الحرب الإسرائيلية على غزة (27 كانون الاول /ديسمبر 2008 / 17 كانون الثاني /يناير 2009 ) وما نتج عنها من كوارث إنسانية و تطورات سياسية، وتغطية إعلامية، وردود أفعال شعبية، شملت جل عواصم ومدن العالم، وخاصة العربية والإسلامية، أكدت أن كل محاولات تحقيق السلام بين العرب واسرائيل، ومنها الإتفاقيات المبرمة بين اسرائيل من جهة ومصر والأردن من جهة أخرى، إضافة الى اتفاق أوسلو بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، جميعها لم تكن سوى كلام على الورق، وتصريحات تتطاير فى الهواء . أما الممارسات العملية وما تطرحه السياسات الإسرائيلية على أرض الواقع ومنه التوسع فى بناء المستوطنات فى الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967 فلا تعكس أي دليل على حضور صادق لمعنى السلام بل على العكس فهي سياسات تدل على استهتار اسرائيل فى تعاملها مع الشعب الفلسطيني وحقه فى تقرير مصيره، وبناء دولته المستقلة. وتدل أيضا على إستهتار بالقوانين الدولية، والقيم الإنسانية .
الحرب على غزة، وما جسدته من وحشية ضد البشر وممتلكاتهم والتى تابعتها الشعوب العربية عبر وسائل الإعلام، أظهرت الهوة السحيقة بين هذه الشعوب وحكامها، وأدت التفاعلات الشعبية وضغوطها على تحرك سياسي عربي تمثل فى عقد عدة لقاءات تشاورية، كان من أهمها لقاء الدوحة يوم الجمعة 16 /1 / 2009 والذي برزت فيه الدعوة من عدد من الرؤساء العرب لأول مرة بقوة ووضوح سحب المبادرة العربية التى أقرتها القمة العربية فى بيروت عام 2002 والتي تعهد فيها الرؤساء والملوك العرب بترتيبات كاملة للسلام مع اسرائيل اذا انسحبت الى حدود الرابع من حزيران (يونيو) عام 1967 لكن اسرائيل سخرت منهم ولم تستجب
لهذا التنازل الذي قدموه. ودلل موقف اسرائيل هذا على غياب الحكمة عند القيادة الاسرائيلية، فقد أعطتها قمة بيروت هدية لا تستحقها، ولو سارعت لقبولها بجدية، وأنسحبت من الضفة والقطاع وغيرها من الاراضي العربية لكسبت الكثير (المبادرة عرفت بمبادرة الأمير عبد الله بن عبد العزيز).
إن ردود الأفعال الشعبية والسياسية وما صاحبها من كم هائل من المواقف والأفكار والمشاعر جميعها تدين السلوك الإسرائيلي وتعتبره سلوكا خطيرا وشريرا، وهو سلوك شعبي ورسمي يتبنى العنف والحروب للإستيلاء على ارض الشعب الفلسطيني بدعم غربي . وكل هذه التفاعلات تذهب إلى ترسيخ ثقافة العداء ضد الوجود الاسرائيلي وأنه وجود غير مشـــروع منذ بداياته وحتى الآن .
التطور الكبير الذى انتهت اليه الحرب على غزة، هو إنتصار المقاومة، وفشل الجيش الاسرائيلي فى تحقيق أهدافه.
من يتابع ما تنشره الصحف العبرية، وما يقوله يهود كثيرون فى اوروبا، وما تقوله الكثير من المقالات فى الصحف البريطانية يجد مادة مهمة تتحدث عن عدة خسائر لحقت باسرائيل الدولة والمجتمع . صورة اسرائيل اليوم، ليست هي صورتها قبل الحرب، فقد أصبحت صورة لا تجد التعاطف الذي كان سابقا، وتحول التعاطف العالمي الى الشعب الفلسطيني، والى المقاومة الفلسطينية.
هذه المقاومة التي جددت روح وثقافة المقاومة وعدم الاستسلام، وهي ثقافة تحتاجها الأمة في كل مستوياتها. إنها ثقافة مطلوب نشرها وترسيخها لمقاومة كل أنواع الظلم والإستبداد في الوطن العربى، كما مقاومة كل ظلم خارجي يحاول أن يفرض سياسته على الفلسطينيين أوغيرهم .
وثقافة المقاومة ضرورة لحشذ الهمم، وتصليب الإرادات، وتعميق كل أنواع المعارف الإنسانية . المعرفة بكل أنواعها هي القوة الحقيقية للنهوض ولبناء مجتمعات قادرة على إكتساب الخبرات والمهارات اللازمة لمواجهة كل التحديات . إن اسرائيل أصبحت دولة قوية بفعل تطوير قدرات شعبها وجيشها وجامعاتها وعلاقاتها الدولية .
وكل من يتطلع الى تعزيز حريته وسيادته وكرامته من البلدان العربية فلا خيار له إلا خيار المعرفة، وخيار حرية التعبير والتفكير وسيادة دولة القانون التي تعزز حرية الأفراد وتنمي فيهم ثقافة العزة والكرامة الآدمية . البلدان العربية وشعوبها فى حاجة الى كسر أغلال الإستبداد، والإنطلاق نحو مراحل جديدة من التعامل مع البشر طبقا لقيم العدل والحرية .
لقد عشنا مع الحرب على غزة اثنين وعشرين يوما، ورأينا كيف يفكر ويفعل العقل الإسرائيلي فتكا وقتلا بوسط يحيط به من كل الجهات، ولا ينظر إلا الى تفوقه العسكري بزهو وتجبر وتكبر، والنتيجة كما تبدو أن السلام أمر مستحيل مع اسرائيل حتى وإن أجبر عليه الشعب الفلسطيني تحت مناورات وضغوط اقليمية ودولية .
كذلك عشنا مع الشعب فى غزة، ومع مقاومته الباسلة التى أثبتت أنها قادرة على الصمود، وأنها قادرة على تحقيق النصر بفضل عقيدة المؤمنين بحقوقهم وحريتهم واستعدادهم للموت شهداء فى ميادين المعارك، فلا هجرة من غزة، ولا رايات بيضاء، بل صمود أسطوري وبطولات توجت المقاومة بنصر عزيز .وجعلت الأمة تشهد لأول مرة نصرا فلسطينيا على اسرائيل لم تعرف مثله منذ ستين عاما .محمود الناكوع