في إحدى القرى القريبة من مدينة الإسماعيلية المصرية على ضفتي قناة السويس¡ يضرب محروس مثالا للأمل¡ ويخوض يومياً معركة تحد لإعاقته. لم يكترث لولادته من دون ذراعين¡ ولا لنظرات الشفقة التي حاصرته منذ الطفولة¡ فتغلب بفضل إرادته الصلبة على كل الصعاب¡ حتى أصبح يلعب كرة الطاولة (البينغ بونغ) ويصطاد السمك بفمه¡ ويأكل ويشرب ويحوك الملابس ويشعل النار بقدميه.
هذا هو حال محروس¡ المولود في قرية أبو عطوه بالإسماعيلية¡ من دون ذراعين¡ لأب وأم قريبين يجهلان القراءة والكتابة¡ ولم تجد الأسرة مفراً من تقبّل الأمر الواقع ومحاولة معايشته.
يقول محروس¡ 49 سنة¡ إنه تدرب منذ الطفولة كيف يمسك بأدوات الطعام وألعابه البسيطة بفمه¡ وكذلك ارتداء ملابسه بمعاونة شقيقه الأكبر. ولفت إلى أن الأمر كان شاقاً عليه ومؤلما على أمه وأبيه¡ لكنه واصل التحدي حتى أتقن فعل كل شيء بقدميه وفمه.
بعد بلوغه العام التاسع كان محروس قد أتقن استخدام فمه وقدميه عوضاً عن يديه. فمن خلالها يأكل ويشرب ويلعب مع أقرانه¡ بل يقضي حاجاته من دون مساعدة من أحد¡ إلى أن تمكن من تحويل نظرات الشفقة التي كانت تترصده من جيرانه وأهل قريته.. إلى نظرات إعجاب لقدرته على فعله أشياء يصعب على الآخرين القيام بها.
حسب محروس¡ فإنه رفض تركيب أجهزة تعويضية لليدين¡ لأن الأطباء طلبوا منه بتر الجزء الصغير منهما. وتابع: «شعرت أن تركيب هذه الأجهزة سيعوق حركتي.. أنا الآن أتحرك بحرية كاملة وأفعل كل شيء».
وأثناء استماعنا لمحروس وهو يروي قصته كانت زوجته خارج المنزل. وعندما بدأ ابنه يشعر بالجوع أحضر محروس طبقاً ومعلقة صغيرة وامسكهما بقدمه¡ وبدأ في إطعام الطفل الصغير.
يقول محروس: «أنا لا انتظر مساعدة أحد¡ طالما أن لديّ القدرة على خدمة نفسي». وبسؤاله عن كيفية حياكته لملابسه كما سبق وأخبرنا¡ بادر على الفور وأحضر قطعة من ملابسه¡ وبدأ بالفعل في حياكتها¡ ممسكاً بإبرة الخيط بقدمه. ثم قال: «كان الأمر صعباً في البداية¡ لكن مع الوقت والتكرار أصبح سهلا للغاية».
ورغم صعوبة التعليم الأزهري في مصر¡ مقارنة بالتعليم العام لإضافة المواد الشرعية¡ فضّل محروس هذا النوع من التعليم على غيره. وهو يحكي عن مشواره التعليمي قائلا: «كان اختيار التعليم الأزهري في ذاته مواصلة للتحدي الذي بدأته مبكراً. وكان أصعب ما يواجهني الكتابة فدرّبني شقيقي الأكبر على استخدام قدمي في الكتابة بوضع القلم بين أصابعي. وعندما كنت أتعب كنت أبدله باستخدام فمي¡ حتى حصلت على الشهادة الإعدادية الأزهرية بتفوق. لكنني قررت بعدها التوقف عن التعلّم والعمل لمساعدة نفسي».
ويضيف: «عملت كاتبا بالوحدة الصحية التابعة لقرية أبو بلح بالإسماعيلية¡ إلا إن الراتب الحكومي لا يكفي مع زيادة أعباء الحياة اليومية وارتفاع تكاليف المعيشة¡ ولذلك اضطر للعمل أحيانا كأجير بالأراضي الزراعية».
لدى محروس أربعة أبناء¡ بنت واحدة وثلاثة أبناء ذكور أنجبهم من زوجتين. فقد أنجب ثلاثة أبناء من زوجته الأولى التي أنفصل عنها بعد 12 سنة من الزواج¡ وأنجب عمر من زوجته الثانية التي تعيش معه الآن¡ وقد تزوّجها منذ نحو ثلاث سنوات.
اللافت أن محروس دأب على الذهاب إلى مركز شباب قريته يومياً لممارسة رياضته المفضلة كرة الطاولة¡ وفي أيام الصيف يذهب لصيد الأسماك من الترعة ممسكاً بالصنارة بفمه بينما يعاونه طفله في وضع الطُّعم.
وتقول «أم عمر»¡ زوجة محروس الثانية: «لم أجد حرجاً في ارتباطي بمحروس فهو يحظى بالحب والاحترام بين أهالي القرية¡ والكل هنا ينظر إليه بالإعجاب». وأضافت: «محروس قادر على فعل كل شيء لنفسه ولنا¡ بدايةً من ارتداء ملابسه¡ وصولاً إلى إشعال النار بفمه».
وفي مشهد ليس غريباً على أهل قريته¡ يقطع محروس يومياً على دراجته مسافة 4 كيلو مترات ذهابا وإيابا¡ للوصول إلى مقر عمله بالوحدة الصحية في «أبو بلح»¡ يقودها بتثبيت صدره على مركز التحكم الأمامي للدراجة¡ كما يذهب بشكل يومي على دراجته إلى مدينة الإسماعيلية لإيصال المخاطبات والأوراق الرسمية بين الوحدة ومديرية الصحة¡ وهي مسافة لا تقل عن 10 كيلو مترات.
عادل محمد المدير الإداري للوحدة الصحيّة في«أبو بلح»¡ حيث يعمل محروس¡ قال :«لم يُشعرنا في أي وقت من الأوقات بأنه مُعاق.. فهو يفعل كل ما يطلب منه. وفي أحياناً كثيرة ينفذ بعض الأعمال تطوّعاً¡ حتى إنه يسند إليه كل الأعمال التي تحتاج لمجهود عضلي¡ لقدرته على انجازها وسرعته في أدائها».
في دوامة كل هذا لا ينسى محروس أن يروّح عن نفسه¡ فهو عاشق للطرب وللموسيقى الشعبية. ومن مطربيه المفضلين أم كلثوم وعبد الوهاب وشادية ومحمد عبد المطلب. إذ يقول محروس: «أحب سماع الأغاني الجميلة فهي تجدّد عواطفي ومشاعري.. كما أحب مشاهدة الأفلام¡ وأذهب إلى السينما أحياناً برفقة زوجتي وأولادي.. الحمد لله برغم كل شيء أنا أعيش الحياة بحب».