إنَّها “البتراء” التي لم نكتشف من أهميتها الحضارية العالمية إلاَّ ما يجعلنا في أوَّل الطريق إليها, اكتشافًا ومعرفةً; فإنَّ أهمية هذه المدينة الأردنية الوردية, المنحوتة في الصَّخْر, لتكون رمزًا لحضارة خالدة, هي حضارة العرب الأنباط, تُشْتَق من الأهمية الحضارية والعالمية والإنسانية لـ”اللغة”; وهذا إنَّما يعني أنَّكَ لن تعرف أهمية البتراء إلاَّ إذا عرفت (من قبل) أهمية “اللغة”.
ولا أغالي إذا قُلْت إنَّ هذا الكتيِّب الذي بين يديِّ، وعنوانه “البتراء عاصمة الأبجدية العربية في الثورة الأولى للاتصال والمعلوماتية”; ومؤلِّفه هو أ. د. عصام سليمان الموسى، يصلح مَدْخلًا إلى معرفة هذه الأهمية وتلك.
الكاتب بدأ العمل (الذي استغرق 15 سنة) من نقطة لم يبدأها أحد من قبله, ألا وهي “تاريخ العرب الاتصالي والمعلوماتي”, مُكْتَشِفًا المساهمة الكبرى للعرب الأنباط في “تطوير الخط العربي”, ما سمح لهم بشغل مكانة مرموقة في “الثورة (الإنسانية) الأولى للاتصال”.
لكن, ما هو “الاتصال”?
إنَّه عِلْم يُعنى باستخدام “الرموز والإشارات”, كالحروف الأبجدية, للتعبير عن الأفكار والأشياء.
وفي هذه “الثورة المعرفية”, أيْ “الثورة الأولى للاتصال”, طُوِّرت “الحروف الأبجدية”, التي اسْتُخْدِمَت في الكتابة في بلادنا العربية, وفي أوروبا; وكان الكنعانيون والفينيقيون مُطوِّريها; فأهدينا إلى العالم أجمل هدية, وهي “الحرف”; ولولا هذا “الحرف الهدية” لما كانت “الثورات الثلاث اللاحقة (“ثورة المطبعة”, و”الثورة الإلكترونية”, و”الثورة الرقمية””.
العرب الأنباط, مؤسِّسو أوَّل مملكة عربية في التاريخ, لم ينالوا الاعتراف الذي يستحقون لجهة أهمية مساهمتهم في تطوير “الحرف العربي” الذي نستخدمه في الكتابة (والذي يستخدمه غيرنا, أيضًا, كالفُرْس).
وبفضل مساهمتهم هذه, يمكن ويجب وَضْع الأنباط في موضع موازٍ للفينيقيين, الذين أخذوا “الأبجدية الكنعانية”, واستخدموها في الكتابة, ثمَّ أخذها عنهم الإغريق, فنشروها في أوروبا, وصار الحرف هناك يُعْرَف بـ”الحرف اللاتيني”.
وكان للأنباط مساهمة مهمة, أيضًا, في تطوير “الحرف الفينيقي”, الذي استخدموه في تجارتهم ونقوشهم; وبقي هذا الحرف قيد الاستعمال, وتطوَّر حتى بلغ شكله النهائي مع حلول القرن الربع الميلادي (وهذا ما ظهر على وجه الخصوص في “نقش النمارة” المشهور). ثمَّ تبنَّى العرب المسلمون هذا الحرف, فانتشر, وكُتِبَت به لغات عدة كالفارسية والتركية.
إنَّ أهمية الأنباط (التاريخية والحضارية) من أهمية “اللغة”.
لقد اخْتُرِعت “الأبجدية” قبل نحو 3500 سنة; وباختراعها كانت “الثورة الأولى في الاتصال والمعلوماتية”; وكانت هذه الثورة حدًّا فاصلًا في التاريخ الإنساني; لأنَّ الحضارة الإنسانية هي وليدة “الكلمة”, التي بدأت مع اختراع “الأبجدية”, التي بفضلها تمكَّن الإنسان من “تسجيل حضارته وإنجازاته”.
و”الأبجدية” هي أساس “الكلمة”, أو “اللغة”, كتابةً; فاللغة, نُطْقًَا, أو اللغة المنطوقة, وُجِدَت من قبل; ولقد نشأت وتطوَّرت من “تنوُّع الصوت الإنساني”; وكانت “الأسماء (الجامدة)”, أيْ “أسماء الأشياء”, التي لها أهمية في حياة الجماعات البشرية البدائية, هي الأصل والمبتدأ; فهذا الشيء سُمِّي “شجرة”, مثلًا. و”الكلمة (المنطوقة)” لا تشمل “الاسم” فحسب, وإنَّما “الفعل” و”الحرف”.
