حل يوم الجمعة! اذا سيتجدد الكابوس، وسرعان ما ستتصاعد اعمدة الدخان السامة من حاويات النفايات وسط احياء الزرقاء، والتي لا يعرف احد الى الان، وعلى وجه الجزم، من الذي يضرم فيها النار!.
الاهالي يتهمون البلدية، وهذه تتهم نابشي القمامة، وهؤلاء يتهمون اصحاب المتاجر. وهناك فريق اخر يتهم الاهالي وعابثين مدفوعين بلا شئ سوى العبث!
وهكذا، تتطاير الاتهامات من دون ادلة، ومن دون ان يكون هناك مذنب واحد تتم مساءلته ومحاسبته، على حد علمنا، اللهم سوى متهم في احدى الحوادث تبين انه “معتوه” بحسب ما اكده مسؤول في البلدية.
والى ان يرسو عطاء الاتهامات على جهة بعينها، فان سحابات الدخان السامة المنبعثة من الحاويات المحترقة، ستظل تتراقص مع اتجاهات الريح وسط الاحياء، زاكمة الانوف ومتسببة بخنق الانفاس، وبالعديد من الامراض.
فبحسب ما يوضحه الطبيب عوني حداد اخصائي الامراض الصدرية والجهاز التنفسي، فان التعرض للادخنة والغازات الناتجة عن حرق النفايات يؤدي في المدى القصير إلى الاصابة بالحرقة في العينين والأنف والحلق، وكذلك السعال والصداع وضيق النفس.
ويضيف حداد انه على المدى البعيد والتعرض المستمر والتراكمي، فانه من الممكن ان تسبب هذه الادخنة والغازات انواعا خطيرة من امراض الجهاز التنفسي، كأزمات الربو والتهاب الشعب الهوائية المزمن وغيرها، كما ان هناك احتمالات للاصابة بامراض القلب والسرطان.
ومن جانبه، يوضح توفيق الضمور، المسؤول الإعلامي في “جمعية المحافظة على البيئة الاردنيه وحمايتها”، ان حرق النفايات، وبخاصة التي تحتوي على مواد بلاستيكية، يعد من اهم اسباب تكون مادة الديكوسين السامة.
كما يبين الضمور ان الديوكسين يعد من أكثر المواد ثباتاً في البيئة، أي بمجرد تكونه يبقى للأبد ولا يتفكك لأن البكتريا لا تستطيع تحليله كما تفعل ببقية المواد في الطبيعة. وهو ينتقل الى الانسان بطرق منها الغذاء والتعرض المباشر لادخنة وابخرة النفايات المحترقة.
لماذا الجمعة؟
(فراس ع)، شاب في اواخر عقده الثاني يقيم مع اسرته في منطقة البتراوي في الزرقاء الجديدة، كان من ضمن من اتهموا عمال البلدية باضرام النار في الحاويات، مع اقراره بانه لم ير بنفسه ولو عاملا واحدا يشعل حاوية!
يقول فراس “انهم عمال البلدية”. ثم يستدرك بعد ان شعر ببعض المسؤولية الاخلاقية عن هذا الاتهام “صراحة، انا لم اشاهدهم بنفسي، ولا حتى واحدا منهم، ولكن كثيرين اكدوا لي انهم رأوهم، وانا لا اشكك بروايتهم”.
ويردف “وإلا، فمن برأيكم له مصلحة في حرق الحاويات سوى عمال البلدية، الذين يفعلون ذلك من اجل التخلص من النفايات التي تتراكم بكميات كبيرة خلال يوم الجمعة الذي يقل فيه عدد العمال بسبب انه يوافق يوم عطلة”.
وبالفعل، يلاحظ ازدياد كميات النفايات خلال يوم الجمعة، وتقريبا في كل مناطق الزرقاء. كما يتراجع عدد المرات التي تقوم فيها سيارات البلدية بافراغ الحاويات.
وهناك نوعان من السيارات التي تستخدمها البلدية لهذه الغاية، بعضها التي تعرف بالكابسات، والبعض الاخر عبارة عن بكبات وقلابات مكشوفة يمكن مشاهدتها وهي تجول الشوارع والنفايات تتطاير منها في كل مكان.
