ربما لم يسجل التاريخ العربي، القديم منه والحديث، قدسية لمعبر حدودي بين قطرين عربيين يتعرض أحدهما للإعتداءات الإسرائيلية والأمريكية، تشابه هذه القدسية التي اسبغت على معبر رفح الحدودي بين غزة والأراضي المصرية . فمنذ النكبة الأولى في العام 1948 ومرورا بنكسة عام 1967، وحرب 1982، و2006 على لبنان، والاجتياح الأمريكي للعراق عام 2003 بقيت المعابر الحدودية ما بين البلدان العربية شريان الحياة التي تمد تلك الشعوب المنكوبة بسبل الحياة.
لكن الموت الذي صب غضبه على جيران كثيرين لنا، شاء أن يؤجلنا، ويبقينا رهن حياة بائسة معدومة الكرامة والضمير، لكي نشهد على إغلاق معبر رفح الذي طالما مثل نقطة عبور الغزيين الى فضاءات، ومستشفيات، ومتاجر الأقطار العربية المجاورة، كما هو دربهم الى الله لتأدية مناسك الحج والعمرة في الحجاز ومكة المكرمة في مثل هذا الوقت العصيب .
فعلى هامش جعجعة المعارك، وأزير الطائرات، ووحشية الصواريخ المنهمرة على ليل غزة ونهارها، على جوامعها وجامعاتها وجمعياتها، على رؤوس أطفالها، ونسائها وشيوخها، وفي الوقت الذي يقّبل رجل مثكول جبين أطفاله في وداع أخير قبل ان يزرعهم في قلب الأرض لتنبت لهم جذور قوية تستعصي على الخلع، يحكم الحصار والمؤامرة على شعب أعزل الا من الإرادة والثبات، وتسد في وجهه المعابر الذي يذاد عنها بالأرواح وتسفك دون فتحها الدماء فيقتل ضابط مصري، ومسلح فلسطيني على المعبر في تشابك لإطلاق النار- كما تمت تسميته- في حادثة أقل ما يقال عنها، أن القصف الأسرائيلي للمعبر ومن يقف على جانبيه من فلسطينيين ومصريين فشل في توحيد السلاح العربي ضد عدو واحد مشترك.
هذه الفسحة الصغيرة من الجغرافيا التي تمد سكان القطاع بجزء يسير من سبل الحياة، تحولت فجأة الى مظهر من مظاهر سيادة المصريين، وعنوانا لعزة وكرامة مصر كما عبر عنها العديد من المسؤولين المصريين في تصريحاتهم اللامسؤولة، وكما عبر عنها الاعلام المصري الذي ضخّم الواقعة ببث مقابلة مع أرملة الضابط المصري ياسر عيسوي ونقل وقائع جنازته البطولية بعد أن قضى على يد واحد من ذوي القربى وهو يدافع عن حدود بلده، ويقوم بأداء واجبه العسكري.
ورغم تعاطفي الشديد مع أرملة الضابط ياسر عيسوي التي ظهرت على البرنامج مغلفة بالسواد، تندب قدرها، وتتساءل بألم عن ذنب أطفاله الأيتام ولمن سيهتفون بكلمة بابي بعد اليوم. ورغم احساسي العميق بفجيعتها، الا أنني لم استطع منع نفسي من الرثاء لحال هذا الإعلام الذي يتاجر في مأساة هذه المرأة، متجاهلا أن شعب غزة على الطرف الآخر من المعبر ليس لديه الامكانات ولا البرامج ولا حتى الكهرباء حتى يستضيف الأرامل والثكالى ليعرضن مآسيهن وتساؤلاتهن لمن سينادي أطفالهن : يابا ! فقط لأن لا أطفال تبقى في غزة ...
الجندي، الضابط، الشهيد، ياسر عيسوي توج بطلا مجاهدا في مصر . واقيمت له جنازة عسكرية حاشدة، لم يحظ بمثلها كبار الجنرالات المصريين، فقط لأنه قتل برصاص مسلح فلسطيني كان يحاول تخطي المعبر ربما هربا من القذائف الاسرائيلية، او للحصول على الغذاء او الدواء لأحد أفراد اسرته المصابين، أو ربما فقط بدافع الخوف حين اعترض الضابط المصري طريقه فلجأ الى سلاحه . ومع احترامي لدم الضابط المصري ياسر عيسوي، أجزم أن المراسيم الجنائزية التي أقيمت لهذا الضابط، قد اقضت مضاجع الجنود الأبطال الذين استشهدوا دفاعا عن أرض مصر ضد الأطماع الإسرائيلية، ولم يحظوا بربع هذه المراسم .
ليس منا من يؤيد اقتتال الإخوة، ليس منا من لا يتعاطف مع شهيد، او يتيم، او ارملة، ليس منا من يستخف بدم عربي مسلم على طرفي المعبر، ولكن السؤال الذي يقطع الآن كحد السيف هو: هل الدفاع عن معبر ام تجنب سفك دم الشقيق هو الأهم في مثل هكذا حالة ؟ ما هي اولويات جنودنا في مثل هذا الظرف، الذي يوصف فيه القتيلين بالشهيد، أداء الواجب العسكري ام حرمة دم المسلمين؟ هل تفوقت سلطة الأوامر العسكرية بالذود عن حدود ومعابر واهية على كلام الله عز وجل دم المسلم على المسلم حرام؟
سؤال أتركه لذوي الأمر منا ! :tomato: