صوّر المسعودي الأسباب التي ساعدت على زوال ملك بني أمية فقال:
(سُئل بعض شيوخ بني أمية ومحصليها عقب زوال الملك عنهم إلى بني العباس: ما كان سبب زوال ملككم? قال: إننا شُغلنا بلذاتنا عن تفقد ما كان تفقده يلزمنا, فظلمنا رعيتنا فيئسوا من إنصافنا وتمنوا الراحة منا, وتحومل على أهل خراجنا فتخلوا عنا وخربت ضياعنا, فَخَلت بيوت أموالنا, ووثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا وأمضوا أموراً دوننا أخفوا علمها عنا, وتأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا, واستدعاهم أعادينا فتظاهروا معهم على حربنا, وطلبنا أعداؤنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا, وكان استتار الأخبار عنا من أوكد أسباب زوال ملكنا).
والتقى في أحد الأيام مجموعة من الناس في حضرة المنصور وتحدثوا عن الخلفاء الأمويين, وعن أسلوبهم في الحياة, وسلوكهم في إدارة شؤونهم والسبب الذي أدى إلى سقوط حكمهم, فقال المنصور ما يلي:
كان عبد الملك طاغية لم يفكر بما كان يفعله. وكان سليمان لا يهتم إلا ببطنه وشؤونه الخاصة. ولقد شدد الأمويون قبضتهم على السلطة التي أُعدّت لهم, ومارسوها, ودافعوا عنها, وحافظوا على ما وهبهم الله, مع التزامهم بالأمور الراقية ورفضهم للأمور الوضيعة. وقد استمر هذا الوضع حتى انتقلت سلطتهم إلى أولادهم المدللين الذين كان همهم الوحيد إشباع رغباتهم والبحث عن الاستمتاع بالأمور التي حرّمها الله, وغير عابئين بعقاب الله تعالى لهم على أفعالهم. ولهذا فقد أهملوا المحافظة على الخلافة, واستهتروا بحقوق الله تعالى, وواجبات الحكم والسيادة, وأصبحوا غير قادرين على الحكم. فقد سَلَبَ الله سلطتهم, وغَطّاهم بالعار, وحَرَمهم من رحمته.
ولما كان هذا الوصف الموجز لأسباب سقوط الدولة الأموية لا يفي بغرض هذا البحث, فسنشرح بشيء من التفصيل هذه الأسباب كما يلي:
أولاً: الأمويون والخلافة:
لقد غيّر انتقال الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان نظام الشورى الذي كان أساس انتخاب الخلفاء الراشدين, وتحولت الخلافة إلى ملك آل إلى صاحبه بقوة السيف والسياسة والمكايد. ولما ولى معاوية ابنه يزيد العهد ظهر نظام التوريث, وانتقلت الدولة من ذلك النظام الذي ساد عهد الخلفاء الراشدين إلى النظام الذي سار عليه الأمويون في حكم الدولة الإسلامية, أو بعبارة أخرى من نظام الخلافة الذي يعتمد على الشورى ويستند إلى الدين, إلى النظام الذي يقوم على أساس التوريث ويستند إلى السياسة أولاً وإلى الدين ثانياً. وبذلك أصبحت الخلافة الأموية أقرب إلى السياسة منها إلى الدين وتحولت بذلك إلى مُلْك.
وعلى هذا النظام سار العباسيون, فحرموا المسلمين من هذا الحق الطبيعي وهو الشورى التي ألفها العرب وجاء بها القرآن الكريم وأيدتها الأحاديث النبوية الشريفة. وتطرف الأمويون – والعباسيون من بعدهم – في نظام الخلافة حتى أصبحوا يولون عهدهم اثنين بل ثلاثة, وأصبح الخليفة الأموي يعين ولي عهده ويأخذ البيعة له من وجوه الناس وكبار القادة في حضرته على حين أصبحت البيعة تؤخذ في الأقاليم بحضور الوالي نيابة عن الخليفة. على أن هذا النظام أدى إلى ظهور العداوة والبغضاء بين أفراد البيت الأموي وأوغر صدور بعضهم على بعض, فقام الن¯زاع بينهم وتعدى ذلك إلى القادة والعُمّال, مما ساعد على سقوط الدولة الأموية.
