يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي :
ثم شاءت إرادة الله أن أكتب في الحب .. فكان أن قمت بترجمة تلك المأساة العاطفية ( ممو زَيْن ) و أوليتها الكثير من إحساسي و عميق وجداني، و لما خرجت بها على الناس أقبل إلي عندئذٍ من ينكر عليّ ذلك، و يسائلني لماذا أكتب في الحب ! ...
و سبحان من جعل الناس يسلكون طرائق قدداً.. و جلّ من قضى أن تكون مرضاة الناس كلهم غاية لا تدرك . و الحكم العدل أمام كل تناقض و عند كل مفترق طريق إنما هو الدين. فكتبتُ عندئذٍ هذا الفصل في بيان موقف الدين من الحب .
و هل من حرج إن تحدثتُ في الحب ؟ ..
ربما يتوهم الناس بعض ذلك! فأنا لا أزال أذكر يوم أن ترجمت تلك القصة العاطفية (ممو زين) و خرجت بها على الناس، و هي قصة ليس فيها من الحب إلا أنينه و آلامه و سموه و عفافه . فقد انهال علي يومها، إلى جانب عبارات الإعجاب كثير من كلمات النقد و العتاب.
و عجبت طائفة من الناس، و راحت تتساءل : كيف يستقيم أن يكتب الإنسان في دقائق الفقه و الأصول، ثم ينقلب فيكتب في رقائق الشجو و الحنين؟ و قال قائل منهم : شيخ ، و يتكلم في الحب ؟!
و أجمعت العزم إذ ذاك على أن أكتب فصلاً في هذا الصدد، فقد رأيت أن هذا التعجب أو الإستعظام ليس إلا واحدة من النتائج الكثيرة لما استقر في أذهان بعض الناس من صورة غير صحيحة عن الإسلام !
ثم عرضت لي شواغل صرفتني عن كتابة هذا البحث، ثم إني نسيت الحداث و مر زمن طويل، فلم أكتب شيئاً .
و في هذه الأيام ذكرني شاب من الناس بما كت قد عزمت على كتابته من قبل، و سألني سؤالاً جدد في نفسي العزم على نشر ما قد كنت طويته في نفسي و لم أكتبه. و رأيت أن أجعل من حديثي مع هذا السائل و جوابي له، مقالاً أكتبه في هذا الموضوع.
سألني الشاب، بعد أن استوثق أني لن أضيق ذرعاً بسؤاله:
ما رأي الإسلام في الحب؟
فقلت له : عليك أن تصحح صيغة السؤال أولاً فإن الإسلام ليس رجلاً من الناس و لا هو تأليف رجل من الناس، حتى يكون صاحب رأي و فكر فيما يقرره و يرتئيه. و إنما الإسلام مجموعة الأحكام الإلهية التي ألزم الله عز و جل بها عباده قضاء مبرماً لا خيرة لآحد من الناس فيها .
و لو كان ما ينطق به الإسلام من الأحكام رأياً ، لكان لكل رأي آخر أن يتكافأ معه في النظر و البحث. فما كانت الحقيقة لتتبدى ظاهرة لرأي عاقل واحد، و تتستر ، محتجبة عن عقول الآخرين.
و ما أظنك يا هذا إلا متأثراً – من حيث لا تشعر – بتلك الكلمة التي صاغها خبيث متقصد ، و راح يختم بها على آذان الناس في حدث إاذاعي متكرر، و هي كلمة "رأي الدين" ، و ذلك كي تنصقل في آذان الناس فتنفذ منها إلى عقولهم، فيستقر فيها من حيث لا يشعرون أن أحكام الإسلام إن هي إلا آراء إنسانية من السهل جداً أن تقرع بآراء مثلها .
فهي كما تقول: رأي علم الإجتماع كذا .. و رأي الفلسفة كذا .. و رأي علم الطبيعة كذا .. و للدين أيضاً رأي بين هذه الآراء . و هو كذا !! و معاذ الله أن يكون الأمر كذلك .
إن الدين الحق إنما هو خطاب خالق الكون كله للنخبة الممتازة من مخلوقاته آمراً و ناهياً و مقررأً . وهيهات أن يقارع شيء من ذلك بنقد أو برأي . إذاً لكان للرأي أن يقارع شيئاً من قضاء الله في خلقه ، فليس هذا إلا مثل ذاك، و ما كلاهما إلا مظهر لعبودية الإنسان لمالكه و خالقه جل جلاله.
