الاصلاح نيوز – كتب: محمد البدارين/
من اسوأ تناقضات البشر ، هو ذلك التناقض المدمر بين الوضع الجديد المسيطر والوضع السابق الفاقد للسيطرة ، وما ينتج عن هذا التناقض من صراعات وثاراتواحن ، تستنزف الانسان وتعيد استنزافه دورة بعد دورة حتى تمتلىء قلوب الناس بالاحقاد التي ليس لها نهاية. حدث ذلك في كل الازمنة ولا يزال يحدث بهدف تثبيت الوضع الجديد وتمجيده وتحقير الوضع السابق والغائه، يحدث ذلك دائما بقوة دوافع الهيمنة والكسب و المنفعة واشباع الشهوة البشرية للسيطرة ، حتى لو كان الثمن اي شيء بما في ذلك الانسان نفسه.
حتى الاسلام ..الدين الحنيف لم يسلم من تناقضات البشر وتلاعباتهم ، فحين انتصرت دولة المدينة كوضع جديد راح المستنفعون والمسترزقون من بقايا الطلقاء والمرتدين والداخلين طمعا بالدين الجديد ، راحوا يهدمون كل شيء قبلهم ليس بدافع التوحيد واعلاء كلمة الله ، ولكن بدوافع تختلط فيها تناقضات البشر وصراعاتهم الانانية والعنصرية والطبقية والارتزاقية بالشعار المقدس المرفوع عاليا لاغراض التخفي تحته ، وفي هذ السياق رأينا كيف تطمس حضارة الاف السنين للعرب قبل الاسلام وتلغى ، او تختصر بلوحة سوداء قبيحة مشوهة عنوانها وأد البنات ، ولا تنسب لها اية فضيلة.
ما اشبه الليلة بالبارحة ، فلا شيء في الاردن ، سوى متخلفين يقتلون النساء بداعي الشرف ، لاشيء في الاردن يستحق الاحترام ، الا الاردنيين الجدد من ذوي الكفاءة والمعرفة الذين يضحون بوقتهم وجهدهم من دون مقابل من اجل خدمة دولة الاردن وتخليصها من افات التخلف والجهل والعجز ، لكنهم رغم ما قدموا ويقدمون من جهود خلاقة ما زالوا غير قادرين على حسم صراعهم المستمر من اجل ترسيخ قيم دولة التقدم والحداثة والرفاه ، بسبب تواطؤ بعض اجهزة الدولة او ضعفها امام القوى الرجعية التي تقاوم التغيير وتتمسك بالاطر المتخلفة.
وفي هذا السياق الكاذب ، يستمر الصراع في الاردن منذ تأسيس الامارة حتى يومنا هذا ، صراع يتم شرحه كل يوم بلغة مباشرة ، او بلغة مشفرة لا تحتاج للحل من كثرة التكرار ، فهذه حكومة محافظة ورئيسها ينتسب للحرس القديم وتركيبتها قبلية وغير مسيسة ، وتلك حكومة ليبرالية بوزراء مسيسين قادرين على التعاطي مع العالم ويعكسون صورة مشعة ، صورتان امامك كمراقب فأيهما تختار ، صورة قديمة متخلفة بشعة ومغبرة ، تقابلها صورة حديثة متحضرة لامعة تواكب روح العصر ، وتلغي صورة الجمل والصحراء التي قد يتم تشغيلها فقط لاغراض تنشيط السياحة وتخصيب الاعمال الدرامية ، او للايهام احيانا بوجود قضية لما اصبح يسمى بلغة البنك الدولي السكان الاصليين ، بهدف تشجيع العمليات الاركولوجية والانثربولوجية الممولة بالمنح التي تنفق لاغراض اخرى بالتواطؤ مع المانحين .
كل من يرغب يستطيع ان يرى هذه الصورة الاردنية امامه يوميا في صحف اسرائيل ولندن وواشنطن وعمان ، ويمكن ان يلتقطها بلا جهد في المطار والفندق ليس خارج الاردن بل داخله وفي قلب عاصمته ، فما عليك ان اردت الا ان تقارن بين صوت موظفة الاستقبال وانت تتكلم معها باللهجة الاجنبية ثم كيف تتحول نبراتها معك انت نفسك حين تتحول معها للهجة المحلية ، من يصنع الصورة ومن يبيعها ومن يشتريها ومن يدفع الحساب الختامي ، هذه اسئلة محذوفة!
