ما الذي يريدونه للبنان؟، ما الذي يجرونه اليه؟ ، وما الذي يعاقبونه عليه؟
أسئلة طرحتها علينا الجولات الدامية التي شهدتها الأحياء الطرابلسية مؤخراً، والتي إن هى هدأت إلى حينٍ لم يبارحها الاحتقان بعد وامتدت ارتداداتها إلى بيروت والبقاع وعكار. إن أول ما كان منها أنها ذكَّرتنا وذكَّرت اللبنانيين قبلنا بفصل من فصول الاحتراب الأهلي الكيسنجري، الذي مازالت ندوبه ماثلةً في الجبين ورواسبه كامنة في الوجدان الوطني ولم تبارحمهما آثاره الغائرة بعد. ثم أن ما جرى أُتبع باغتيالٍ لشيخٍ في عكار واختطافٍ لعائدين من حجيجهم الى مزاراتهم الدينية في إيران، بعيد اجتيازهم للحدود التركية السورية، وهو تسلسل أكثر من كافٍ لإثارة تليد كوامن الغرائز الطائفية المصانة بفضلٍ من الصيغة اللبنانية التوافقية الهشة، والعرضة عادةً لشتى الاهتزازات مع أبسط هبوبٍ لما من شأنه تحريك مخبوئها الدفين، وبالتالي الى سهولة تفجير كافة مخزون سوءاتها مرةً واحدةً …الغرائز التي يتم شحنها في لبنان وسائر المنطقة منذ أمد.
هنا، لابد لنا من طرح سؤال يطرحه على اللبنانيين، وعلينا جميعاً كعربٍ، هذا الراهن المريب في ظل كامل هذا المشهد القلق الضاج بمفارقاته، الذي تعيشه هذه المنطقة برمتها… ترى، هل يمكن فصل ماجرى في لبنان عما يجري في سوريا ويخطط لها، أو إجمالاً عما يبيَّت لهذه الأمة ككل، وبالتالي، كيف لنا عزله عما يُلحظ من جولات لا تكل ولا تمل للسفيرة الأميركية وطاقمها في أرجاء لبنان، ونذر الشؤم المتمثلة في الزيارات الخاطفة المتكررة لسيىء الصيت فلتمان لبيروت، وتلكم الجولة التفقدية للسيناتور الأميركي اليهودي الصهيوني جو ليبرمان للحدود اللبنانية السورية؟!
إنه، وحيث قضايا الأمة كلها تظل دائماً المتصلة اللا منفصلة على الرغم من إختلافٍ في تفاصيلها وبعض من خصوصياتها، ولكون نوازلها وهمومها الناجمة عن الاستهدافات المعادية في كافة أقطارها القريبة منها والبعيدة تبقى المترابطة المتشابكة، لاسيما منها مالها خصوصية العلاقة والوشائج اللبنانية السورية تحديداً، فإن من المحال علينا النظر لما جرى على الساحة اللبنانية إلا على الوجه التالي:
معاقبة اللبنانيين على سياسة محاولة النأي بالنفس عما يجري في سوريا، والتي تعني في شقٍ منها عدم تحوَّل بلدهم إلى مرتكزٍ تآمري لتدمير الدولة السورية، أوتحويله إلى معبرٍ للأسلحة المهرَّبة للشقيقة الجارة، أومنطلق لإذكاء الفتنة التي تواجهها ومحاولات إطالة أمدها بصب الزيت على نارها الملتهبة كلما لاح لها خبوتاً ممكناً. ذلكم لادراكهم جميعهم، معارضةً ومالاةً، أن بلدهم سوف لن ينجوا في نهاية المطاف من أسنتها إن هي استمرت ، أو التي أول ما ستطاله هو هشيمهم الطائفي القابل للاشتعال قبل سواه في منطقة سوف تكون بكاملها على موعد محتوم مع عقابيلها الكارثية…معاقبة لبنان على كشفه واعتراضه ومصادرة سلطاته لباخرة الأسلحة المهرَّبة في طريقها لسوريا، التى مخرت بأمان عرض المتوسط من جنوبه إلى شماله فشرقه لترسو على شواطئه، التي تحرسها قوات دولية لمنع وصول الأسلحة إلى مقاومته دونما اعتراضٍ من هذه القوات، ولا من قبلها أساطيل الحرب، تلكم التي لا تفارق المياه الدولية ولا تكف عن مراقبة المنطقة بأسرها! وكشفه لبعض شبكات تهريب الأسلحة واعتقال بعضٍ من مهربيها ومموليها، وإجمالاً، محاولته ما استطاع إقفال حدوده مع سوريا في وجه تدفقها.
هذه واحدة، والثانية هى، معاقبة هذا البلد الصغير على ما حققته مقاومته من توازن رعبٍ في مواجهة العدو الصهيوني، وبعضٍ من محاولات ضرب هذا التوازن المقلق للغرب الحريص على تفوق إسرائيله، والساعي الدائم للنيل من المقاومة والممانعة، فكرةً وتجسيداً، في لبنان وفلسطين وسائر دنيا العرب، وتحويل الساحة اللبنانية إلى عبءٍ على سوريا الجريحة يضاف الى الأزمة التي تعيشها، والتي يتعهدون تعقيد سينياريوهاتها ورفد استعصاءاتها إعلامياً ومادياً، ويجهدون بكل الوسائل لمنع السوريين من التنادي لكلمة سواءٍ توقف النزيف السوري وتحفظ سوريا الدولة والوطن، بما يعنيه هذا البلد تاريخياً لأمته، ولما له من دورٍ رياديٍ دائمٍ في الذود عن قضاياها.
والثالثة، تحويل لبنان إلى ساحة حربٍ مفتعلةٍ ضد “العدوالإيراني” المزعوم كبديلٍ للعدو الصهيوني، وكمنطلقٍ لفوضى يراد لها أن تطال المنطقة بأسرها وتفيض من حولها إلى ما هو الأبعد، وقد تصل حتى ما بعد القفاز الروسي القلق، حيث بدا أن الروس هم أول من فهم الرسالة اللبنانية وأكثر من يتحسبون لأبعادها ويتوجسون من مراميها، الأمر الذي عكسه رد الفعل الغاضب والسريع والمشير لإدراكهم خطورة تداعيات هذا الحدث اللبناني.
بقى أن نقول، إنه، ومن أسفٍ، تشكل البيئة السياسية اللبنانية، التي تتحكم فيها، بل تتوارثها، في غالبها زعامات تقليدية تتكىء على الصيغة الطائفية وتحاول تأبيدها لضمان إدامة احتكارها لنصيبها من قسمة كعكة السلطة، وتتعامل مع غنائمها المستدامة كوقفٍ دريٍ ترثه وتورثه من بعدها… تشكل ساحةً تتوافر فيها القابلية لتسعير فتنةٍ سوداءٍ يهدف مثيروها لتقسيم الأمة إلى جبهتين طائفيتين لا يخدم اصطراعهما المفتعل إلا أعداءها المتربصين بها … لعل في حكمة الخيِّرين في لبنان وما بدا حتى الآن من تداركٍ متعقِّل اتسمت به محاولات إحتواء تداعيات ما جرى، وأجمعت عليها كافة الأطراف، وساعدها على هذا الإجماع خشيتها، ومن بينها حتى أولئك اللاعبين بنار الفتنة، من سقوط المعبد الطائفي على رؤوس الجميع…لعل فيما بدا ما يبعث الأمل بتجاوز لبنان لما دبَّره وسيدبِّره أعداؤه الساعون لمعاقبته.