ثم قلت للسائل : و إنما ينبغي أن تكون صيغة سؤالك :
ما هو حكم الإسلام في الحب ؟
قال : فهذا ما قصدته و إنما سبق لساني إلى الصيغة الشائعة كما قلت .
قلت له : و لكن الإسلام لا حكم له في الحب، أرأيت أن الإسلام يحكم بشيء على الكراهية و الحزن و الخوف و الجوع ؟ فهو أيضاً لا يحكم بشيء على الحب.
و بيان ذلك أن أحكام الإسلام إنما هي عبارة عن التكاليف المنوطة بالعباد من إيجاب و تحريم و ندب و كراهية و إباحة . و هي إنما تتعلق بما يصدر عن الإنسان من أفعال اختيارية، لا بما استكن فيه من انفعالات و مشاعر قسرية. و معلوم أن الحب من جملة الإنفعالات القسرية التي لا سلطان للإنسان عليها .
ألم تسمعهم يقولون : الإسلام دين الفطرة ؟
قال : بلى .
قلت : فهذا الذي سمعته إنما هو من وصف رب العالمين له في مثل قوله جلا جلاله : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله لذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون) .
و معنى كونه دين الفطرة، أنه يلبي حاجات الإنسان و تطلعاته و أشواقه الأصيلة ، في صورة من العدل و الإستقامة و التنظيم. أي أنه لا يكبت في الإنسان شيئاً من مشاعره و انفعالاته و وجدانه، و لكنه يعلمه السبيل الأمثل إلى معالجتها و الإستجابة لها .
فالإسلام لا يقول لك في شيء من أحكامه : لا تجع ، أو لا تكره ، أو لاتحب .
و لكنه يقول لك : إذا جعت فلا تسرق، و إذا كرهت فلا تظلم ، و إذا أحببت فلا تنحرف .
ثم إنه يضع أمامك لمعالجة الجوع مشروعية الكدح و العمل من أجل الرزق ، و يضع أمامك لمعالجة الكراهية نظام العدل و المقاضاة في الحقوق. و يضع لمعالجة ما تلقاه بين جنبيك من لواعج الحب قانون النكاح و الزواج.
و من هنا تعلم أن الإسلام لا يحاسب الإنسان على شيء من هذه المشاعر و الإنفعالات التي جبلت عليها لانفوس ، و لكن الإسلام إنما يحاسب الإنسان على ما قد اجترحه من أفعال غير مشروعة بسائق تلك المشاعر و الإنفعالات .
غير أن هذا كله ليس إلا جزءاً من الجواب على سؤالك . تتمته أن تعلم بأن ما قلته لك لا يعني أن تعرض فؤادك لعواصف الحب و صواعقه المحرقة . ذلك لآن التسبب إلى شيء من ه داخل في جملة الأفعال الإختيارية التي تستطيع أن تسيطر عليها لا في جملة الإنفعالات التي لا قبل لك بها .
------------
و مشاعر الحب و العواطف في كيان الإنسان، أشبه ما تكون بسراج يتقد في غرفة بليل، فإن أطفأت السراج انقلب المكان إلى ظلام موحش دامس، و إن بالغت في رفع الذبالة و مد لسان اللهب ، تحول السراج المضيء إلى نار محرقة قد تحيل الغرفة كلها إلى ألسنة من اللهب !
و إنما يكون الحب في فؤاد الإنسان بمثابة السراج المضيء إذا كان الإسلام قد هذب كيانه و أقامه على صراط من الإعتدال الذي شرعه الله له، فلا هو يضرب على نفسه نطاقاً من الحرمان و القسوة المتجانفين عن هدي الإسلام ، و لا هو يمد اليد و العين إلى كل ما يلوح أمامه من مظاهر المتعة و الأهواء و يذهب نفسه حسرات وراءها.
ثم إذا كان المجتمع من حوله، مهذباً هو الآخر بآداب الإسلام، كان هذا السراج المضيء في قلبه دليل سعادة غامرة، تموج بعبير الزهر و الريحان ، لا تشوبها أشواك دامية و لا آلام كاوية . وإنما يبغي الإسلام من وراء ما يشرعه من تهذيب للفرد و المجتمع تحقيق هذه السعادة التي لا يمكن أن تتحقق إلا باتباع منهجه و حكمه.