إن الصراع القاتل على منصب الخليفة قد عرَّض وجود الإسلام للخطر. ولم يؤد الصراع الداخلي إلى القضاء على أعداد كبيرة من المؤمنين من كلا الجانبين فحسب, إنما أتاح الفرصة للأعداء الخارجيين لاستغلال ذلك الصراع. وانطلاقاً من حرص معاوية بن أبي سفيان على الاحتفاظ بالخلافة لأبنائه, كان البادئ في إعلان ابنه يزيد ليكون وريثاً لمنصب الخليفة بعد وفاة معاوية والحصول على موافقة ومبايعة الولايات العربية المختلفة على قرار تعيين يزيد ولياً للعهد, دعا معاوية ممثلين عن جميع الولايات للحضور إلى دمشق لمبايعة يزيد وتأدية يمين الولاء المطلوب. وبعد أن ضمن معاوية مبايعة وفود العراق وسورية توجه إلى الحجاز ترافقه حاشية مكونة من ألف فارس لتأدية العمرة في الظاهر, ولكن الهدف الحقيقي من الزيارة كان لضمان مبايعة أهل الحجاز ليزيد على ولاية العهد.
كان أبرز الشخصيات الحجازية المعارضة لفكرة تعيين يزيد ولياً لعهد معاوية هم: الحسين الابن الثاني لعلي بن أبي طالب, وعبدالله بن الزبير, وعبد الرحمن بن أبي بكر, وابن عمر بن الخطاب. وقد استقبلهم معاوية في المدينة ببرود ملحوظ عند حضورهم لاستقباله في مدخل المدينة. وتجنباً لوقوع المزيد من الاحتكاك مع معاوية, غادر الزعماء الأربعة المعارضون إلى مكة. وبايع أهل المدينة يزيد وأقسموا على الولاء له. وبعد أن أنهى معاوية زيارته لمكة المكرمة وأداء العمرة, وقف خطيباً في الناس ودافع عن فكرة تعيين ابنه يزيد ولياً للعهد. فرد عليه بالنيابة عن المعارضين عبدالله بن الزبير قائلاً: إن تأدية الولاء والقسم بالمبايعة لولي العهد مخالفة لجميع الأسبقيات في الإسلام. نحن على استعداد للموافقة على أحد الإجراءات التالية:
أ. أن تعمل مثل ما عمل الرسول صلى الله عليه وسلم, وتترك الاختيار كلياً للمواطنين في المدينة.
ب. أو أن تعمل مثل أبي بكر وتعين خليفة لك من بين قريش.
ج. أو أن تعمل مثل ما عمل عمر وتختار لجنة تختار من بين أعضائها مرشحاً ليخلفكم. مع العلم أن أبا بكر وعمر قد رفضا تعيين خلفاء لهما من أبنائهما أو إخوتهما.
وعندما أدرك معاوية أنه لا جدوى من مناقشة معارضيه, استدعى حرسه الشخصي وأجبر المواطنين على أداء القسم بالمبايعة ليزيد تحت تهديد السيوف. وقد طبّق معاوية أسلوب المبايعة تحت تهديد السيف في جميع مناطق الإمبراطورية الإسلامية مثلما طبقه في الشام والعراق والحجاز. ومنذ ذلك التاريخ انتشرت فكرة توريث الخلافة والحكم للأبناء أو الأشقاء في كافة مناطق ولايات الإمبراطورية الإسلامية.
ومن الأسباب التي أضعفت البيت الأموي وآذنت بذهاب ريحه تولي العهد اثنين يلي أحدهما الآخر. فقد ألقى هذا بذور الشقاق والمنافسة بين أفراد ذلك البيت وأورثهم الحقد والبغضاء. ولا غرو فإنه لم يكد يتم الأمر لأولهما حتى يعمل على إقصاء الثاني من ولاية العهد وإحلال أحد أبنائه مكانه, مما أوغر صدور بعضهم على بعض. ولم يقتصر الن¯زاع بين أفراد هذا البيت بل تعداهم إلى القادة والعمال. فإنه لم يكد يتم الأمر لثانيهما حتى ينكل بمن ظاهر خصمه وساعده على إقصائه من ولاية العهد.
وأول من سنّ هذه السُنّة مروان بن الحكم, فقد ولى عهده ابنيه عبد الملك ثم عبد العزيز, ولم يأبه بما كان في مؤتمر الجابية حيث بايعوا عبد الملك ثم خالد بن يزيد وعمرو بن سعيد بن العاص, وكان من أثر ذلك أن خرج عمرو بن سعيد على عبد الملك.
