في حضور الوجدان تتألق معاني أحلام مستغانمي، وفي ذاكرة الجسد تتوج حضورها، حروفاً كلمات عبارات تتقاطر في حفل الغناء الروحي. موسيقاه الوطن المنبعث برغم الجراحات... مليون شهيد وثورة ومجاهد، وجزائر الثكلى بأبنائها تنبعث زوابع وعواصف الشوق والحنين في قلب خالد الرسام الذي امتشق الريشة بعد أن هوت يده التي حملت السلاح يوماً، والريشة والسلاح سيّان، كلاهما ريشة تعزف على أوتار الوطن. ففي فرنسا وعندما كان يرسم ما تراه عيناه، جسر ميرابو ونهر السين، وجد أن ما يرسمه هو جسراً آخر ووادياً آخر لمدينة أخرى هي قسنطينة، فأدرك لحظتها أنه في كل حال لا يرسم ما نسكنه، وإنما ما يسكننا.
وهل كانت أحلام مستغانمي تكتب ذاكرة الجسد أم أنها تكتب ذاكرة الوطن؟!! الأمر سيّان فما الجسد إلا جزء من الوطن وما الوطن إلا هذا الجسد الساكن فيه إلى الأبد. تتقاطر الذكرى مفعمة بروح الماضي الذي يأبى إلا الحضور في كل شيء متجسداً السي طاهر التي كما عرفها خالد طفلة رجل قاد خطواته على درب الكفاح؛ عرفها أنثى... كانت من الممكن أن تكون حبيبته، زوجته، ولكنها باتت زوجة في زواج لم يحضره، تلف الذكرى الصفحات، وتتهادى العبارات ممسكة بتلابيب الذكريات دون أن توقظ النفس ملل الحضور. الوطن والحبيبة يجتمعان، والثورة والحب ينصهران في بوتقة واحدة، ومزيجهما عطاء فكري، بعيد عن الخيال، للواقع أقرب، وللإنسان في صدق مشاعره وأحاسيسه أقرب وأقرب.
"كل ما أدريه أنني مذ غادرت الجزائر ما عدت ذلك الصحافي ولا المصوّر الذي كنته. أصبحت بطلاً في رواية، أو في فيلم سينمائي يعيش على أهبة مباغتة؟ جاهزاً لأمر ما.. لفرح طارئ أو لفاجعة مرتقبة. نحن من بعثرتهم قسنطينة، ها نحن نتواعد في عواصم الحزن وضواحي الخوف الباريسي. حتى من قبل أن نلتقي حزنت من أجل ناصر، من أجل اسم أكبر من أن يقيم ضيفاً في ضواحي التاريخ، لأن أباه لم يورثه شيئاً عدا اسمه، ولأن البعض صنع من الوطن ملكاً عقارياً لأولاده، وأدار البلاد كما يدير مزرعة عائلية تربي في خرائبها القتلة، بينما يتشرد شرفاء الوطن في المنافي. جميل ناصر، كما تصورته كان. وجميلاً كان لقائي به، وضمة منه احتضنت فيها التاريخ والحبّ معاً، فقد كان نصفه سي الطاهر ونصفه حياة. كانت شقته على بساطتها مؤثثة بدفء عن استعاض بالأثاث الجميل عن خسارة ما، ومن استعان بالموسيقى القسنطينية ليغطي على نواح داخلي لا يتوقف... رحت أسأل ناصر عن أخباره وعن سفره من ألمانيا إلى باريس إن كان وجد فيه مشقة. ردّ مازحاً: كانت الأسئلة أطول من المسافة! ثم أضاف أقصد الإهانات المهذبة التي تقدم إليك من المطارات على شكل أسئلة قال مراد مازحاً: واش تريد يا خويا.." وجه الخروف معروف"! ردّ ناص: معروف بماذا؟ بأنه الذئب؟ أجاب مراد: إن لم تكن الذئب، فالذئاب كثيرة هذه الأيام. ولا أرى سبباً لغضبك. هنا على الأقل لا خوف عليك ما دمت بريئاً. ولا تشكل خطراً على الآخرين. أما عندنا فحتى البريء لا يضمن سلامته! ردّ ناصر متذمراً: نحن نفاصل بين موت وآخر، وذلّ وآخر، لا غير. في الجزائر يبحثون عنك لتصفيتك جسدياً. عذابك يدوم زمن اختراق رصاصة. في أوروبا بذريعة إنقاذك من القتلة يقتلونك عرياً كل لحظة، ويطيل من عذابك أن العري لا يقتل بل يجردك من حميميتك ويغتالك مهانة. تشعر أنك تمشي بين الناس وتقيم بينهم لكنك لن تكون منهم، أنت عارٍ ومكشوف ومشبوه بسبب اسمك، وسحنتك ودينك. لا خصوصية لك برغم أنك في بلد حر. أنت تحب وتعمل وتسافر وتنفق بشهادة الكاميرات وأجهزة التنصت وملفات الاستخبارات".
في زمن موت كرامة العربي، في زمن تهميشه في زمن احتقاره وامتهانه تضحي مساحة سرديات أحلام مستغانمي أوسع وأعمق، وبعيدة كل البعد عن روتينية الصنعة الروائية في استرسالاتها في انبعاثات أحداثها. فهي تؤدي مهمة تتجاوز الحدث، مخنوقة النفس العربية عموماً، الجزائرية على وجه الخصوص، مستلهمة من الواقع منولوجاتها الداخلية وحتى الخارجية، ممتزجة باليأس، وغارقة في لجج من الإحباطات. تسترسل أحلام مستغانمي في انسياحاتها السردية متماهية مع الجزائري مع العربي في آلامه وأوجاعه. في محاولة لتشخيص مرض وإيجاد علاج. من خلال أسلوب أدبي رائع، وعبارات ومعانٍ تميل إلى الرمز حيناً، إلى الواقعية أحاييناً مستدرجة مشاعر القارئ وفكره للتماهي في رحلتها التي شرعتها مع عابر سرير.