الجنازة الجماعية التي سار فيها الفلسطينيون، امس، كانت استفزازا مؤلما للذاكرة، أعادها عقودا الى الوراء، الى زمن ما يسمى بـ«الإرهاب الجميل»، الذي كانت تستدعيه القضية المقدسة، وترتقي به الى مستوى العبادة، التي يمارس طقوسها فدائيون غير مؤمنين بالسماء وما خلفها بل بالأرض ومن عليها.
كان الحدث مفجعا. ما زالت الجنازة الجماعية قدرا فلسطينيا، وما زال حمل الشهداء على الأكتاف والسير بهم الى مثواهم الاخير قضاء فلسطينيا.. لا يمكن غيرَ الفلسطيني ان يشعر به، أو ان يدرك وطأته. لا يمكن أحداً ان يزعم مثلا انه يستطيع أن يتقاسم مع ذوي ?? شهيدا انضموا امس الى تلك المسيرة الوطنية الطويلة، الحزن والعزاء، أو حتى أن يتسلل خلف الوجوه والعيون التي استقبلت تلك الجثامين المحررة من الأسر الاسرائيلي، بمزيج من دموع الألم وهتافات التحدي.
لا يملك الفلسطيني نعمة النسيان، أو ترف الانتقاء من الذكريات. صحيح أن لوعة الفراق لا يمكن أن تدوم أربعين أو ثلاثين أو حتى عشرين سنة، لكن تجديدها امس كان بمثابة اختبار وجداني لا يحسد عليه الفلسطيني الذي نظم تلك الجنازة الجماعية الجديدة لشهداء كانوا رواده الى الحرية المنتظرة، وكانوا طليعة الأمة في أهم معاركها وأقدسها.
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الجنازة كانت دفنا جديدا لتلك التجربة الفدائية الزاهية في التاريخ الفلسطيني والعربي. لم تؤسس ولم تعد بإحياء تلك التجربة.. مع ان الفلسطينيين لا يمكن أن يعدموا وسيلة، غير سلمية، تنتمي الى ذلك الزمن الجميل، وتحمي القضية من الزوال الذي يتهددها اليوم، نتيجة الحملة الاسرائيلية الأشد ضراوة في تاريخ الصراع على الوجود الفلسطيني بكل ما يمثله.
ولا يستطيع أحد أن ينفي أن الجنازة كانت تحريرا للذاكرة الاسرائيلية من تلك الجثامين التي نكّل بها الاسرائيليون بطريقة بشعة جدا واحتجزوها بشكل لا يمت الى القيم الانسانية بصلة طوال عقود طويلة، ثأرا من أصحابها وخوفا من أن يخرجوا من تحت التراب ومن شواهد الأرقام الى جبهات المواجهة المقفلة حاليا.. وهو خوف لا بد من الاعتراف بأنه قد انتهى الى حد بعيد ولم يعد يتحكم بجدول أعمال اسرائيل الحالي.
خلال الجنازة الجماعية التي نظمت في غزة ورام الله، كانت بيروت وحدها تسير في الخلف، تنظر الى البعيد الى تلك الحقبة التي كانت شريكة فيها، وتستعيد ذكرى عملية فندق سافوي وغيرها من العمليات الفدائية المشرفة التي كانت تنطلق من العاصمة اللبنانية، وتدقق في الأسماء الخارجة للتو من الأسر الاسرائيلي، علها تجد فيها اسما مألوفا يستفز الذاكرة ويسهم في شفائها من أمراضها الراهنة.