لا شيء اسمى من الحقيقة ، والحقيقة بطبيعة نشاطها تعزل الاشياء الملتبسة ببعضها عن بعضها ، مهما كانت الشعارات المرفوعة مقدسة او لامعة ، فثمة دائما فرق بين الشعار المقدس والعمليات الجارية بأسمه ، فلا قداسة لاي شيء امام انشطة الحقيقة ونقدها ومحاكماتها ، فكيف لنا ان نصدق ان الاردن لم يكن يعيش فيه احد في القرن التاسع عشر ، وكيف نلغي بلدية السلط وتجارتها المزدهرة ، وكيف نشطب اربد وبلديتها ومدارسها وصادراتها من القمح ، وكيف نقول انه لم تكن هناك عمان ولا عمونيون ولا الكرك وثوراتها ضد المماليك والالبان والاتراك ، وكيف نلغي تاريخ الطفيلة وثورة الشوبك ، وثقافة الناس ابناء الناس المملوءة بالحكمة والوعي والرقي والادب ، الناس في مادبا والفحيص وماحص و ماعين وحسبان ، هل نلغيهم بدعوى الحوار والانفتاح على الاخر ، الاخر الذي يسحق كل شيء فينا كل يوم ثم يؤاخذنا لماذا نتشاجر ولا نتبسم ، وهل هذا حقا من مستلزمات الانتماء وتعزيز الروابط وبناء الوعي وتشجيع الاستثمار وازدهار المملكة.
لا مصلحة للدولة بشطب شعبها ، وليس لها مصلحة بتأبيد صور نمطية قبيحة مزورة عن سكانها ، وهي لم توعز لكتاب المناهج بالغاء الحقائق ولا بتزوير الاحداث ، لكن المتسترين تحت الشعار المقدس هم الذين تستدعي تناقضاتهم وصراعاتهم الغاء الاخر وطمس حضارته وشطب وجوده ، ويزيد من حمى عمليات التشويه والشطب والالغاء وانتاج الصور الجاذبة والمنفرة ، قوة التسويق وقوة الطلب على ما يعرض عن الاردن من صور وابحاث ومقالات مفبركة لخدمة الهدف الاستراتيجي لمن يعتقد انه صاحب المنطقة ، فينفق ما ينفق من اموال لتمويل انتاج وتوزيع نفس الصورة المرسومة لنا بعناية منذ ان سرقوا حجر ميشع ،، ميشع الذي نقش على الحجر انه من ذيبان وشرح بكلمات خالدة ،حقيقة الصراع المستمر حتى الان ، في دليل يدين كل المدن التي اصبحت تطلق الاسماء على شوارعها حسب الواسطة ، في اسخف مظهر من مظاهر الانحطاط الوطني .
اسرائيل تؤكد انها هي صاحبة الارض ، وهي لا تعترف بوجود غير اليهود في هذه البلاد ، لكنها بعد عقود من الكفاح الفلسطيني المرير تقر بوجود من سمتهم فلسطينيين ولاحقا الفلسطينيين ، وهم بالمنطق الاسرائيلي جماعة لم تكن شعبا في اي يوم من الايام ، وتأمل اسرائيل بدوافع انسانية ان تتمكن من مساعدتهم ليكونوا شعبا في المستقبل ، لا وجود لاحد بين البحر والصحراء وفق منطق اسرائيل الا لليهود ، واذا كان هناك فلسطينيون او عرب ،يعيشون في كل” ارض اسرائيل” ، فهم اما من اشتات قبائل الجزيرة العربية ويمكنهم ان يعودوا اليها ، واما من بقايا غزاة يونانيين ستعمل دولة اسرائيل بالتعاون مع الاطراف الاخرى على ايجاد حل لمشاكلهم ،الحياتية.