وقد لجأت البلدية الى هذه البكبات والقلابات بهدف تغطية النقص الحاصل في اعداد الكابسات وكثرة تعطلها، وكذلك لعدم قدرة هذه الاخيرة على دخول الشوارع الضيقة والازقة بسبب احجامها الكبيرة.
وتقر بلدية الزرقاء بان تعطل الياتها وتهالكها يقف وراء تراكم النفايات في المدينة، والتي يصل حجمها الى اكثر من 500 طن يوميا.
وهي اذذاك، تؤكد ان تجهد من اجل توفير اثمان اليات وحاويات جديدة في ظل صعوبات مالية تسببت بها مديونيتها التي تصل الى 13 مليون دينار. وتبلغ موازنة البلدية 23 مليون دينار تقريبا، تذهب نحو 80 بالمئة منها مرتبات لجيش من الموظفين يتجاوز عدده الاربعة الاف.
وتظهر سجلات البلدية وجود 1450 عامل نظافة، لكن العاملين فعليا هم فقط .650 من بينهم 450 وافدا.
ويعود هذا الفارق في الرقم الى حقيقة ان عددا كبيرا من موظفي البلدية جرى تعيينهم على كادر عامل نظافة في التفاف على قرار الحكومة وقف التعيينات في الكوادر الاخرى في بلديات المملكة.
نحن نختنق
مقابل مبنى المنطقة الثامنة التابعة لبلدية الزرقاء، والملاصق لاحد المجمعات الحرفية، كانت النار لا تزال تشتعل في حاوية ضخمة، مرسلة سحابة من الدخان الى الاحياء السكنية المجاورة.
ومن شرفة منزله المطل على المنطقة الحرفية، يشير (احمد ف) الى الحاوية ويقول “لا اذكر انني رأيتها يوما الا والنار مشتعلة فيها وفي اكوام النفايات المتناثرة حولها”.
ويتابع بمرارة “نحن لا نستطيع فتح نوافذنا بسبب هذا الدخان الكريه القادم من الحاوية، انظروا، ان الغبار المتراكم على حواف النوافذ يؤكد لكم انها لم تفتح منذ سنوات”.
وكما يخبرنا احمد، الذي يعمل حارس مدرسة براتب متواضع، فقد اضطر الى اقتناء مكيف هواء ليحل مشكلة عدم قدرته على فتح النوافذ خصوصا في الصيف، رغم ما يعنيه ذلك من ارهاق لميزانيته البسيطة.
ويقول “انا وابنائي نختنق، وهذا المكيف الذي يكبدني نحو نصف راتبي كان الحل الوحيد”.
واحمد لم يفكر يوما في تقديم شكوى الى البلدية بسبب هذه الحاوية، لانه مقتنع بان الشكوى ستكون غير مجدية في ظل ان النار تشتعل امام موظفي البلدية وهم لا يحركون ساكنا سواء لجهة منع من يضرمون النار فيها او حتى لاطفائها.
حديث احمد كان فيه اتهام ضمني لموظفي البلدية، ان لم يكن باشعال النار في الحاوية، فعلى الاقل بالمسؤولية عن استمرار اشتعالها.
ولكن عددا من المواطنين المقيمين في منطقة حي الامير محمد القريبة، ومنهم (بشار س) يشيرون صراحة باصابع الاتهام الى موظفي البلدية في الحرائق العديدة التي تشهدها الحاويات في المنطقة، غير ان ايا منهم لم يدع انه رأى ذلك بنفسه، وتقف القصة في كل مرة عند حدود “سمعتهم يقولون”.
على ان بشار يؤكد ان بعض عمليات الحرق، والتي رآها بنفسه، يقف وراءها مواطنون مستاءون من تراكم النفايات في الحاويات امام منازلهم، ويجدون في حرقها حلا لمنع تحولها الى مراتع للقوارض والحشرات.
وكما يقول، فان كابسات النفايات تتجنب تفريغ محتويات الحاويات المحترقة خشية ان تتسبب في اندلاع حريق في الكابسة، وهي تتركها حتى تخمد من تلقائها، وقد يستغرق ذلك اياما في بعض الاحيان.
اتهامات البلدية
على صعيدها، اعتبرت بلدية الزرقاء ان الاتهامات الموجهة اليها والى موظفيها غير منصفة، وايضا غير منطقية.
