بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله .
اكمل دراسته الجامعية بنجاح ، ووفقه الله بعمل مريح وراتب طيب ،وأكرمه الله بابنة الحلال فتزوجها ، ودارت الأيام ،وأنجبت له طفلين ثم بنتين ،وكان آخر العنقود ولدا وسيما .
ومرت الأيام سريعا ، وتخرج الأولاد الأربعة من الجامعة ، وأكرم الله الولد الأول بزوجة وشاء الله أن يسافر إلى دولة خليجية للعمل بها ، واصطحبها معه .
وأما الثاني فشاءت إرادة الله أن يهاجر إلى أمريكا برفقة زوجته .
وأما البنت الأولى فتزوجت من رجل فاضل سافر بها إلى دولة عربية .
واما البنت الثانية فتزوجت من قريب لها في إحدى المدن البعيدة ،
وبعد سنة توفيت شريكةالعمر ورفيقة الحياة .
حضر الجميع وقاموا بواجب العزاء – لكنها أيام معدودة – عاد كل واحد إلى مكان إقامته .
لم يبق إلا الأب وابنه الصغير الذي يدرس شهادة الثانوية ، فكان هذا الشاب البار أنيس أبيه .
كل صباح يستيقظ الأب لصلاة الفجر ويعد الإفطار لولده ، وبعد الإفطاريودع أباه منصرفا إلى مدرسته ،
يتشاغل الأب بترتيب البيت وإعداد الغداء منتظرا بفارغ الصبر أنيسه وحبيبه .
لكن الأيام مضت سريعا!!
(( ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب **وأن غدا للناظرين قريب )) .
نجح الولد الأخير نجاحا طيبا مباركا ، ونال شهادة الثانوية .
ماذا يفعل ؟؟ لا بد من إكمال الجامعة لأن المستقبل ينتظره ، والدنيا لا تدع أحدا من همومها !! وأخيرا قُبل هذا الولد في بعثة مغرية خارج الدولة .
لكن كان همه أباه . هل سيبقى الوالدوحيدا وقد تعلق قلبه به ؟؟ ياالله ،ماذا يفعل ؟؟
استخار واستشار فوقع الأمر على السفر ، جهز أوراقه كاملة ، وجهز حقيبته ووضعها عند أحد أصدقائه – رحمة بقلب والده –
جاء يوم السفر ، حمل حقيبة الأوراق ، وحاول التسلل من البيت دون أن يراه والده . لكن .هيهات هيهات .
(من يستطيع الكذب على قلب الوالد ؟؟)
عندما وصل إلى الباب يريد الخروج ،تفاجأ بصوت والده يقول له :
رعاك الله يا ولدي وحفظك في حلك وترحالك ، أعلم أنك مسافر !!
عاد وقبل والده وخرج والدموع تنهمر من عينيه !!.
لم يبق في البيت إلا هذا الرجل وحيدا حزينا كئيبا . يخرج كل يوم إلى دكان جاره .يجلس عنده فترة من الزمن ،ليعود بعدها إلى سجنه الانفرادي ، وبعد شهور تفاجأ هذا السجين العجوز بصاحب الدكان يسحب الكرسي من يده ،ليرده حزينا إلى بيته .
دخل بيته فوجد صورة زوجته على الجدارفهامت في ذاكرته ذكريات صباه وأحلى ساعات العمر ، وتذكرأيام الأنس التي انقلبت إلى وحشة مظلمة ،
تذكر الأيام التي كانت تعمر البيت بكل حركة ونشاط , وانقلبت إلى سكون قاتل . نظر إلى الصورة وأخذ يخاطبها والدموع تنهمر من عينيه . وكأن حاله يقول :
أين الضجيج العذب والشغب **أين التدارس شابه اللعب ؟؟
أين الطفولة في توقدها ** أين الدمى في الأرض والكتب ؟؟
فنشيدهم : بابا إذا فرحوا ** ووعيدهم بابا إذا غضبوا
وهتافهم :بابا إذا ابتعدوا ** ونجيُّهم بابا إذا اقتربوا
بالأمس كانوا ملء منزلنا ** واليوم ، ويح اليوم ، قد رحلوا
مسح دموعه ، وتوضأ وصلى واستعان بالله ،وأمسك كتاب الله ليتلوه ،وليكون له بعد ذلك اليوم خير جليس .
هلا تسآلنا في أنفسنا : ما الحال في الكبر ؟؟
هلا أعددنا العدة لهذا السجن الانفرادي ؟؟ أم أنه لن يدركنا ؟؟
حفظ الله الجميع .