ينظر الفأر الذي وقع عليه شعاع باهت من ضوء خافت ، الى الجدار فيرى ظله وقد امتد على واجهة الجدار ، فيترنم طربا ويمتلئ زهوا وخيلاء ، ويظن نفسه إنه كبير بحجم الفيل الذي يستطيع ان يحمل أثقل الأثقال ويحطم الأرتال ، حتى تتشابك الأفعال معه بالأقوال ، فتظهر عليه بوادر مرض اسمه "جنون العظمة " ، ولكن بعد التحليل والتعليل ، والتشخيص والتمحيص ، والتقليب على ظهر ثم بطن ، والتنبيش في المخ والمقدرة ، يجد الطبيب غير المداوي إن هذا الفأر مصاب برهاب ضعف الشخصية والأزمة النفسية ، مهزوز كقصاصة ورق حين تعصف بها ريح .. يكره نفسه قبل ان يشتري كراهية الآخرين بحفنة ذرة يقدمها له لصوص البيادر .
والفئران في المفهوم الشعبي ، لا تختلف عن تماسيح المستنقعات الآسنة إلا بملمسها واختلاف قدرتها وحجمها .. فهي مخلوقات مؤذية نظريا وعمليا وتعامليا ومجاورة وملامسة ونقلا .. وهذا يؤسس الى مصداقية ضرب المثل بها ، في حالة الخداع البصري والحسي والتفاضلي ، فيقال مثل الفأر :
"ملس سلس نجس " .. فهو أملس .. يغريك بنعومة ملمسه الذي يحاكي ملمس الأفعى ، فلا يؤذي أصابعك ، بل يترك عليها فيروس ليصيبك بالمرض ، عافانا الله واياكم ، ومناقلة الأمراض هي اختصاص لتلك الفئران .
وهو سلس ينزلق الى القلب عن طريق العين ، ولكنه يفضل النزول الى مستوى الأنفاق ، وتستهويه المجاري ، فيخرج من النفس ، من أماكن تعف عنها ، وهذه غايته ومنتهاه .
وعليه فهو نجس .. لا نبنغيه النفس السوية ، ولا الرجولة القوية ، ولا تنطبق عليه معايير الفضيلة ، ولا مقاييس الشهامة ، صغير بحجم الخيانة ، لا يستطيع ان يصل الى سنابل الحقل ، فيعمل على قضم جذورها ، تحت غطاء الليل ، والليل لعبته وساحة معاركه ، وهو العدو الأول للفلاح ، والأنكى إنه لا يستساغ إلا لطائر " البوم " المشؤوم .
وما ينطبق على أوصاف للفأر الصغير ، ينطبق على صغار المتعاملين بسوق السياسة المالي ، والمقايضة الوطنية ، والإعلام الممول ، والصحافة الفارغة من كل شيء إلا من التفاهة و الشخصنة واغتيال الشخصية ودق الأسافين في اللوحة الجميلة للمجتمع الاردني الواحد المزركشة بألوان التعددية من مختلف الأصول والمعتقدات .. ولا ينتهي الوصف عند تجار القضايا وسماسرة الأوطان ، والمتعاملين بفن المقايضة ، والمحاككة ، والمحاصصة ، وبيع أصول الدولة للوصول الى ضياع أصول الشعب ، وأصالة الوطن ، وقطع حبل الوصل بين هرم يبجلّ وقاعدة تـُعشق .
شيء ما يجبرك أحيانا على ازدراء ما يدور هنا وهناك من وقائع لا ترتقي الى مستوى الأخلاقيات ولا التنافسية في غير ناحية حياتية ، ولكن ما يدعوك أحيانا الى الضحك المخضب برذاذ الحزن ، ما يجري في الوسط السياسي و الصحفي في بلدنا ، والذي وصل حد وصفه دون خجل بباعة البسطات في " الجورة " أو سوق الحرامية المغفور له .
