.. قراءة في مآلات غامضة ومعقدة
كثيرون ممن خرجوا إلى ميدان التحرير لم يكونوا على إطلاع على ما يجري على مستوى المطبخ السياسي وفي الكواليس المغلقة لصناعة القرار في مصر، وبقيت أحداث الأيام الأخيرة من حكم مبارك غير مفهومة بالنسبة لغالبية المصريين، ولكنها كانت محاولة لإنقاذ ليس نظام مبارك، ولكن لانتشال نظام ثورة يوليو 1952، بكلمة أخرى، نظام العسكر.أحمد شفيق ليس ظلا لمبارك، ولا يريد، ولا ينبغي له، أن يعيد إنتاج نظام مبارك، ولكن عليه مهمة أن يحافظ على نظام الحكم العسكري القائم في مصر، وهو ابن المؤسسة العسكرية، وأحد وجوهها، يوجد العديد من الكهنة في بنية المؤسسة العسكرية المصرية، ولكن الوجوه الشهيرة قليلة، ولنقل أن الجيش المصري الذي يبدو متماسكا ومتحدا، ليس كذلك في العمق، فإلى اليوم، لا يمكن لأحد أن يفسر إلى اليوم الحوادث التي تعرض لها المشير أحمد بدوي، الذي سقطت طائرته مع مجموعة من قيادات الجيش المصري سنة 1981، أو اغتيال الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري في لندن عن طريق إلقائه من النافذة (نفس الطريقة والملابسات التي أرفقت اغتيال أشرف مروان، صهر الرئيس عبد الناصر، والممثلة سعاد حسني)، وأيضا لا أحد يمتلك الأسباب الواضحة التي تفسر إزاحة المشير عبد الحليم أبو غزالة بعد فضيحة مفبركة.
الفريق أحمد شفيق كان مرشحا للخطة (ب) في حال قررت المجموعة المقربة من جمال مبارك، الرئيس الفعلي لمصر، أن تضعه في قصر الرئاسة خلفا لأبيه، وكانت قيادات الجيش تدفع بأحد الوجوه المتقاعدة المعروفة التي يمكن أن تمثل مصالح المؤسسة ككل، وبالتالي، فشفيق كان خصما محتملا لمبارك، وكانت حمايته تتمثل في المؤسسة العسكرية، والحرس القديم الذي استشعر بالخطر من تصرفات رجال جمال مبارك، ولذلك كان ترشيح شفيق محاولة لتطويق مبارك في أيامه الأخيرة، وكانت تجري محاولة لإجهاض الثورة، وعمليا، كان مبارك سيتنازل لنائبه عمر سليمان لو نجحت مناورة أو معركة الجمل في ميدان التحرير، وسيتم افراز نظام يستوعب شفيق، ولكن شيئا لم يكن فات الجيش ورجاله، ولذلك بقي الرهان على شفيق قائما حتى جرى تمريره لينافس في الجولة الثانية والحاسمة من انتخابات الرئاسة، وهو غالبا الرئيس القادم لمصر، ولكنه كما ذكرنا، لن يعيد نظام حسني مبارك، ولكن مهمته تنحصر في صيانة وتجديد نظام ثورة يوليو 1952.
المعركة عمليا، هي بين العسكر والإخوان، ووصلت إلى هذه المحطة لأن الإخوان تمكنوا من مساومة العسكر وتنفيذ بعض المهام بالنيابة عنهم، وعمليا جرى الافتراق بين الطرفين بعد موقعة خيرت الشاطر، والأخير رجل أعمال، وهو المعادل الموضوعي لـ (أحمد عز) في الحزب الوطني، ويبدو أن الرجل هو مفتاح ثروات هائلة تتبع لحركة الإخوان، والمصالح الاقتصادية على هذه الشاكلة يمكن أن تضر بالعسكر الذين لا يريدون إثارة نقمة الشارع على الفساد المالي مرة أخرى، هل يعني ذلك أنهم على استعداد للاستغناء عن أي من مكاسبهم الاقتصادية التي تحققت في سنوات مبارك، بالتأكيد لا، ولكنهم لا يريدون أن تبدو المسألة فاقعة لهذه الدرجة، لأنهم يتجنبون فتح الدفاتر.
