صوتها جراب العاطفة وهيلُ الليل المطعّم بالشوق ..من الشبابيك المرتفعة كان يصدح صوت وردة بأغنيتها (معجزة)، ومن الغرف القديمة والمخازن المسكونة بالأشقاء المصريين التي تمتد أمامها حبال الغسيل و»الجزم» المقلوبة ..كانت (العيون السود) تهوّن عليهم غربتهم ..
،على صوتها خضنا أولى تجاربنا العاطفية،وكتبنا أولى الرسائل المملوءة بالأخطاء الإملائية والسرقات الشعرية، والمختومة ببعض العبارات «المشطوبة» قصداً ليتم قراءتها بتمعن من قبل الحبيبة، قبل ان نطويها برفق ونمهرها برشّة خفيفة من عطور التركيب «تومي بوي» أو «آراميس» / القنينة بدينار..
كل شيء مع «وردة الجزائرية» كان مختلفاً، الدراسة، الحب،تقطيع العروض، وحدة الكهرباء في كتاب الفيزياء، البطالة الطويلة، الغربة الأولى، طريق المطار …كل شيء.. حتى «الدهّين» الذي دهن الغرفتين اليتيمتين من بيتنا القديم، كان يتحسّن أداؤه في طراشة البيت اذا ما ضغط على زرّ التشغيل لمسجل «البناسونيك « وسمع «اكذب عليك»…
وردة الجزائرية .. مرفأ المبعدين عن أحبتهم وأوطانهم ..و»مَرْهَم»المحروقين بشوقهم ..ففي أمسيات وليالي الصيف يتجلى السماع لوردة ..من وراء السناسل المغطاة بالياسمين والعليّق، وعلى وقع آخر سحبة «قشّاطة» تنشف الدرج من صبية مغرورة أنزلت غرتها الكستنائية قصداً على عينيها، على الشبابيك المشرفة على الشارع ..من سطوح الحيطان وقرب «الحواويز»،وابريق الشاي بميرمية، ودخان «الريم»، و»وحشتوني» و»اسمعوني» … أشرطتها كانت «مورفين» العشاق ..التي نادراً ما تخلو منها جيوبهم الخلفية أو قمصانهم المورّدة..
الى سفيرة الغربة والعشاق..وردة الجزائرية
***
( 2)
كنت أظنه آخر الراحلين من الساخرين، فوسامته الفريدة، وأناقته الدائمة، وابتسامته الجذابة، كانت تشي بأن الموت يهابه أو على الاقل يخجل الاقتراب منه وهو في كامل حبه للحياة ..منذ ان وعيت على ورق الصحافة و»جلال الرفاعي» يطل من مستطيل الكاريكاتير، يفتح النافذة العلوية لجريدة الدستور، ويستقبل هوى الوطن، هموم الناس، وضجيج الحياة، ومآزق السياسة، كان شجرة «مدّيد» حقيقية كلما تقدم به العمر أكثر،أينع اكثر، وتدلى من قوارة الإبداع أكثر ..بالأبيض والأسود سخر من السياسات العربية المفقوسة على الهزيمة، ومن طاولات المفاوضات دون تمييز بين أرجلها ورجالاتها، كما رسم عن فلسطين بعدد أسلاكها الشائكة، وبطول جدائلها الممعنة في الحزن والوحدة، «جلال الرفاعي» كان يخلط تراب الأوطان بحبره ويرسم على الورق، ولهذا فإن لرسومه رائحة تشبه زفير الأرض المشبعة بالندى وتثاؤب العشب البري عند الصباح..
الى الصديق العظيم جلال الرفاعي ..الريشة التي تقطر وطناً…،