واللغة, أو الكلام المنطوق, في أصلها ونشأتها هي “الاختراع”; لكن بصفة كونه “بِنْت الحاجة”; فلولا حاجة أفراد الجماعة البشرية البدائية إلى هذا النوع من “الاتِّصال (والتواصل)” لما وُجِدَت اللغة; و”الكلمة”, التي كانت أوَّلًا “اسمًا” سُمِّي به شيء ما, هي ما يُكْسِب “الإنسان” صفة “الحيوان الناطق”, أيْ الحيوان الذي “يفكِّر تفكيرًا منطقيًّا”.
و”المنطق”, في معنى من أهم معانيه, هو “التجريد”, هو “اكتشاف العام في الخاص (والفردي)”; وإنَّ كل كلمة (كلمة “شجرة” مثلًا) لا تأتي إلاَّ من “التجريد”. وبـ “الأبجدية” توسَّع الإنسان أكثر في “التجريد”.
من ذا الذي اخترع “الأبجدية”?
الكنعانيون القدماء من سكان سيناء هم مخترعو “الأبجدية” التي عُرِفَت باسم “السينائية الأولى”, أو باسم “الكنعانية الأولى”.
وهذه الأبجدية لم تأتِ من العدم; فلقد سبقتها ومهَّدت إليها محاولات عديدة (بدأها السومريون والمصريون القدماء) لتطوير “طريقة سهلة, شعبية, للكتابة”.
وبـ”الأبجدية الكنعانية”, مع حرفيها العربي واللاتيني, توصَّل البشر إلى هذه “الطريقة السهلة, الشعبية, في الكتابة”.
ومن “الكنعانية السينائية”, جاءت “الأبجدية الفينيقية” التي استخدمها قدماء اللبنانيين; ومن “الأبجدية الفينيقية”, انبثقت أبجديتان: الأولى صدَّرها الفينيقيون إلى أوروبا من طريق اليونان, وتطوَّرت, مع الزمن, إلى “الحرف اللاتيني”, والثانية استُخْدِمَت في بلاد الهلال الخصيب, وعُرِفَت بـ”الآرامية”. أمَّا “الحرف العربي الحديث” فجاء من “الحرف (العربي) النبطي”; وهذا إنَّما يعني أنَّ “جنوب الأردن” هو مسقط رأس “الحرف العربي”.
وبالتسلسل التاريخي نقول إنَّ “الحرف العربي الحديث” جاء من “الحرف (العربي) النبطي”, المأخوذ عن الفينيقيين, والذي هو في الأصل والنشأة كنعاني.
وقبل “الأبجدية (الألفباء)”, استخدم الإنسان “الكلمات التصويرية” للتعبير عن الأشياء والأفكار; وهذا النمط البدائي من اللغة افتقر إلى “التجريد”; فشتَّان بين أنْ تعبِّر عن الشجرة بـ”صورة” وأنْ تعبِّر عنها بـ”حروف”, أيْ بـ”نظام متكامل من الرموز الأبجدية, يمثِّل الصوت الإنساني, في درجاته (أو مكوِّناته) المختلفة”. وعُرِف هذا النظام باسم “الأبجدية الصوتية”.
و”ثورة الحرف” اتَّسَعَت وعَظُمَت مع القرطاس والورق; فالورق (مثلًا) خفيف الوزن, يسهل نقله من مكان إلى مكان, ويصلح, من ثمَّ, للاتصال الإنساني ضمن الإمبراطوريات, وإنْ كان تسجيل “المعلومات” فيه لا يَخْلُد خلود تسجيلها (أي نقشها) في الحجر (مثلًا).
ومع اختراع الكتابة (والكتابة على الورق على وجه الخصوص) نشأت ظاهرة حضارية (معرفية) مهمة هي “القُرَّاء المنفصلون زمانًا ومكانًا عن الكاتب”. ولقد قال سقراط في هذه الظاهرة: “ما أنْ يُكْتَب شيء ما حتى تنساب المادة المكتوبة من مكان إلى آخر”.
وعلى قبر “ملك كل العرب”, امرؤ القيس, في جنوب سوريا, نُقِش (نقش النمارة) نص عربي, مكتوب بأحرف نبطية; وجاء في هذا النص: “هذا قبر امرؤ القيس, ابن عمرو, ملك كل العرب”.
وتكمن أهمية هذا النص, أو النقش, في كونه يوضح أنَّ اللغة العربية تبنَّت الحرف النبطي مع مطلع القرن الرابع للميلاد.
جواد البشيتي*
..الوطن، العمانية* كاتب فلسطيني ـ الأردن