لماذا تحول الجيش المصري إلى لاعب اقتصادي؟ هذه مسألة تعود لزمن عبد الناصر، ومشروعات التصنيع العسكري التي انكفأت إلى تصنيع السلع المعمرة، وبعد ذلك تحولت إلى لعب دور في مقاولات الدولة، وتزايد الدور بصورة كبيرة بعد (كامب ديفيد)، فالجيش المصري تضخم في حرب الاستنزاف وصولا إلى استحقاق أكتوبر، وبالتالي كان يتوجب استيعابه من خلال معادلة جديدة، وعمليا يبقى الجيش مع القوى الأمنية أحد الوسائل لسحب البطالة من السوق، وتخفيف معدلات القوى العاملة الجاهزة والمعطلة، ولذلك لم تتخلى مصر عن التجنيد الإجباري حتى بعد اتفاقية السلام، وبدأت مشاريع الجيش تتوسع،،،سواء من استيراد السيارات وتقسيطها لضباطه، أو بناء المجمعات السكنية، وفي المقابل كان حسني مبارك ولغاية سنة 2000 يعتبر الرجل المناسب بالنسبة للعسكريين، ولكن دور جمال مبارك وشلته أدى إلى التأزيم بين المؤسسة العسكرية ومبارك.
غالبا، لم يكن مبارك يفضل نزول الجيش إلى الشوارع في 28 يناير 2011، ولكن الجيش أجبره على هذه الخطوة، بينما كان سامي عنان وهو الرجل الأول في تراتبية الجيش يحاول إقناع الأمريكيين بأن مبارك انتهى، ويقدم ضمانات لاستمرار الوضع على ما هو عليه، ولذلك تأخر الفريق عنان عن الالتحاق بمكانه الطبيعي في القاهرة لأيام، ونزلت القوات المسلحة إلى الشوارع، وأفسحت الداخلية المجال، ولن يتمكن أحد من الإجابة عن السؤال التالي قبل سنوات من الآن، هل طلبت قيادات الجيش من الداخلية أن تختفي، أم أن الأخيرة حاولت أن توقع الجيش في فخ التعامل مع بيئة صعبة ومعقدة في شوارع القاهرة وعشوائياتها؟
قبل أن نمضي نحو استعراض معادلة العسكر أو الإخوان، يجب التوقف على طبيعة الثورة المصرية، فهي ليست ثورة جياع، أو انتفاضة شعبية، ولكنها تحرك واسع ضد الاستبداد السياسي، وتعثرت الثورة في أثناء تقدمها بعاملين اثنين:
الأول: العلاقة المضطربة مع الطبقة الدنيا والفئات المعدمة من المصريين، وهي طبقة مهمشة يشكل عمال المياومة جزءا كبيرا من أبنائها، وتضررت هذه الطبقة بحدة منذ أيام الثورة الأولى، وبقيت تتضرر وتدفع ثمن التعطل الاقتصادي، وهذه الطبقة تدرك بصورة أو بأخرى، أن الاستقرار السياسي هو ما يمكن أن يعيدها للفعالية مرة أخرى، وستبقى دائما مصدرا لأعمال البلطجة والأداة التنفيذية للثورة المضادة.
الثاني: عدم قدرة الثورة على إفراز رأس سياسي يقودها، وعلى الرغم من أن الأصوات الثورية التي خرجت عن دائرة الاستقطاب بين العسكر والإخوان تصل إلى 40% من إجمالي أصوات الناخبين إلا أنها لم تتمكن من دفع أي مرشح للجولة الثانية من الانتخابات، ووضعت المصريين أمام الاختيار الصعب بين العسكر والإخوان.
السباق حاليا يشتمل على ضرورة أن يرتدي الإخوان قناع الثورية، فهم بحاجة إلى هذه الكتلة التصويتية أكثر من شفيق، فالأخير يمتلك عمليا حوالي 35% من الأصوات، حيث يتوقع أن يصب في حصالته الانتخابية أنصار عمرو موسى، وبالتالي لو توزعت الـ 40% الباقية بالتساوي، وهو الأمر المتوقع نظرا لحالة الاستقطاب بين الدولة الدينية والعسكرية، فإن شفيق سيحظى بـ 55% من الأصوات ويصبح رئيسا لمصر، والمشكلة لا تنتهي إلى هنا، ومسار الأحداث سيتطور على النحو التالي، تصدر المحكمة الدستورية العليا قرارها المؤجل بإبطال مجلس الشعب، ويتم تسريح المجلس، والدعوة إلى انتخابات نيابية جديدة، من المتوقع أن يصعد تيار الثورة والليبراليون ليحصدوا حوالي 40% من الأصوات، ويعود الإخوان ومعهم السلفيين إلى معدل من 20 إلى 25%، وتصعد القوى الموالية للعسكر وبقايا الحزب الوطني لتستحوذ على بقية المقاعد، وهم بالمناسبة الأكثر قربا من الحرس القديم في الحزب، بمعنى الأداة السياسية التي تتيح للحكم العسكري البطريركي استمراره.
بمعنى آخر، أن فعالية الثورة ستبقى مستمرة سواء أتى الإخوان، وهو المستبعد، أو شفيق (الفريق)، ولكن ذلك لا يعني تحقيقها لأهدافها قبل أن ينتهي الجيل القائم، ويذهب إلى التقاعد الطوعي، والعامل المسرع في هذه التفاعلات، هو حدوث تحولات في بنية الجيش المصري اعتمادا على البنية الصلبة المتمثلة في طبقتين، الطبقة الوسطى في المدن وأعيان الريف، ولكن ذلك لا يمكن أن يأتي في إطار إنقلاب عسكري، ولكن تحول عقائدي مهم في داخل الجيش.