لا مشكلة بأن هذا هو منطق اسرائيل ، المشكلة ان هناك من هو مقتنع به في الجانب العربي واصبح يروج له ، وينكر علنا وجود الناس في الاردن قبل عام 1921 ، وينكر سرا وجودهم قبل عام 1967 ، وهناك جهات في الاردن ترى ان لها مصلحة في هذا الانكار لاسباب مختلفة ، اسوأها اعتقاد البعض انه سيستفيد من عملية تعويم الهويات وبعثرتها ،والغائها لانه غير مدرك لحقيقة المرحلة الاخيرة من المخطط التنظيمي الشمولي .
جهاز الحكومة في الاردن تساهل مع التعويم منذ تأسيس الامارة تحت شعارات مقدسة كالوحدة والتحرر او تحقيق التقدم الوطني عبر الاستفادة من الخبرات والكفاءات العربية ، ثم اضيفت شروط جديدة لضمان استمرار سيطرة نفس العناصر على المفاصل ، مع السماح لاحقا بنسب تضليلية مدروسة جيدا لاغراض التمويه.
حدث كل ذلك تحت ستار وحدوي او تقدمي او تنموي ، لكنه كان دائما ستارا قابلا للتمزيق من قبل القوى الوطنية ، التي واجهت سلطة الانتداب وتعرض مثقفوها على وجه الخصوص للاعتقال والنفي ، فقد كشفوا في وقت مبكر عن حقيقة التمييز الرسمي الذي مورس ضد ابناء البلاد لمصلحة عناصر معينة لا تنتسب الا الى ارزاقها ومصالحها ومنافعها وان تسترت بما تسترت به من اقنعة. وبعيدا عن التاريخ الشفوي الطافح بقضايا التمييز الرسمي ضد عموم الناس من قبل الحكومة المسيطرعليها من قبل بقايا كتبة ومخبرين لدى الادارة التركية السابقة او سلطة الانتداب وابنائهم واحفادهم من بعدهم ، فان التاريخ الاردني شبه الرسمي يكشف بوضوح عن جذور هذا التمييز في عهد الامارة وحقيقته وابعاده الخطيرة ، حيث جاء في كتاب تاريخ الاردن في القرن العشرين لمؤلفيه منيب الماضي وسليمان الموسى، ما يلي :
( كانت شكوى ابناء الاردن مستمرة من توسيد مناصب الدولة الى اشخاص من خارج المنطقة ، ولو اقتصر امر حرمان ابناء الاردن من الوظائف العليا لهان الامر ، ولكن الحرمان كان يشمل الوظائف الكتابية الصغيرة ، بل حتى وظائف الخدم والسعاة والاذنة ، ولم يكن ابناء الاردن ينظرون الى هذه المسألة بالعين التي تنظر بها الحكومة ، فهم كانوا يؤمنون بجدارتهم وكفاءتهم لتولي اكثرية المناصب والقيام بها ، والحكومة ترى ان الوافدين من ابناء الاقطار الشقيقة اكثر جدارة وكفاءة لادارة العمل الحكومي. واهل البلاد كانوا يرون هذا التفضيل والمحاباة دليلا على الرغبة في التحكم بهم والسيطرة على مقدراتهم وحرمانهم من التصرف بشؤونهم ،، وان تفضيل هؤلاء الوافدين سببه كونهم اكثر طاعة في تنفيذ الامر الذي يصدر من الاجنبي ، لان مصلحتهم المباشرة هي البقاء في الوظيفة وتقاضي الرواتب بغض النظر عن مصلحة الاردن. ويمثل هؤلاء الوافدون في اكثريتهم اصبع الاجنبي في التمتع باموال الميزانية وفي تنفيذ الاوامر وبسط الظل الاستعماري وربما مثلوا الاردن بالبقرة الحلوب يمتصون خيرها ويضنون عليها بما تقتات به ، ويصنف ابناء البلاد اولئك الوافدين على درجتين احداهما وطنيون احرار يهمهم مقارعة الاجنبي ومقاومته بغض النظر عن مصلحة الاردن ، والثانية مرتزقة طفيليون لا يهمهم الا الكسب حلالا او حراما ، وابتزاز خيرات البلد وطاعة الاجنبي طاعة عمياء في تنفيذ ما يريد ، وبث الشقاق بين ابناء الاردن كي يستمروا هم في البقاء بمراكزهم )
من البداية كانت هناك صورتان وكانت هناك قضية !!