أما إن لم يكن المجتمع من حول متسماً بآداب الإسلام و متقيداً بحمه، فإن له من عقيدته الجاثمة في قلبه و عباداته التي تملأ رحاب وجدانه، ما يضمن له السمو فوق مغريات المجتمع و مفسداته و يعينه على التقيد بنظام الإسلام و حكمه.
-------------------
ثم قلت للسائل:
و لكن إياك أن تخطئ فتحسب أن هذا هو الحب الذي يتحدث عنه كثير من أدعياء الأدب اليوم في كتاباتهم، و الذي يمثله الممثلون في أفلامهم , و يتهامس به كثير من الشبان و الفتيات في خلواتهم .
إن هؤلاء أبعد ما يكونون عن المعنى الذي ذكرناه، و إنما الحب في حسابهم شيء لا يتجاوز خائنة الأعين و تقلباتها.
إنهم إنما يفقهون من الحب، ذاك الذي يتسلل حيث عيون الشرف و الدين غافلة، و يختفي حيث عيون الشرف و الدين غافلة ، و يختفي حيث تبدأ قداسة الشريقة و روح الزواج!
و الحب عندهم ، كلمات منمعة تصاغ منها شبكة صيد توضع كل أسبوع في طريق ضحية جديدة!
فلو تجسد هذا الحب، لما رأيته تمثل إلا في أقبح ما يمكن أن يُـتصَـور فيه الكيد و الظلم و الإمتهان!
فإن كنت عن هذا الحب تسألني، فعاعلم أنه ليس إلا مكيدة مقنعة جاءت تتسلل في مظهر انفعال متألم خافق! و أين هذا مما قد وصفته لك ؟
الحب، الذي يشدو به كثير من الناس اليوم، ليس إلا كلمة غاض كل ما قد كان فيها من الفضائل و تجمع كل ما لم يكن فيها من الرذائل.
كان الحب سراً من أسرار القلب يربي فيه فضائله ، و يحوط بالحفظ كمالاته، و يغرس في النفس بذور الرحمة و الإنسانية بعد أن يقتلع منها جذور الأثرة و الأنانية. فكان بذلك خير مهاد لبناء الأسرة ، و أفضل روح لتضامن الأمة ، و أقوى زناد لتفجير ينابيع الحكمة و إذكاء شعلة الأدب.
أما اليوم، فقد غدا الحب سراً من أسرار (التواليت) يثير في النفس غزائزها ، و يقتلع من الروح فضائلها . ثم إنه قد أصبح عرضة للسلب و النهب ، تجد بواعثه في كل سكة و شارع و زقاق و مزدحم!
و بذلك أصبح أسوأ مدمر لكيان الفرد و الأمة ، و أعظم خطر على بناء البيت و الأسرة .
و ما قد يصفه لك بعض أرباب هذا الحب، من لواعجه و آلامه إنما هو من نتائج الغيرة الطبيعية في الإنسان و ليس من نتائج الحب المزعوم في شيء.
و إنما تتسعر الغيرة بين جوانح أحدهم، بسبب ما ذكرناه من أنهم يمارسون حباً قد أصبح عرضة للسلب و النهب، في جو من التحلل الذي لا ترد فيه يد لامس : تبتسم الفتاة لصاحبها الأول فترة قصيرة من الوقت تظللهما خلالها أجنحة الأحلام ثم ما هو إلا أن يفاجأ بها تبتسم لخليلها الثاني ، فيلتف سُـعار الغيرة على قلبه و تقيمه اللواعج دون أن تقعده .. ثم يمضي ينشد في حاله الشعر و يبعث من صدره الأنين، ظاناً أنه إنما يعاني من برحاء الحب المتأجج في قلبه ، و هو إنما يعاني من آلام الغيرة النابعة من سوء مجتمعه.
و ما أعظم الفرق بينهما لمن يعلم!
قال السائل، و قد لمعت عيناه ببريق من الخبث المتأدب :
أراك يا سيدي خبيراً و دقيقاً في هذا الباب !
قلت له : الحمد لله الذي هو أهل للمحامد كلها ، على كل حال . و أشكره شكر عبد أيقن أنه مملوك له في السراء و الضراء ...
و نظر إلي الشاب ينتظر مزيداً من الشرح . فقلت له :
حسبك ما قد سمعت!
انتهى .
__________________ثم شاءت إرادة الله أن أكتب في الحب .. فكان أن قمت بترجمة تلك المأساة العاطفية ( ممو زَيْن ) و أوليتها الكثير من إحساسي و عميق وجداني، و لما خرجت بها على الناس أقبل إلي عندئذٍ من ينكر عليّ ذلك، و يسائلني لماذا أكتب في الحب ! ...