المجلس الأعلى للقوات المسلحة ليس مكونا من الأبطال فهم ممثلون لمصالح طبقة بقيت في الظل إلى أن أجبرتها الأحداث أن تخرج إلى العلن وتحت الضوء المكثف، ولكن بالتأكيد أن أحدا منهم لا يمكنه أن يبيع شرفه العسكري ويفتتح حمام الدم، وحتى قدرتهم على التغاضي عن ممارسات أنصار وأتباع مدرسة مبارك محدودة، ولو استمر الجيش في سلوكه الحالي ولم يتمكن من ترتيب الأوراق تجاه إعادة إفراز نظام يوليو 1952، فمن المتوقع أن تحدث الخلخلة في الرتب الدنيا من صفوف الضباط، بمعنى من رتبة ملازم ثاني وصولا إلى رائد أو مقدم.
الخروج الآمن للعسكر من الحياة السياسية يمكن أن يوفره أحمد شفيق، فستبقى الحصانة قائمة للقادة والرتب الكبرى التي تدير رحى الجيش الاقتصادية، ولكن ماذا لو قررت الثورة أن تغلق باب الخروج الآمن، وأن تطرح جميع الأوراق على الطاولة، عمليا، لا يمكن للثوار أن يفعلوا ذلك في المرحلة الراهنة، تعوزهم الخبرة السياسية والذهنية البرغماتية للتعامل مع موضوع بهذه الحساسية، ولا يمكن أن يتحقق الظرف الموضوعي لإعادة التوازن لبنية الجيش المصري التي اختلت مع نزوله إلى الشوارع في العام الماضي دون وجود البديل السياسي الذي يتسم بالمدنية والحرية.
الإخوان سيخسرون مرة أخرى لو لم يصل مرسي إلى الرئاسة، وسيعيدون تجربتهم مع عبد الناصر في الخمسينيات، ولذلك يقدمون عروضا مثيرة للدهشة لتيار الثورة، ولكن دون أن يتنازلوا عن المنصب الرئاسي، ودون أن يطرحوا بجدية فكرة المجلس الرئاسي، وكل ما يحتاجونه هو المرور من الشهر الحالي بمحمد مرسي إلى الرئاسة، والمعركة ليست سهلة على الإطلاق.
على الجيش المصري أن يراجع موقفه ودوره، فالدولة الدينية ستتطلب أن يتم تغيير العقيدة العسكرية بصورة تدفع الجيش إلى التهاوي من الداخل، في المقابل، فإن شفيق بوضعه والكاريزما السلبية التي تحصل عليها، وفي حال توجه لإعادة انتاج لوبيات نظام مبارك، يمكنه أن ينقل الثورة من صفة الثورة السياسية التي طالبت بالحرية والانعتاق، إلى ثورة اجتماعية شاملة، تنفجر فيها العشوائيات كحزام ناسف حول خصر القاهرة والإسكندرية، بذلك تحدث الفوضى الشاملة، وسيدخل الجيش في معارك الأمن التي ستسحبه إلى الأزقة والمستنقعات السكانية غير المنضبطة.
يمكن للجيش أن يتمسك بفرصة الأخيرة للخروج مع أحمد شفيق، ولكن مع إتاحة الفرصة لانتخابات نيابية بعيدة عن تدخله، يمكن لهذه الانتخابات أن تصنع التوازن بين السلطات، وأن تعيد تدريجيا هيكلة الجيش وتفكيك الدولة العسكرية بصورة سلمية، أما الدولة الدينية، فستخلط الأوراق بصورة تدفع يمكن أن تدفع الجيش إلى النزول مرة أخرى للشوارع ولكن في ظروف لا تقل في كارثيتها عما عرضناه سابقا.
ماذا يبقى في مصر؟ يبقى المصريون، جيل الثمانينيات والتسعينيات الذين ينتظر منهم العالم أن يستأنفوا الأداء الثوري، لتصبح الثورة المصرية على شاكلة الثورة الفرنسية، وعلى هذا الجيل أن يدرك جيدا أن المسألة تستغرق طويلا، وأن جولات عض الأصابع وتهشيم العظام ستتوالى، وفي الجيش، ثمة جيل آخر من أبناء الثمانينيات والتسعينيات يمكنه أن يصنع الفارق وأن يقود المصريين عبر حقل الألغام السياسي، وأن يحافظ على هيبة الجيش وحياديته في الحياة السياسية، ويعيده من جديد ليتمدد كأحد القوى المؤثرة في المنطقة.