في حين ما زال الشارع الأردني والعربي وربما الدولي تحت صدمة ما تشققّت عنه “جدران الصمت” التي خرج من خلفها واقع أليم يشير إلى تآكل منظومة القيم والأخلاق تحت وطأة التجويع والقهر والترويع الذي يعكس وجهاً هَرِم وسلاحاً ثلم لحكومات تترنح بين جدران صراخ الجائعين وصمت المقهورين، وفي حين يحاول الشرفاء في هذا البلد اتخاذ خطوات فعّالة وعملية لمعالجة مكمن الداء والبحث عن سر الشفاء في منظومة أخلاقية وتشريعية أحدثت فيها عوامل التعرية فعلها؛ حتى باتت نَخرِةً وأثراً بعد عين أو تكاد؛ تفتّقت عبقرية بعض المؤتمرين الذين شاركوا في المؤتمر الصحفي الذي عقده المجلس الأعلى لشؤون الأشخاص المعوقين يوم الثلاثاء؛ عن ذات المقولة البالية التي عمرها من عمر التمييز والإقصاء الذي يجابهه الأشخاص ذوو الإعاقة في هذا البلد؛ فانتشقت مجموعة ممن يحسبون على “الأكاديميين” حسام حماستهم التي لن نبحث في طبيعتها وبواعثها الآن، وقدحوا زناد أفكارهم وعصروا خلاصة خبراتهم فلمع بريق إبداعهم فأقبلوا وأدبروا ثم نظروا فتدبروا ثم فكّروا فقدّروا ثم عبسوا فبسروا؛ ليأتوا بما لم يأت به الأولون وما سيأتي به على الدوام الحاضرون والتابعون وتابعيهم بانقياد إلى يوم الدين؛ فقالوا: إن هذا إلا اختلاق، إنهم يريدون تشويه سمعة البلد!
ولا نعتقد أن هذه المقولة المهترئة تحتمل مجرد التفكير في مناقشتها فهي أهون من بيت العنكبوت وأصغر من ورقة التوت؛ التي لم تعد تقوى على ستر سوءاتنا التي بدت لنا ولغيرنا؛ على وقع صيحات ارتدت إلى الحناجر الصغيرة التي لطالما حاولت أن تسمع من كان حياً دون أن تعرف أن لا حياة لمن تنادي. هكذا حتى أنطق الله الحجر بعد أن ختم على قلوب من يقال لهم بشر؛ فانشقت “جدران الصمت” وحدّثت أخبارها بأن تجّار الحياة والموت قد أوحوا لها أن تكون قبراً تدفع أجرته أسر استنزفتهم الضرائب والرسوم شأنهم شأم السواد الأعظم من مواطني هذا البلد، ولم يجدو في مراكز ومؤسسات الدولة الجابية ملاذاً آمناً وكريماً لأطفالهم الذين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت على بعضهم قلوب أمهاتهم وآبائهم.
هل لهؤلاء الذين يركبون حصان “سمعة البلد” ويشهرون حسام “أجندة خارجية” منطق قويم حتى يمكن مناقشته؟ أليسوا هم أنفسهم أصحاب منطق العذر المخفف في جرائم إزهاق الروح بداعي “الحفاظ على السمعة”؟ أليسوا هم بعينهم دعاة تزويج الضحية المغتصبة لغاصبها “حفاظاً على السمعة” أيضا؟ وهم الآن يطلون برأسهم مطالبين الأطفال بالكف عن الصراخ تحت وطء التعذيب والاغتصاب “حفاظاً على سمعة البلد”.
إن هذا المنطق لا يستأهل إهدار الثمين من الوقت لمناقشته، ومع ذلك، فإنه مؤشر لا بد من الوقوف عنده ليس من حيث محتواه أو من اتبع هواه، وإنما من حيث سياق طرحه وظاهر ثوبه؛ لكونه قد جاء تحت مظلة المجلس الأعلى لشؤون الأشخاص المعوقين الذي يترأسه صاحبالسمو الملكي الأمير رعد بن زيد الذي أسس حركة الإعاقة ودفع ولا يزال باتجاه تعزيزها منذ عقود.
لربما قد آن الأوان حتى تقف العائلة الهاشمية الشريفة وقفة حزم وحسم مع كل من يحاول التستر بثوبهم والتمنّع بحصنهم.
لقد قال جدكم أيها الأكارم عليه الصلاة والسلام: “أنزلوا الناس منازلهم”، ومنزلتكم عظيمة ورفيعة ؛ من عظمة ورفعة من انشقّ له القمر ودانت له البشر وسجد له الشجر وسبّح في يده الحجر. وتلكم المنزلة لا يستقيم تنزيهها عن لغط العامة وتسلّق كل هامّة؛ إلا بالبعد عن المواقع التنفيذية التي تطالها سهام الكافة، المخلص منهم والمرائي الساعي إلى تحقيق مأرب قصير أو طويل المدى.