و سبحان من جعل الناس يسلكون طرائق قدداً.. و جلّ من قضى أن تكون مرضاة الناس كلهم غاية لا تدرك . و الحكم العدل أمام كل تناقض و عند كل مفترق طريق إنما هو الدين. فكتبتُ عندئذٍ هذا الفصل في بيان موقف الدين من الحب .
و هل من حرج إن تحدثتُ في الحب ؟ ..
ربما يتوهم الناس بعض ذلك! فأنا لا أزال أذكر يوم أن ترجمت تلك القصة العاطفية (ممو زين) و خرجت بها على الناس، و هي قصة ليس فيها من الحب إلا أنينه و آلامه و سموه و عفافه . فقد انهال علي يومها، إلى جانب عبارات الإعجاب كثير من كلمات النقد و العتاب.
و عجبت طائفة من الناس، و راحت تتساءل : كيف يستقيم أن يكتب الإنسان في دقائق الفقه و الأصول، ثم ينقلب فيكتب في رقائق الشجو و الحنين؟ و قال قائل منهم : شيخ ، و يتكلم في الحب ؟!
و أجمعت العزم إذ ذاك على أن أكتب فصلاً في هذا الصدد، فقد رأيت أن هذا التعجب أو الإستعظام ليس إلا واحدة من النتائج الكثيرة لما استقر في أذهان بعض الناس من صورة غير صحيحة عن الإسلام !
ثم عرضت لي شواغل صرفتني عن كتابة هذا البحث، ثم إني نسيت الحداث و مر زمن طويل، فلم أكتب شيئاً .
و في هذه الأيام ذكرني شاب من الناس بما كت قد عزمت على كتابته من قبل، و سألني سؤالاً جدد في نفسي العزم على نشر ما قد كنت طويته في نفسي و لم أكتبه. و رأيت أن أجعل من حديثي مع هذا السائل و جوابي له، مقالاً أكتبه في هذا الموضوع.
سألني الشاب، بعد أن استوثق أني لن أضيق ذرعاً بسؤاله:
ما رأي الإسلام في الحب؟
فقلت له : عليك أن تصحح صيغة السؤال أولاً فإن الإسلام ليس رجلاً من الناس و لا هو تأليف رجل من الناس، حتى يكون صاحب رأي و فكر فيما يقرره و يرتئيه. و إنما الإسلام مجموعة الأحكام الإلهية التي ألزم الله عز و جل بها عباده قضاء مبرماً لا خيرة لآحد من الناس فيها .
و لو كان ما ينطق به الإسلام من الأحكام رأياً ، لكان لكل رأي آخر أن يتكافأ معه في النظر و البحث. فما كانت الحقيقة لتتبدى ظاهرة لرأي عاقل واحد، و تتستر ، محتجبة عن عقول الآخرين.
و ما أظنك يا هذا إلا متأثراً – من حيث لا تشعر – بتلك الكلمة التي صاغها خبيث متقصد ، و راح يختم بها على آذان الناس في حدث إاذاعي متكرر، و هي كلمة "رأي الدين" ، و ذلك كي تنصقل في آذان الناس فتنفذ منها إلى عقولهم، فيستقر فيها من حيث لا يشعرون أن أحكام الإسلام إن هي إلا آراء إنسانية من السهل جداً أن تقرع بآراء مثلها .
فهي كما تقول: رأي علم الإجتماع كذا .. و رأي الفلسفة كذا .. و رأي علم الطبيعة كذا .. و للدين أيضاً رأي بين هذه الآراء . و هو كذا !! و معاذ الله أن يكون الأمر كذلك .
إن الدين الحق إنما هو خطاب خالق الكون كله للنخبة الممتازة من مخلوقاته آمراً و ناهياً و مقررأً . وهيهات أن يقارع شيء من ذلك بنقد أو برأي . إذاً لكان للرأي أن يقارع شيئاً من قضاء الله في خلقه ، فليس هذا إلا مثل ذاك، و ما كلاهما إلا مظهر لعبودية الإنسان لمالكه و خالقه جل جلاله.
ثم قلت للسائل : و إنما ينبغي أن تكون صيغة سؤالك :
ما هو حكم الإسلام في الحب ؟
قال : فهذا ما قصدته و إنما سبق لساني إلى الصيغة الشائعة كما قلت .
