مهند ونور وسنوات الضياع العربي
الكاتب : عمر شاهين
لم تعد ظاهرة المسلسل التركي المدبلج، نور ومهند، أمراً طبيعياً، فقد صارت تبعاته مؤلمة وتبتعد عن مجرد كونها مسلسلا يعرض وله جمهوره. قيل قديماً إن حملة نابليون العسكرية التي شنها في القرن الماضي على مصر، قد كشفت مدى الضياع والتخلف والسذاجة الذي كانت تعاني منه الأمة العربية، وسهولة اختراقها، ومن ثم تقاسمها من القوى الأوروبية وكأنها حبة تفاح.
كذلك أثّرت فينا العولمة بكل أشكالها لأنها باغتت المواطن المعزول ثقافياً ومعرفياً عن تطورات العالم الخارجي. إلا أني أجد أن العقل العربي الشعبي أو غير النخبوي، هش لا يتعامل مع أية محدثة إلا بطريقة يعجز أي علم عن تفسيرها! لا أجد أي تبرير أو تفسير علمي للذي يحدث في الوطن العربي بعد أن تخلّص بنسبة كبيرة من الأمية، فارتفعت فيه نسبة التعليم الجامعي وصار في معظم بيوته مئات القنوات الفضائية.
كيف يحتل مسلسل مدبلج من اللغة التركية إلى العربية أو إلى اللهجة الشامية كل أحاديثنا وجلساتنا، لدرجة أن تغيب الحركة عن الشوارع أثناء عرضه، ثم تحدث حالات طلاق بعد أن صار مهند فتى أحلام الفتيات؟!
لقد تابعت حلقات عديدة منه بعد أن بدأت أقرأ عن حالة هوس سبّبها عرضه، فقبل عدة أسابيع سمعت أن هناك مسلسلاً تحتل نغمة العرض الخاص به هواتف الشباب والفتيات، وكنت أتوقع أنها نغمة جميلة إلا أني صدمت عندما بدأت أعود إلى بيتي بعد صلاة العشاء وأسمع صوتا واحدا يصدر من البيوت، وكلما هاتفت شخصاً سمعت صوت المسلسل نفسه، وسمعت آباء كثيرين يشكون سيطرة هذا المسلسل ذي الحلقات الطويلة على جو البيت، سيما الإناث، بحيث لا يحتكرن التلفاز فقط بل يشاهدن الإعادة في اليوم التالي، ويرفضن خلال فترة العرض الدراسة أو الجلوس مع أي ضيف قادم، وكذلك عدم حضور المناسبات الاجتماعية التي تتزامن مع عرضه.
هذه الظاهرة التي تشبه الاحتلال الجديد، حاول البعض تفسيرها وتأويلها على طريقة "عذر أقبح من ذنب". وللأسف هذا ما صدر من كتاب وناقدين فنيين ففسروا هذه الشعبية الجارفة بكون المسلسل أعاد للحياة الاجتماعية والعاطفة الزوجية وجودها، متأثرين بالعلاقة التي تجمع مهند مع زوجته نور، واتجه رأي آخر للقول إن المسلسل يعرّف بالحياة الاجتماعية والحضارة التركية، لكن كل هذا خاطئ، فما يعرضه من مناظر لا تعبّر سوى عن أجواء المسلسل، أما عن المحبة التي تظهر بشكل خيالي فهي لا تتعدى أن تكون تمثيلاً لا ترتبط بمجريات الواقع.
شاهدت حلقات عديدة كي أصل إلى نتيجة تفسر لي هذه الظاهرة لكني لم أجد. لقد لاحظت أن المسلسل شبه إباحي ويدعو للرذيلة من أوسع أبوابها، فلا تحصر المشكلة في المناظر المؤثرة لعواطف المراهقين والإيحاءات الجنسية وحسب، بل أيضاً في الملابس التي ترتديها الممثلات، ووسامة البطل، أما عن الانحلال الذي يدعو إليه، فحدّث ولا حرج، وليس أقلّه عندما تقنع نور زوجها بأن يسكت عن العلاقات المحرمة التي لاحظها على أمه، هذا طبعاً نموذج من المؤسف أن يعرض أمام الأسرة وهي مجتمعة لأخذ "جرعة يومية" من قصة غير محبوكة، تعتمد الإطالة، سيما بعد النجاح الهائل الذي حققه من دون تكثيف للحدث، ومفارقات وصدف المهم فيها التركيز على البطلين.
شاهدت على التلفاز ندوات كثيرة تناقش سبب نجاح هذا المسلسل، ولم أجد أي مديح للقصة أو للحدث يفسر ما يحدث، ولم ينته الأمر عند الجلوس أمام الشاشة، فقد سجلت حالات طلاق عديدة بين الأزواج بسبب صور بطل المسلسل "كيفانش تاتليتوغ" الوسيم جداً، والذي كان يعمل كعارض أزياء قبل أن يتحول إلى نجم أول في العالم العربي، حتى باتت صوره تملأ الأسواق، وصارت بعض الفتيات يبحثن عن عريس يشبهه، وأخريات يشترطن على الخاطب أن يغير تسريحة شعره مثله، ناهيك عن زيادة السياحة إلى تركيا بنسبة كبيرة، في رحلات يطمح فيها السائحون العرب بزيارة القصر الذي تصور فيه أحداث المسلسل.
كل هذا الهوس العجيب الذي يلاصق أحداث المسلسل وسيستمر معه حتى لو استمر ألف حلقة، يشعرنا بالحزن على منطقة تعد الأصعب في ظروف المعيشة وتتعرض دولتان فيها لاحتلال عسكري وتواجهها مشاكل اقتصادية خطيرة.
في اليوم التالي لوفاة المفكر الكبير عبدالوهاب المسيري، لم يسيطر فقدانه وموسوعاته التي تركها وراءه على أحاديث طلاب الجامعة، بل أخبرني أحد أصدقائي أن محور الحديث في ذلك اليوم كان ينصب حول خطف عابدين لنور، تخيّلوا درجة الإسفاف التي تتكشف يوماً بعد يوم!
أستطيع أن ألقي باللوم على المسلسل وأبطاله، لكني أضع اللوم على أمتنا التي لا تريد أن تستيقظ، والتي يبدو أن اختراقها لم يعد يحتاج مستشرقين أو غيره. إن ما يشغلها ويعطّلها ويهدم أخلاقها، أو يعلمها العاطفة وأسس الأخلاق الحديثة، شاب وسيم توجد مئات الملايين في وطننا بوسامته. إن ما في هذه المسلسلات، بعيد عن نسبة كبيرة من المجتمع التركي المتمسك بدينه وعاداته، ومن المؤسف أن تنهار أسر وقيم وتنتشر حالات طلاق نتيجة تمثيل، بينما نجد في السنة النبوية مئات النماذج للعشرة الطيبة التي كان يقدمها سيدنا محمد لزوجاته ويعلمنا إياها متزامنة مع تصرفات طيبة وأخلاق سويّة، وليس محبة محاطة بانحراف وهدم خلقي وسعي وراء الشكل. ثمة سؤال مهم أضعه أمام جميع المهتمين: هل نلوم الحداثة والغرب والمستعمر ونعتبرهم سبب تخلفنا في الوقت الذي يهزنا فيه مسلسل عادي جداً ويترك كل هذا الارتباك؟ أين نقطة التخلف يا تُرى؟!
م ن ق و ل