البعض ، وأؤكد على البعض وبعض البعض ، يحاول ان يسقينا المقلب ونحن عطشى للحقيقة والأمل ، فكيف لنا أن نسامحه ، ولا زالت بعض الحوادث موشومة في البطين الحزين من قلوبنا ، وكلما " طق كوزي بجرة الحديث " عن بعض ترديات الواقع الرسمي والشعبي والوسط المهني ، اعود للكتابة عن مرارة الوضع ، ليس للتهويش أو " التبكيش " كما يفعل من تربوا في حواري الفتن والدسائس والخوف والحقد على الآخر .. بل من داعي رفض " تجحيش " الحصان الأردني الأبلق العتيق الخنذيذ .. و السبب بسيط ، مرتبط بسؤال متلعثم :
كيف لمواطن بسيط بريء يبحث عن فرح لنفسه ولأطفاله ، وضع ثقته في رجل ما أو مسؤول ما ، أو حكومة ما ، أن يتلقى طعنة من وثيقه ومحل رجاءه بعد الله .. فنتخيلهم كرجل الثلج الذي بناه طفل أشقاه الفرح تعبا، لبناء رجله الأبيض مساءا ، حتى اذا ما جاء موعد الفرح واللعب صباحا ، اكتشف ان الثلج ذاب والرجل غاب ، والمسألة ليست أكثر من فعل نصب ، وفاعل نصّاب ، لنعود ونسأل هل يسرق " بابا نويل " الحلوى من الأطفال وهم ينتظرونه على أبواب العيد ؟
اليوم تعود لنا نفس حكاية الرجل ، ولكن أبطالها غلمان ظنوا أنفسهم أعلام في علم السياسة والإعلام ، تظن بهم خيرا فتنبئك سخافاتهم عن مكنوناتهم .. صفقات ، ومؤامرات ، ونحل و سرقة وفساد ، وادعاء ما ليس بهم .. وانتفاء للمهنية ، وعدم الارتقاء الى أدنى مستويات اللباقة الأخلاقية .
نفرح للبعض عندما يشتركون معنا بمعلومة او خبر او رأي يؤدي الى تصحيح المسار أو إفادة للمجتمع والرأي العام .. ولكننا نأسى عندما يسرقون لسانك من فمك ، وأصابعك من كفك ، وينسبون لأنفسهم أبنك الأصيل ، ويتهمونك بابنهم اللقيط .. فأخبارك عندهم ، بضاعة مسروقة لا يخجلون من بيعها على أساس تغيير مكان المنشأ ، وهذه عادة لصوص التجارة والمتعاملين مع الأعداء وعلى رأسهم إبليس الخسيس .ووطنيتك مشكوك بها دائما .
وعلى الرغم من إن ندرة من مؤسساتنا الإعلامية العريقة بمهنيتها تحاول خلق صحافة حرة نزيهة لا تطبل للفاسدين ، ولا تنام في أحضان المفسدين .. ولكن للأسف فقد أصبحت كمن يزرع وردة في صحراء .. لا هي زينت الواقع ، ولا هي التي سلمت من لهيب الشمس .
فالصحاري القاحلة لا يصلح لها سوى أشواك وأفاع وضباع وعقارب سامة ، تظن إن حياتها لا تستمر إلا إن قتلت غيرها .. وسرّ نجاحها هو في تدمير الناجحين غيرها ، ولن يصدق أحد أكاذيبها إلا إذا تخلصت من الصادقين .. وأنىّ لها ذلك .. ونحن أعمدة البيت وأوتاده .. !!؟
إذا يجب على المتعاملين في حقل النفايات الوطنية أن يتوقفوا .. ويتذكروا إن هذا الوطن هو أطول عمرا من أشجارهم غير المثمرة .. ورجالاته أكبر بكثير من " أراجوزاتهم " وأقزامهم ، وأصحاب الظل الطويل والذيل القصير .. وحتى لا يعملوا بفؤوسهم في هذا الصرح الشامخ ، حان الوقت لتضرب أيديهم بسياط من نار ، وان تلجم أفواههم كريهة الرائحة ، وتكسر أسنانهم القارضة ، فحبال الوصل بين الأشراف والطيبين والأحرار والصادقين والمخلصين من أبناء البلد هي حبال تقوى صادقة ، ستلتف حول رقاب المجرمين يوما ، وكما كنا الأوائل سنبقى الأوائل وطليعة الطليعة ، وليصارع من يريد غبار حوافر جيادنا .. أردنيون لا فرق بين شرقي وغربي وشمالي وجنوبي وأسمر وأشقر .
ولتعلم الذبابة ان كانت طائرة فوق الجميع وتظن إنها بارتفاعها لا ترى أحدا تحتها .. فقدر يقول : إن الجميع على الأرض لا يرونها أيضا مهما طارت وعلت ... سامحونا
اجبد