قلت له : و لكن الإسلام لا حكم له في الحب، أرأيت أن الإسلام يحكم بشيء على الكراهية و الحزن و الخوف و الجوع ؟ فهو أيضاً لا يحكم بشيء على الحب.
و بيان ذلك أن أحكام الإسلام إنما هي عبارة عن التكاليف المنوطة بالعباد من إيجاب و تحريم و ندب و كراهية و إباحة . و هي إنما تتعلق بما يصدر عن الإنسان من أفعال اختيارية، لا بما استكن فيه من انفعالات و مشاعر قسرية. و معلوم أن الحب من جملة الإنفعالات القسرية التي لا سلطان للإنسان عليها .
ألم تسمعهم يقولون : الإسلام دين الفطرة ؟
قال : بلى .
قلت : فهذا الذي سمعته إنما هو من وصف رب العالمين له في مثل قوله جلا جلاله : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله لذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون) .
و معنى كونه دين الفطرة، أنه يلبي حاجات الإنسان و تطلعاته و أشواقه الأصيلة ، في صورة من العدل و الإستقامة و التنظيم. أي أنه لا يكبت في الإنسان شيئاً من مشاعره و انفعالاته و وجدانه، و لكنه يعلمه السبيل الأمثل إلى معالجتها و الإستجابة لها .
فالإسلام لا يقول لك في شيء من أحكامه : لا تجع ، أو لا تكره ، أو لاتحب .
و لكنه يقول لك : إذا جعت فلا تسرق، و إذا كرهت فلا تظلم ، و إذا أحببت فلا تنحرف .
ثم إنه يضع أمامك لمعالجة الجوع مشروعية الكدح و العمل من أجل الرزق ، و يضع أمامك لمعالجة الكراهية نظام العدل و المقاضاة في الحقوق. و يضع لمعالجة ما تلقاه بين جنبيك من لواعج الحب قانون النكاح و الزواج.
و من هنا تعلم أن الإسلام لا يحاسب الإنسان على شيء من هذه المشاعر و الإنفعالات التي جبلت عليها لانفوس ، و لكن الإسلام إنما يحاسب الإنسان على ما قد اجترحه من أفعال غير مشروعة بسائق تلك المشاعر و الإنفعالات .
غير أن هذا كله ليس إلا جزءاً من الجواب على سؤالك . تتمته أن تعلم بأن ما قلته لك لا يعني أن تعرض فؤادك لعواصف الحب و صواعقه المحرقة . ذلك لآن التسبب إلى شيء من ه داخل في جملة الأفعال الإختيارية التي تستطيع أن تسيطر عليها لا في جملة الإنفعالات التي لا قبل لك بها .
------------
و مشاعر الحب و العواطف في كيان الإنسان، أشبه ما تكون بسراج يتقد في غرفة بليل، فإن أطفأت السراج انقلب المكان إلى ظلام موحش دامس، و إن بالغت في رفع الذبالة و مد لسان اللهب ، تحول السراج المضيء إلى نار محرقة قد تحيل الغرفة كلها إلى ألسنة من اللهب !
و إنما يكون الحب في فؤاد الإنسان بمثابة السراج المضيء إذا كان الإسلام قد هذب كيانه و أقامه على صراط من الإعتدال الذي شرعه الله له، فلا هو يضرب على نفسه نطاقاً من الحرمان و القسوة المتجانفين عن هدي الإسلام ، و لا هو يمد اليد و العين إلى كل ما يلوح أمامه من مظاهر المتعة و الأهواء و يذهب نفسه حسرات وراءها.
ثم إذا كان المجتمع من حوله، مهذباً هو الآخر بآداب الإسلام، كان هذا السراج المضيء في قلبه دليل سعادة غامرة، تموج بعبير الزهر و الريحان ، لا تشوبها أشواك دامية و لا آلام كاوية . وإنما يبغي الإسلام من وراء ما يشرعه من تهذيب للفرد و المجتمع تحقيق هذه السعادة التي لا يمكن أن تتحقق إلا باتباع منهجه و حكمه.
أما إن لم يكن المجتمع من حول متسماً بآداب الإسلام و متقيداً بحمه، فإن له من عقيدته الجاثمة في قلبه و عباداته التي تملأ رحاب وجدانه، ما يضمن له السمو فوق مغريات المجتمع و مفسداته و يعينه على التقيد بنظام الإسلام و حكمه.