إن وجود صاحب السمو الملكي الأمير رعد بن زيد على رأس الهيئة التنفيذية للمجلس الأعلى يعطي ولا شك لهذا المجلس قدراً من الهيبة والاحترام، ولكنه في الوقت نفسه يجعل من هذا المجلس حصناً يستعصي على المساءلة القانونية والقضائية والمحاسبة الإدارية من جانب كل من له مصلحة. وليست هذه المنعة مردها سبباً قانونياً أو دستورياً، وإنما السبب هو أخلاقي وعاطفي؛ حيث يكِن الجميع من الأشخاص ذوي الإعاقة وغيرهم حباً وتقديراً مستحقين لصاحب السمو الملكي الأمير رعد بن زيد؛ يحولان دون مساءلة ومقاضاة مؤسسة ممثلها القانوني رجل نذر نفسه وعمره من أجل قضيتهم. لقد كانت قوة تأثير هذا الرجل المعطاء وستظل دائماً من خلال وجوده أباً روحياً ورمزاً للحياد ونقطة التقاء تتقاطع عندها مختلف الآراء مهما تنافرت والمصالح مهما تعارضت. أمّا النزول إلى معترك الماكنة التنفيذية لمؤسسة ما؛ فإن من شأنه أن يجعل المرء على طرف أحد فريقين:فريق يعمل وآخر يرصد ويحاسب كما هو في كل الأنظمة التي تدّعي تبنيها لنهج الحاكمية الرشيدة في إدارة مؤسساتها ومرافقها.
إن منزلتكم يا صاحب السمو الملكي وأخوانكم وأخواتكم من العائلة الهاشمية الكريمة؛ منزلةً رفيعة تأبى أن يتسلقها عبّاد المناصب أو أن يلوذ بها المقصرين في أداء الواجب. إن التماس مع الناس والجمهور له ثمن لو تعلمون عظيم؛ لا يرغب كل محب لكم أن تدفعوه ذوداً عن مؤسسات أساءت استخدام اسمكم واستثمرت حب الناس وتقديرها لكم. فأقسم لكم يا صاحب السمو غير حانث إنه ليأسرني تواضعكم وجِدكم واجتهادكم، ولا أنسى إذ نسيت أنكم في كل لقاء أو نشاط تكونون أول من حضر وآخر من غادر مهما طالت الجلسة وتململ الشباب في كراسيها قبل الشياب، ومن أجل هذا أقول إننا نريد أن ننزلكم منزلتكم ومقامكم الرفيع الذي يسمو على تبادل الاتهامات وتحميل المسؤوليات والتقاضي في ساحات المحاكم ضد مؤسسة قد تكون قصرت في واجب من واجباتها أو أخلت بأحدى مسؤولياتها أو لربما افتأت على البعض بمنأى عن علمكم أو توجيهاتكم.
إن العمل العام وبصفة خاصة العمل التنفيذي؛ ينزل بصاحبه إلى دوائر الجدل والأخذ والرد ويضعه نصب أعين الناس يرقبون خطواته وحركاته وما قام وما لم يقم به حتى يسألوه ويحاسبوه، ومن الناس من يعرف أصول الجدل والمساءلة وهم قليل، ومنهم من تغلبه فاقته فيندفع بفطرته وعلى سجيته وهم كثير، وأنتم بين هذا وذاك ليس لكم دار مقام، فمقامكم أرفع من الجدل وأسمى من أن يستخدم اسمكم ويساء استغلال حلمكم في تبرير تقصير فلان أو إهمال علان، فكونوا كما عهدناكم منذ زمن، أباً روحياً ورئيساً فخرياً تنكسر على صخرت حكمته أمواج الخلاف وإن علت، وتهدء ريح التضاد وإن عتت، فيلتقي في رحابكم الفرقاء ليخرجوا وقد سادهم الود والصفاء الذي لا يفسدهما اختلاف الآراء.
إن الحكمة الدستورية اقتضت أن لا يترشح للانتخابات أحد من العائلة الهاشمية الكريمة ليكونوا دائماً بمنأى عن معترك وغبار المعارك الانتخابية، فما بالكم بمعترك الحلبة التنفيذية التي تعج يومياتها بالجدل الصاخب والغمز واللمز من كل جانب.
نحن نرى فيكم فصل الخطاب والحَكَم الذي لا يجانبه الصواب والذي لا ينبغي أن يكون إلا على المسافة ذاتها من مختلف الأطراف؛ الرؤساء والمرؤوسين، صناع القرار والمخاطبين به، المسؤولين والراصدين.
لو شئت لما قلت ما قلت وهو علي ليس بهيّن، ولكن ما توالى من أحداث في الآونة الأخيرة يضع المرء أمام مسؤولياته ليقول ما يظنه كلمة حق حتى وإن ثقُلت، فواقع الحال في حلبة حقوق الإنسان وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة أشد وطءة وأكبر قيلا.