وقال المدير الاداري في البلدية ماجد الحباشنة ان النفايات تشكل في احد اوجهها مصدر دخل للبلدية، وحرقها يعني خسارة هذا الدخل.
واوضح الحباشنة ان البلدية متعاقدة مع متعهد تتقاضى منه 55 دينارا عن كل طن نفايات تورده اليه في محطة الفرز التحويلية التابعة لها، والمقامة في منطقة حي المصانع جنوب المدينة.
ويجري في هذه المحطة فرز النفايات من قبل المتعهد الذي يستخلص منها المواد القابلة لاعادة التدوير، قبل ان يتم نقل المتبقي الى مكب الغباوي ضمن حدود امانة عمان الكبرى.
وانحى الحباشنة باللائمة في حرائق الحاويات على من قال انهم اشخاص يقومون بذلك من اجل استخلاص المعادن كالالومنيوم والنحاس والحديد، والتي يقومون ببيعها لاحقا لتجار الخردة.
ويعارف على هؤلاء باسم “النابشين” كناية عن نبشهم للحاويات بحثا عن كل ما يمكن ان يصلح للبيع. وهم في العادة من الفقراء ومعظمهم من الاطفال والنساء.
وقال الحباشنة ان البلدية قامت بمخاطبة الحاكم الاداري بشأن الاعتدءات التي تتعرض لها الحاويات، والتي وصلت حد سرقة حاويات باكملها من اجل بيعها كخردة.
واكد المدير الاداري في البلدية انهم بدورهم لا يألون جهدا من اجل حماية الحاويات التي هي ملكية عامة، ولكنه في الوقت نفسه دعا المواطنين الى التعاون عبر الابلاغ عن الاشخاص الذين يعتدون عليها.
وذكر حادثة جرى ابلاغ البلدية خلالها بوجود شخص يقوم باحراق حاوية في احد الاحياء، وقال ان موظفي البلدية تمكنوا من الامساك به، غير انه تبين لاحقا انه كان شخصا “معتوها”.
النابشون ينفون
خلال تجوالنا في احياء المدينة، وجدنا عند حاوية متهالكة فاضت بنفاياتها واسودت لكثرة ما تعرضت للحرق، احد هؤلاء النابشين، والذي تحدث معنا بعفوية نافيا تهمة حرق الحاويات عنه وعن زملائه في المهنة، والذين وصفهم بانهم “مسمخطون” أي بؤساء.
وقال الرجل، وهو في اواسط عقده الرابع، ان النفايات الموجودة في الحاويات هي نفايات منازل، ولا توجد فيها معادن يمكن بيعها اللهم سوى علب المشروبات الغازية والعصائر.
واضاف ان ما يبحثون عنه بالدرجة الاولى هو هذه العلب وكذلك العبوات البلاستيكية والكرتون، وما شابه ذلك.
وقال انهم ان اضرموا النار في الحاويات فانهم يكونون كمن يحرق رزقه بيده، وهذا على حد تعبيره “جنون”.
ولفت الى ان عمليات الحرق تكون من اجل استخراج الاسلاك المعدنية من الاطارات والنحاس من اسلاك التمديدات الكهربائية المغلفة بالبلاستيك، وما شابه ذلك، وهذه اشياء غير موجودة عادة في حاويات النفايات المنزلية، بل في نفايات المجمعات الحرفية والصناعية.
وبعفويته التي لازمته خلال حديثه معنا، قال نابش النفايات الذي يعيل اسرة كبيرة العدد ويستعين في عمله بشوال بلاستيكي يحمله على ظهره، انه يشك في ان بعض اصحاب المتاجر الكبيرة هم من يقوم بحرق الحاويات القريبة منهم بهدف اخفاء ما القوه فيها من لحوم واغذية فاسدة. قالها الرجل وختم بعبارة “والعلم عند الله”.
في المحصلة، فان عمليات حرق النفايات وسط الاحياء تتواصل وتتنامى منذرة بمخاطر حقيقية وجدية، فيما الاطراف جميعها منشغلة عن الحلول بتبادل الاتهامات.
للاطلاع على تقارير مشروع: مضمون جديد