاق الداخلي بين الأردنيين ومواطنيهم الفلسطينيين، يتم الهرب من مواجهة الاستحقاقات الديمقراطية ، بالدعاية لمشروع الأقاليم الغامض الموصوف من قبل المعارضة الوطنية بأنه يهدف إلى تفكيك الوطن إلى كانتونات سيكون أحدها إطارا للتوطين السياسي.
سلسلة من الأزمات السياسية والوطنية ـ الإستراتيجية ـ المترافقة مع أزمة إقتصادية ـ اجتماعية حادة ، تعصف بالبلاد، وتكشف ، معا، الأزمة الأعمق، أعني أزمة النخبة القيادية المستهلكة والعاجزة عن بلورة برنامج بديل. هنا ، سأتوقف عند فوضى معالجة الأزمة الاقتصادية ـ الاجتماعية، وفق النهج نفسه الذي تسبب في خلقها ومضاعفتها ، أي النهج النيوليبرالي. وهو نهج سقط عالميا، لكنه ما يزال الخيار المعتمد في الأردن.
أعلن وزير المالية، باسم السالم ( في 8 4 2009 ) ، لأول مرة، عن مؤشرات "صعبة للغاية"، تواجه الاقتصاد الأردني ، جراء الأزمة المالية ـ الاقتصادية العالمية: فنسبة النمو انحدرت ، في الربع الأخير من العام 2008 ، إلى حوالي 4 بالمئة من 5,5 بالمئة . وهناك ، حسب الوزير، مؤشرات شؤم تتمثل في "تباطؤ حجم التسهيلات الائتمانية المقدمة من البنوك وتراجع الطلب في بعض القطاعات كالعقارات والسياحة ".
وبينما حاول رئيس الوزراء ، نادر الذهبي، في تصريحات لاحقة في اليوم التالي ، تكذيب إعلان وزيره ، فإن مراقبين رأوا أن تصريحات الوزير لم تتحدث عن كل الحقائق أصلا. فهو لم يتوقف عند الأهمية الإستثنائية لإنفجار فقاعة النمو في قطاع العقار. وهو القطاع القيادي في الاقتصاد الأردني منذ 2003. كما تجاهل الوزير التباطوء المتسارع في القطاعات الأخرى، والخسائر الضخمة لسوق عمان المالي، وضياع مئات الملايين من الدنانير من صغار المدخرين الذين آمنوا بدعاية الليبراليين الجدد وشركات الاحتيال حول مكاسب الإستثمار في الأسواق المالية العالمية.
نسبة البطالة المعتَرف بها تزيد على 14 بالمئة ( بينما النسبة الحقيقية ترتفع إلى حوالي 25 بالمئة ) والفقر غير المعتَرف به إلا ك "ظاهرة" فرعية، يسحق 30 بالمئة من المواطنين ( حوالي مليونين، منهم مليون جائع). الإيرادات العامة تتراجع مما عرقل تنفيذ خطة تحفيز ، بينما وصل العجز المتوقع في الموازنة العامة للعام 2009 إلى سقف غير مسبوق هو ألف وخمسماية مليون دولار.
لكن الآتي أصعب: فالمصدران الرئيسيان للأموال الواردة من الخارج ، أي حوالات المغتربين والمساعدات، مهددان بالتراجع الحادّ بسبب الأزمة في دول الخليج وتهميش الدور السياسي الأردني.
