أتيح لكاتب هذه السطور، أن يجول خلال الأشهر القليلة الفائتة، بعديد من المحافظات والمخيمات، التقى خلالها بمئات من الأردنيين والأردنيات من مختلف المنابت والمشارب والمرجعيات، الذين تذهب آراؤهم حول مختلف القضايا في شتى الإتجاهات، خصوصاً عندما يتعلق بالبرلمان والحكومات وقانون الانتخاب ومستقبل الإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي في بلادنا.
السمة المُميزة للأحاديث والمتحدثين هي القلق والتوتر الممزوجين بغضب وإحباط مُضمرين…غالبية من تلتقيهم تفاجئك بسؤال المستقبل: أين يتجه الأردن (البلد رايحة وين) ؟، من دون أن ينتظر أحدٌ الجواب عن تساؤله، إذ سرعان ما يشرع السائل بتقديم لائحة الظنون والشكوك والإتهامات والتذمر والشكاوى المثقلة بإنعدام الثقة واليقين، فضلاً عن مروحة واسعة من الهواجس والفزّاعات التي لا تبارح عقول المواطنين، تارة حيال الحكومة وأخرى من المعارضة وثالثة متبادلة بين المنابت والأصول ورابعة مهجوسة بتنامي الميل العنفي الاجتماعي.
تشعر أن كافة الملفات التي تصدرت الأجندة الوطنية الأردنية ما زالت مفتوحة…لم يُغلق أي منها على الإطلاق…لا الحرب على الفساد أعطت أوكلها، وثمة إحساس بأن الفاسدين ما زالوا طلقاء يتمتعون بأموال الشعب والخزينة، بل ويلقون بـ”عظاتهم” يُمنةً ويسرة، عن “الشفافية” و”المساءلة” و”المحاسبة”…ولا المشروع الإصلاحي الأردني يتقدم للإمام برغم اللغط و”الهرج” اللذين لم ينقطعا بشأن الالتزام به…لا حماس للانتخابات المقبلة، ولا ثقة بأن المجلس النيابي السابع عشر سيكون أفضل من سابقاته.
الأردنيون أبدوا اهتماماً بالانتخابات المصرية، أكثر من اهتمامهم بمداولات المجلس النيابي حول قانون الانتخاب…ليس لأن مصر هي “أم الدنيا” فحسب، بل لشعورهم بأنهم أمام انتخابات حقيقية، تصطرع فيها القوى والتيارات السياسية والفكرية على خطب ود الناخب واقناعه بالتصويت لها، هذا لم يحصل عندنا، والأرجح أنه لن يحصل في الانتخابات المقبلة، التي بدل أن تكون جزءاً من الحل، قد تصبح جزءاً من المشكلة كما يخشى كثيرون، سيما إن تمت الانتخابات وسط مقاطعة قوى معارضة، إسلامية وغيرها، ما سيفقد البرلمان القادم “نصابه السياسي”، ويجعل انتخاباتنا المقبلة من شاكلة الانتخابات السورية الأخيرة، لا الانتخابات المصرية الأخيرة.
مثل هذه المناخات لا ينبغي أن تدفع أحداً للإحساس بالطمأنينة أبداً…هذه ليست سكينة أو قناعة من نوع “الكنز الذي لا يفنى”…هذا هدوء مقلق، أتمنى ألا يكون من الصنف “الذي يسبق العاصفة”، سيما وأن البلاد معرضة لموجة ارتفاعات حادة في أسعار السلع الأساسية، والضائقة الاقتصادية تمسك بتلابيب البلاد والعباد، والإحساس بالعدالة والمواطنة، مفقود عند شرائح واسعة من المواطنين، ودائماً من شتى المنابت والأصول.
الأردنيون غاضبون، كما لم يكونوا من قبل، هذا هو الإحساس العميق الذي يسكنك وأنت تهمُّ بمغادرة أي لقاء أو منتدى يجمعك بهم…وهم اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يمتلكون الجرأة في التعبير عن غضبهم…في المخيمات وعلى أطرافها تنهال عليك أسئلة المواطنة والعدالة و”الحقوق المُنتقصة”…وفي الأطراف وأطراف الأطراف، تنهال عليك أسئلة التهميش الاقتصادي والخوف على ما يعتقده البعض “حقوقاً مكتسبة”…وأسئلة الهوية والإندماج تُطل برأسها عند مناقشة أية مسألة على الإطلاق…إنه الحوار المفتوح على “اللانهاية” مع استمرار إحجام “الدولة” عن الدخول كطرف في هذا الحوار، حتى لا نبالغ في التفاؤل والرهان فنقول: كقائدة للحوار ومُنظمة له.
“الدولة” هي الغائب الأكبر في قيادة وتوجيه التفاعلات السياسية والاجتماعية التي تحفر بعمق تحت السطح…وغياب “الدولة” وفراغها، يُشجع قوى عديدة على السعي لملئه بخطابها “الأقصوي” أصولياً كان أم إقليمياً….لقد ضيّعنا سنوات ثمينة، منذ أن أوصت الهيئة الملكية لـ”الأردن أولاً” بتصحيح الاختلالات في العلاقة بين المواطن والدولة…وبدلا من الشروع في ترجمة التوصيات المفضية إلى معالجة تلك الاختلالات، رأينا الامعان في تعميقها وتوسيع فجواتها، ودائما لحسابات آنية ضيقة…دائما لغياب الادارة والإرادة السياسية لمعالجة هذه الملفات…حمى الله الأردن والأردنيين من كل مكروه.
الدستور