سار عبد الملك على سنة أبيه مروان, فقد فكر في خلع أخيه عبد العزيز من ولاية العهد وتولية ابنيه الوليد ثم سليمان, لولا أن حالت وفاة عبد العزيز دون ما كانت تحدثه به نفسه من خلعه. ولم يمنعه ذلك من ارتكاب تلك الغلطة التي أورثت البغض والعداوة بين الأخوين, بل تعدتها إلى القادة والعمال. فلما تولى الوليد بن عبد العزيز, وكتب بذلك إلى العمال, لإجابة الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق, وقتيبة بن مسلم والي خراسان, ومحمد بن القاسم والي السند. وأجزل الوليد العطاء للشعراء للإشادة بفضل عبد العزيز مما أثار روح الكراهية والبغضاء بينه وبين أخيه. فلما ولي سليمان الخلافة بعد وفاة أخيه الوليد, انتقم ممن كان لهم ضلع في خلعه. وهكذا تطورت المنافسة بين أفراد البيت المالك تطوراً غريباً وأضحت خطراً على الدولة الأموية. فقد كان الخليفة ينتقم من القادة والعمّال لمجرد اتهامهم بممالأة الخليفة السابق على خلعه.
هكذا بدأ سليمان عهده بالانتقام من كبار القادة وخيرة العمال والتشفي منهم, وكان من حسن حظ الحجاج أن مات قبل الوليد. على أن ذلك لم يصرف سيلمان عن الانتقام من أهل بيته. فقد أمر يزيد بن الملهب, وكان عدو الحجاج الألد, وصالح بن عبد الرحمن أن يذيقا آل الحجاج أشد صنوف العذاب. كذلك انتقم سليمان من محمد بن القاسم, ذلك القائد العظيم الذي بسط نفوذ الدولة على الهند والسند, وكذلك كان نصيب قتيبة بن مسلم الذي بسط نفوذ الدولة في بلاد ما وراء النهر.
ثانياً: المحسوبية:
كانت المحسوبية شائعة بين العرب. ونلاحظ أنه كلما تم تعيين عربي مرموق من قبل الخليفة في مركز قيادي مستقل, فإنه سرعان ما يقوم ذلك القائد العربي بتعيين أبنائه وإخوانه, أو عبيده المحررين في المناصب الرئيسية التابعة له. فعندما تم تعيين عبيد الله بن زياد والياً للعراق وفارس, جَعَل إخوانه حُكّاماً للمقاطعات الفارسية. وعندما كان المهلب حاكماً لخراسان, كان أولاده قادة تحت إمرة والدهم. وعندما دخل موسى بن نصير إلى الأندلس, ترك خلفه أكبر أبنائه حاكماً لشمال إفريقيا نيابة عنه.
فقد أوجد الخليفة الأموي معاوية نظام الوراثة في الخلافة, وتمّ تطبيق نفس النظام من قبل العباسيين, والأمثلة على تطبيق نظام الوراثة في الخلافة واضحة لكل من يطالع شجرة تسلسل الخلفاء الأمويين والعباسيين. وكان هذا النظام عاماً وغير ديمقراطي بشكل لا يمكن اعتباره تحت أي ظرف من الظروف نظاماً عادلاً وسليماً. وجاء تطبيق نظام الوراثة في الخلافة وفي المراكز القيادية في عهد الأمويين والعباسيين لأن عدم الإخلاص والوفاء كان شائعاً والثورات كثيرة, وحقق نظام الوراثة والمحسوبية بعض الفوائد للخلفاء. كما أن قوة المشاعر العشائرية والعائلية بين العرب قد شجعت الخلفاء على تفضيل أقربائهم وأصدقائهم, والأحرار من عبيدهم, وتنصيبهم في المراكز العليا في الدولة للمحافظة على النظام والأمن.
ثالثاً: ظهور روح العصبية:
بُعِثَتْ روح العصبية بين القبائل العربية عقب وفاة يزيد بن معاوية, غير أنها لم تكن من الشدة بحيث تؤثر في انحلال الحزب الأموي الذي ظل حافظاً لكيانه كحزب سياسي يناضل خصومه من الأحزاب الأخرى, إلى أن كانت خلافة عمر بن عبد العزيز التي تعتبر فترة انتقال بين حال القوة والتماسك وحال الضعف والتفكك الذي اعترى ذلك الحزب. فقد كان عمر صالحاً وعادلاً, قضى فترة خلافته في إصلاح ما أفسده من سبقه من خلفاء بني أمية حتى نال رضا جميع العناصر الثورية, فلم يتعصب لقبيلة دون أخرى, ولم يُولّ والياً إلا لكفايته وعدالته, سواء أكان من كلب أو من قيس. فسكنت في عهده الفتن التي كانت تنتاب الدولة وتكاد أن تذهب بريحها.
