لم تتخيل مديحة الفتاة المصرية أن إصابة والدتها بمرض في الكلى سينتهي بوفاتها، ويكتب سطورا أخرى بلون أسود في حياتها. فقد نشأت في بيت هادئ ترفرف عليه السعادة بين والدين يكنان لها كل الحب، ويهيئان لها كل سبل النجاح، لدرجة أنهما قررا عدم الإنجاب مجددا ليحققا لها أفضل حياة ممكنة. ولكن هذا الوضع لم يستمر كثيرا بعد إصابة والدتها بمرض في الكلى توفيت على إثره، وهو الأمر الذي دفع الأب إلى أن يأتي بزوجة جديدة للمنزل. ورغم أن هذا التصرف ليس بمستغرب، إلا أن نصيب الأب الجديد وابنته كان مع سيدة بذيئة اللسان ومهملة في شؤون البيت، حيث نفضت يديها تماما من أي واجب منزلي، وألقت بالعبء كله على كاهل مديحة. أما مجرد رؤيتها للفتاة وهى تذاكر أو تؤدي واجباتها فكان كفيلا بتحويلها إلى بركان ثائر يعصف بكيان البيت الذي أصبح جحيما، بعد أن كان بردا وسلاما على الفتاة وأبيها. ومن أجل السيطرة الكاملة على البيت، وحتى لا يفكر الأب يوما في التخلي عنها، فقد حرصت الزوجة الجديدة على أن تنجب له كل عام طفلا، حتى أصبح لديه من الأبناء أربعة بخلاف مديحة.
انتفاضة الإرادة وفي ظل هذه الظروف العصيبة كانت مديحة تنتقل من مرحلة إلى أخرى بنتائج مخزية حتى وصلت للمرحلة الثانوية، وهنا انتفضت الإرادة بداخلها، فقد قررت أن تصنع لها عالما آخر موازيا يشبه حياتها القديمة ولا يدري عنه أحد شيئا. وكان هذا العالم على سطح المنزل الذي استعملته كساحة للمذاكرة، حتى جاءت نتيجة المرحلة الأولى من الثانوية العامة كما تمنت، لكنها قررت ألا تخبر أحدا كي تظن زوجة الأب أنها نجحت في مقصدها ولا تضيق عليها الخناق أكثر من ذلك.
الأب أيضا لكن مفاجآت القدر كانت على موعد آخر مع مديحة.. فها هو الأب يسقط صريعا بعد أن أضناه التعب وكدر الحياة، حتى أن جسده المكدود لم يستطع أن يقاوم علة بسيطة في القلب فخر صريعا، وكأنه كان يرى وجوده كعدمه، بعد أن سمح لتلك المرأة الشرسة أن تصرف حياته كيفما شاءت. وبعد وفاة الأب وجدت مديحة نفسها في مفترق الطرق، فإما أن تضعف وتستسلم وتصبح خادمة في بيتها، أو تعبر فوق كل تلك الأحزان وتحقق النتيجة المرجوة في المرحلة الثانية من الثانوية لتنجو بنفسها. ونظرا لأن مديحة تدرك جيدا أن زوجة أبيها لن تنفق قرشا على دروسها الخصوصية، فكرت في أن تدبر مبلغا كافيا خلال فترة الإجازة الصيفية لهذا الغرض، وذلك من خلال إعداد الشامبو والصابون السائل ثم بيعه.
وداعا للحزن وبالفعل تحقق لمديحة ما تمنت وحققت نجاحا باهرا في الثانوية العامة؛ لتودع السطوح والبيت الحزين إلى مدرجات كلية الطب جامعة القاهرة بعون من الله، ثم بمساعدة إحدى الجمعيات الخيرية التي لجأت إليها لتتولى الإنفاق عليها حتى تنهي دراستها. وبعد أن انتهت من الدراسة لم تتخيل مديحة أن تعمل في مكان آخر سوى تلك الجمعية بأجر بسيط ورضا بالغ، حتى تمكنت من فتح عيادة خاصة ذائعة الصيت. ومن غرائب القدر أن زوجة الأب أصبحت مريضة مداومة على المتابعة فى عيادة الدكتورة مديحة، التي تولت تربية إخوتها الأربعة دون أن يأتي في ذهنها أن تنتقم من أمهم في أشخاصهم.