الحلول الحكومية ما تزال تركّز على السعي إلى جذب استثمارات عن طريق تسهيلات قانونية وضريبية متنوعة. لكن هذه التسهيلات موجودة بالفعل إلى درجة أن الأردن يُعَدّ رابع دولة في العالم من حيث حرية السوق وشبكة الحوافز للمستثمرين الأجانب. وفي الحقيقة ، يكاد لا يكون هنالك أية قيود على الاستثمار الأجنبي في الأردن، ما أدى إلى فوضى بلا حدود. ولكن رأس المال الأجنبي الباحث عن فرص سخية غير مكلفة ، حصل على ملكية المؤسسات والمشاريع في الحقول الرابحة كالمناجم والاتصالات والبنوك وشركات التأمين والأراضي القابلة للتطوير، وعلى التسهيلات الاستثنائية في التجارة والخدمات والصناعات التصديرية في المناطق المؤهلة . ويحصد الرأسماليون الأجانب ، لقاء استثمارات زهيدة، ما يقدر بأربعة إلى خمسة مليارات دولار من الأرباح الصافية، سنويا . ولم يعد ثمة ما يحفزهم ، خصوصا في ظل الأزمة العالمية، حتى إلى تدوير بعض أرباحهم محليا ، في وقت يضغط فيه المطورون العقاريون على الحكومة ـ وبنجاح ـ لتزويدهم بالسيولة مقابل إعادة بيع قسم من أراضي"هم" إلى مؤسسة الضمان الاجتماعي التي تكابد الآن ضد تبديد مدخرات العاملين بأجر بأوامر حكومية، لإنقاذ " مستثمرين " متعثرين أو تمويل النفقات الجارية أو المشاريع الغامضة في مجالات عقارية وخدمية.
الغريب أن الحلول المقدمة لمواجهة الأزمة الاقتصادية ، هي نفسها الحلول التي ولّدت الأزمة : المزيد من التخفيضات الضريبية، والمزيد من الإنفاق العام لصالح القطاع الخاص، والمزيد من التسهيلات المغوية للصوص البزنس والفرص، والمزيد من الفوضى المؤسسة للفساد الكبير.
مشروع قانون ضريبة الدخل الجديد، يقترح تخفيض الضريبة على البنوك وشركات التأمين والشركات المالية من 35 بالمئة إلى 25 بالمئة ، وتوحيد الضريبة على القطاعات الأخرى عند 12 بالمئة . وهو ما يساوي بين التجارة ـ العالية الربحية وقليلة المخاطرة ـ وبين الصناعة الوطنية ـ التي تتعرض لمنافسة ساخنة في سوق مكشوفة بالكامل ـ . وبينما يعفي المشروع ، مالكي الأسهم من الضريبة على الدخل، يتجه إلى تصعيدها على العاملين بأجر والفئات المتوسطة من المهنيين وأصحاب المشاريع الصغيرة. وهذه الفئات هي التي تدفع أيضا ، كونها تمثل أغلبية المستهلكين والمواطنين ، فاتورة الضريبة العامة على المبيعات والرسوم المباشرة وغير المباشرة الأخرى.
أُُعلن العام 2009 عام الزراعة في البلاد. ولكن المخصصات المالية الأساسية في الخطة سوف تذهب لإنشاء مطار لتصدير المنتجات الزراعية في الأغوار. وهو مرفق سيخدم ، بالدرجة الأولى، كبار الرأسماليين في الزراعة التصديرية. والمثير للأسئلة أن المسافة بين منطقة الانتاج في الأغوار وبين مطار الملكة علياء في عمان ، تقطعها الشاحنات في ساعة واحدة .
جرى إنشاء المناطق الصناعية المؤهلة ، بالأساس، باعتبارها إحدى ثمرات السلام مع إسرائيل ، وبالشراكة معها ،وبرعاية الولايات المتحدة التي منحت منتجاتها، حصة تصديرية، بهدف توفير فرص عمل للأردنيين.
لم يستفد الاقتصاد الوطني شيئا من هذه المناطق التي أصبحت بمثابة مناطق حرة لمستثمرين أجانب حرصوا على الإفادة من الحصة التصديرية المشار إليها، مستخدمين مدخلات مستوردة ـ وفيها نسبة إسرائيلية كشرط مسبق ـ معفاة ، وعمالة اجنبية تعيش في ظروف نصف عبودية. ولتشجيع مستثمري هذه المناطق على البقاء في ظل أزمة السوق الأميركية ـ وهي جهة التصدير الأساسية ـ قررت الحكومة المزيد من الإعفاءات لهم . وهي تستجديهم الآن ،تعيين أردنيين مقابل شطب رسوم الإقامة على العمال الوافدين.
في الصيف الماضي، تم ، بصورة مفاجئة، بيع أرض ميناء العقبة ـ واستُخدم بعض المبلغ في شراء متعجل ومكلف لديون خارجية ـ وكانت الحجة هي بناء ميناء جديد من قبل مستثمر على نظام "البوت" ( يستأثر بعائداته للمدة الكافية لاسترداد تكاليفه وفوائده وأرباحه ) وهو ما يعني تخلي الخزينة عن عائدات الميناء إلى أجل طويل. لم يدر أحد ما السر في بيع الميناء الحالي كعقار، بينما هو ـ على حد تعبير خبير معروف في النقل البحري ـ مجهز لخدمة البلاد خمسين سنة أخرى ؟ وبينما يستعد مشترو الميناء الحالي لاستلام عقارهم في غضون سنتين، فإن الأزمة المالية العالمية، وضعت حدا لمشروع الميناء الجديد. وسيكون على الخزينة أن تتدبر، في النهاية، إعادة شراء أرض الميناء بسعر يحدده المشترون ، متضمنا تكاليفهم وأرباحهم .
وفي إصرار عجيب على بيع المباني الجديدة للقيادة العامة للجيش في منطقة دابوق، لتحويلها إلى "مركز أعمال" يؤجر مكاتب راقية للشركات العالمية، تسعى الحكومة للضغط على مؤسسة الضمان الاجتماعي لتنفيذ الصفقة التي سيتم استخدام عائدها لبناء قيادة جديدة في مكان آخر ! وهذا طلسم غير قابل للفهم ، خصوصا وأنه لا يوجد مستأجرون الآن لمكاتب مركز الأعمال العتيد، بينما يلح آل الحريري ، مالكو منطقة العبدلي ( سوليدير عمان ) على استلام مباني قيادة الجيش القديمة الواقعة في قلب " ممتلكاتهم " العمانية!
يقول وزير المالية إن " ضبط النفقات جزء من الحل " المقترح لمعالجة أزمة العجز في الموازنة. وهو ما يعني ، في الخطاب الليبرالي ، تخفيض ميزانيات الخدمات العامة وشبكة الأمان الاجتماعي. وعلى كل حال ، فإنه لا توجد قوة أو إرادة لتخفيض نفقات النخبة المسيطرة . وهي نفقات ذات مستوى خليجي . وتشكل، بالإضافة إلى خدمة المديونية العامة ـ عبئا هائلا ينوء الاقتصاد الوطني بحمله.
في التجربة الملموسة التي يعيشها المواطن الأردني، تبين أن السوق غير قادرة حتى على تصحيح نسبة التضخم في فترة الركود والإنخفاض العالمي للأسعار. فالتضخم ـ الذي بلغ ذروته في العام 2008 ، بحدود 15,5 بالمئة ( بالنسبة إلى العام السابق ) ما يزال، رغم تراجع الأسعار العالمي، يلتهم، في واقعية السوق المتوحشة، أجور ومدخرات الفئات الوسطى والشعبية التي تتآكل وتنخفض، وتبعث بالأغلبية إلى مهاوي اليأس.
الدينار الأردني مرتبط ، كليا، بالدولار. ولكن الدولار المتراجع المضطرب هو " قنبلة موقوتة " قد تنفجر في أية لحظة على وقع الإنحدار المتسارع في النظام المالي والاقتصاد الأميركيين. وهو ما يثير فزع المراقب الحذر من انعكاس هذا الخطر على الدينار الأردني، وينذر بتضخم لا يمكن السيطرة عليه، وخسارة القيمة الفعلية للمدخرات الوطنية. ومع أن الريبة من مستقبل الدولار، أصبحت قضية دولية ، فإن القرار المالي الأردني ما يزال يتعلق بالدولار كعملة مرجعية وحيدة .
الأزمة ـ كما حلولها ـ ولّدتها السياسات الليبرالية الجديدة نفسها. وهي تضغط على الفئات الوسطى والشعبية ، المطلوب منها الآن أن تقدم المزيد من التضحيات المعيشية حتى الإملاق ،للحفاظ على مصالح النخبة المسيطرة ومستوى حياتها، وإغواء المستثمرين الأجانب وتسهيل حجم وطرق حصولهم على أرباح مليارية يتم تصدير معظمها من البلاد، بينما ينعم وكلاؤهم، التجاريون والسياسيون ، بمراكمة الثروات.
فإذا نظرنا إلى تعمُّق الأزمة الإقتصادية ـ الاجتماعية، في ضوء الأزمات السياسية والوطنية والقيادية ، سنجد أن الوضع الأردني بات يثير الأسئلة والقلق.