فلما توفي عمر بن عبد العزيز خلفه يزيد بن عبد الملك, فاستقبل بخلافته فتنة كان لها أسوأ الأثر في حزب بني أمية, وكانت هذه الفتنة في الواقع نزاعاً بين عرب الشمال وعرب الجنوب, أي بين مضر واليمن. ولما كان الخليفة من عرب الشمال لم يتورع عن خوض غمار تلك الفتنة. وكانت هذه الفتنة سبباً في القضاء على أفراد بيت المهلّب بن أبي صفرة, فقد قُتِل بعضهم في الحرب, وحُمِل بعضهم في الأغلال إلى يزيد بن عبد الملك, فأمر بهم فقُتلوا جميعاً.
وقد أخلصت أُسرة المهلّب في خدمة بني أمية, فأبلى هو وأبناؤه في حرب الأزارقة من الخوارج بلاءً حسناً, كما حارب أهل خراسان والخزر والترك. وخلفه أبناؤه, فكانوا مثله في النبل والشجاعة والفضل, فمدحهم الشعراء وتغنى بفضلهم الركبان, وقصدهم الشعراء وذوو الحاجات. فأجزلوا لهم العطاء ووصلوهم بالصلات الجمة, فعظم أمرهم وذاع صيتهم ونبه شأنهم, فكانوا غرة في جبين الدولة الأموية, كما كان البرامكة في دولة بني العباس. لذلك لا ندهش إذا انحاز إليهم العنصر اليمني الذي أصبح منذ ذلك الحين خطراً يهدد كيان حزب بني أمية, وقد زجّ يزيد بنفسه في تلك العصبية التي عادت سيرتها الأولى يوم مرج راهط, وأخذ الخلفاء يعملون على توسيع مسافة الخلاف بين هذين العنصرين اللذين كانا عصب دولتهم ومصدر قوتهم, فنراهم ينضمون إلى القيسية حيناً وإلى اليمنية حيناً آخر.
هذه هي حال العصبية في الشام. وقد ساعد على قيام الثورة فيها أن أكثر أهلها كانوا من العنصر اليمني, وربما كان ذلك هو السبب في أن مروان لم يتخذها مقراً لملكه وانتقل إلى الجزيرة, لأن أكثر من فيها كانوا من القيسية عماد الدولة. وأما في بلاد العراق فإن الحالة لم تكن أحسن مما كانت عليه في بلاد الشام. فقد اشتعلت نار العصبية في هذه البلاد حتى ظهر الضحاك بن قيس الخارجي الذي استولى عليها, كما استولى فريق من الخوارج على بلاد اليمن والحجاز بقيادة المختار بن أبي عبيدة. وهكذا أصبحت البلاد مرتعاً للفتن والاضطرابات, وشغل إخماد هذه الفتن مروان, فلم يلتفت إلى خراسان وما كان يجري فيها من بث الدعوة العباسية التي اشتد أمرها وعظم خطرها. ولم يلبث أن باغتته الرايات السود من خراسان, وطاردته, وقضت على جيشه, ففر إلى مصر حيث أدركه عبدالله بن علي العباسي ثم أخوه صالح بن علي الذي قتله سنة 132ه¯, ويعتبر القضاء على بني أمية قضاء على نفوذ العرب الذين كان الأمويون يعتمدون عليهم دون سواهم.
خلاصة
يتضح من هذا المقال أن الأسباب التي لعبت دوراً رئيسياً في سقوط الدولة الاموية هي: استيلاء معاوية على الخلافة بقوة السيف والسياسة والمكايد, واحتكار السلطة, وممارسة الحكم الاستبدادي, والمحسوبية, والمصلحة الفردية, والاستهتار بحقوق الشعب وواجبات الحكم والسيادة, وبث روح العصبية بين القبائل. وقد أكدّت الأحداث أن الأنظمة التي تولت الحكم في الدول العربية منذ عام 1948 وحتى اليوم تشبه إلى حدٍ كبير نظام معاوية في الحكم مما أدَّى إلى قيام الشعوب العربية المعاصرة بثوراتها في عام 2011 وما زالت مستمرة في عام 2012 لتحرير هذه الشعوب من عهود التخلف والاستبداد والظلم, والتمتع بالحرية والكرامة والعدالة وحقوق الإنسان.
أ.د.أحمد التل – العرب اليوم