-------------------
ثم قلت للسائل:
و لكن إياك أن تخطئ فتحسب أن هذا هو الحب الذي يتحدث عنه كثير من أدعياء الأدب اليوم في كتاباتهم، و الذي يمثله الممثلون في أفلامهم , و يتهامس به كثير من الشبان و الفتيات في خلواتهم .
إن هؤلاء أبعد ما يكونون عن المعنى الذي ذكرناه، و إنما الحب في حسابهم شيء لا يتجاوز خائنة الأعين و تقلباتها.
إنهم إنما يفقهون من الحب، ذاك الذي يتسلل حيث عيون الشرف و الدين غافلة، و يختفي حيث عيون الشرف و الدين غافلة ، و يختفي حيث تبدأ قداسة الشريقة و روح الزواج!
و الحب عندهم ، كلمات منمعة تصاغ منها شبكة صيد توضع كل أسبوع في طريق ضحية جديدة!
فلو تجسد هذا الحب، لما رأيته تمثل إلا في أقبح ما يمكن أن يُـتصَـور فيه الكيد و الظلم و الإمتهان!
فإن كنت عن هذا الحب تسألني، فعاعلم أنه ليس إلا مكيدة مقنعة جاءت تتسلل في مظهر انفعال متألم خافق! و أين هذا مما قد وصفته لك ؟
الحب، الذي يشدو به كثير من الناس اليوم، ليس إلا كلمة غاض كل ما قد كان فيها من الفضائل و تجمع كل ما لم يكن فيها من الرذائل.
كان الحب سراً من أسرار القلب يربي فيه فضائله ، و يحوط بالحفظ كمالاته، و يغرس في النفس بذور الرحمة و الإنسانية بعد أن يقتلع منها جذور الأثرة و الأنانية. فكان بذلك خير مهاد لبناء الأسرة ، و أفضل روح لتضامن الأمة ، و أقوى زناد لتفجير ينابيع الحكمة و إذكاء شعلة الأدب.
أما اليوم، فقد غدا الحب سراً من أسرار (التواليت) يثير في النفس غزائزها ، و يقتلع من الروح فضائلها . ثم إنه قد أصبح عرضة للسلب و النهب ، تجد بواعثه في كل سكة و شارع و زقاق و مزدحم!
و بذلك أصبح أسوأ مدمر لكيان الفرد و الأمة ، و أعظم خطر على بناء البيت و الأسرة .
و ما قد يصفه لك بعض أرباب هذا الحب، من لواعجه و آلامه إنما هو من نتائج الغيرة الطبيعية في الإنسان و ليس من نتائج الحب المزعوم في شيء.
و إنما تتسعر الغيرة بين جوانح أحدهم، بسبب ما ذكرناه من أنهم يمارسون حباً قد أصبح عرضة للسلب و النهب، في جو من التحلل الذي لا ترد فيه يد لامس : تبتسم الفتاة لصاحبها الأول فترة قصيرة من الوقت تظللهما خلالها أجنحة الأحلام ثم ما هو إلا أن يفاجأ بها تبتسم لخليلها الثاني ، فيلتف سُـعار الغيرة على قلبه و تقيمه اللواعج دون أن تقعده .. ثم يمضي ينشد في حاله الشعر و يبعث من صدره الأنين، ظاناً أنه إنما يعاني من برحاء الحب المتأجج في قلبه ، و هو إنما يعاني من آلام الغيرة النابعة من سوء مجتمعه.
و ما أعظم الفرق بينهما لمن يعلم!
قال السائل، و قد لمعت عيناه ببريق من الخبث المتأدب :
أراك يا سيدي خبيراً و دقيقاً في هذا الباب !
قلت له : الحمد لله الذي هو أهل للمحامد كلها ، على كل حال . و أشكره شكر عبد أيقن أنه مملوك له في السراء و الضراء ...
و نظر إلي الشاب ينتظر مزيداً من الشرح . فقلت له :
حسبك ما قد سمعت!
انتهى .
من كتاب الفكر والقلب للبوطي
أركان بيعتنا عشرة فاحفظوها: الفهم، والإخلاص، والعمل، والجهاد ، والتضحية، والطاعة، والثبات، والتجرد، والأخوة، والثقة .
>>> حمل الاصول العشرين عند الامام حسن البنا رحمه الله <<<:huglove:
>>> حمل الاصول العشرين عند الامام حسن البنا رحمه الله <<<:huglove: