مخادع كل من ينكر انه يمكن ان يتعلق بمغنية او عازفة او راقصة، اذا لم يكن يشعر انها تغني او تعزف او ترقص له وحده دون سواه. وكاذب من يدعي انه يعشق الفن للفن، او يزعم انه يخرج الى الحفلات والمهرجانات فقط لكي يكون واحدا من جمهور المصفقين او المهللين او الهاتفين.
ربما تجوز هذه الخدعة في الغرب حيث تحتل الفنون مكانة مميزة في الوعي الجماعي، وتسهم في تكوين الثقافة الشعبية وبلورة الشخصية الوطنية. اما في الشرق فإن قاعة القصر والبلاط والديوان، كانت ولا تزال مهد الفن ومعبده، ومقصد جمهوره الذي يدخل الى الحفل كأفراد ويخرج كأفراد أيضاً، محملا بالأحلام والرغبات والشهوات التي تثيرها المغنية او العازفة او الراقصة.. والتي تكون في الغالب وحيدة بين مجموعة من الرجال المصاحبين في الغناء او العزف او حتى الرقص، وبين مجموعة اكبر من الرجال المنصتين او المشاهدين.
منذ ان تردد صدى صوتها للمرة الاولى عبر الاذاعة، في سبعينيات القرن الماضي، بدا كأنها كانت توجه نداء شخصيا مباشرا، أقوى من بقية النداءات المدوية التي كانت تصدر في تلك الفترة، واقرب الى القلب والى الوجدان. لم تكن توحي بأنها تغني في قاعة مقفلة من قصر مسيج لجمهور من النخبة، بل كانت تشدو من برج مرتفع، وتقول كلمات أرق وأبسط من تلك القصائد العمودية التي طالما كان غناؤها مطلب الملوك والسلاطين والأمراء والشعراء، ومثار فخرهم وديوانهم المشترك.
وصل الصوت بسرعة، واستقر عميقا، لانه كان شجيا مؤثرا، يعبر عما كان مستبعدا او محظورا او متحديا لتقاليد الطرب العربي، ويختزل اربعة مكونات او ربما اربع تجارب في الغناء، الفرنسي والجزائري والمصري واللبناني الذي كان في تلك الفترة في ذروة التحدي والتجديد والتجريب.
لكن البحث عن هوية تلك المطربة لم يكن يوما هما. كان يكفي ان تغني «للعيون السود» او ان تغرد بـ«أوقاتي بتحلو» او ان تعترف بانه «لولا الملامة» او ان تلوم بـ«كلمة عتاب» او ان تناجي بـ«بلاش تفارق» او ان تصدح في رائعتها «في يوم وليلة»، او حتى ان توجه كلمة شوق عفوية بسيطة مثل «بتونس بيك».. حتى يتفتح الورد ويتسلل العطر، وتضيع مقدمات جوهرية منها ان من ساهم في صنع ذلك المجد الفني، هم كبار سلالة الموسيقى العربية، من سيد مكاوي الى رياض السنباطي الى محمد عبد الوهاب الى بليغ حمدي، وصولا الى صلاح الشرنوبي.
لم تكن تغني لأي من هؤلاء العظماء، بل كانوا يلحنون لها ويصاحبون صوتها الشجي في آهاته ولياليه وفي همساته وتعاليه.. كما هي حال الكتّاب الذين كانوا يختارون لها الكلمات الخاصة بها، ويتحدثون عن وقع كل كلمة من كل اغنية حتى قبل ان يكتمل النثر.. كما هي حال الجمهور الذي كان يطرب فور تلقيه مطلع الغناء، ولا يتوقف الا عندما يبتعد السحر، ولا يزول.
لم تكن وردة تغني لاحد أبدا. تلك سيرة خاصة مع مبدعة، سقط في وداعها امس اكثر من دمعة.