احتفلت اسرائيل مؤخرا بما يسمى “عيد الاستقلال” . وقد انطلقت الاحتفالات من بيت “رئيس الدولة”، شمعون بيريس، حيث أسهب المتحدثون في تعداد “الإنجازات” التي تحققت في الفترة التي انقضت . لكنه، إلى جانب أولئك المتفاخرين بالإنجازات، هناك من الإسرائيليين من يرى أن دولة إسرائيل بعد 64 عاماً على تأسيسها أصبحت تقف على منحدر خطر جعلهم لا يرون لها مستقبلاً، بل ويشككون في وجود ما يضمن لها البقاء .
لا شك أن الجانب الاسرائيلي في مسيرته حقق الكثير من الإنجازات، لكنه، في المقابل، واجه الفشل في كثير من المحطات . والفشل الأكبر الذي واجهه، ولا يزال يعاني آثاره بل ويعطي الحق للمشككين في مستقبله وبقائه، يعتبر المعادل ل”الإنجاز الأكبر” الذي حققته الحركة الصهيونية وهو فشله في تحقيق “السلام” مع الفلسطينيين والعرب، هذا “السلام” الذي يعتبر الضمانة الحقيقية لبقائه .
فبالرغم من “معاهدات السلام” التي وقعها مع فريق فلسطيني ودولتين عربيتين، وبالرغم من المشهد الفلسطيني الراهن الذي لا يرضي الفلسطينيين، فإنه، في جانب منه، يسقط التصور الذي بنى عليه القادة المؤسسون من الاسرائيليين تفاؤلهم عندما تصوروا أن “الكبار يموتون والصغار ينسون” . فالكبار لم يموتوا قبل أن يغرسوا في الصغار ما آمنوا به من حق في وطنهم، أما الصغار فيؤكدون هذه الأيام وبمختلف الطرق، أنهم أكثر تمسكاً بهذا الحق مما كان عليه الكبار . وأما الأنظمة العربية، فمع أنها لا يبدو أنها ترفض ما يعرض عليها، إلا أنها لا تجرؤ على قبوله، والانتفاضات العربية دليل على أن تجاوز الإرادة الشعبية لم يعد ممكناً .
ولذلك نرى “السلام البارد” مع من وقّع “معاهدات السلام” يهتز، ولا نرى معاهدات جديدة مع الذين لم يوقّعوا .
كذلك، يمكن أن ندرج في قائمة فشل اسرائيل “العزلة الدولية” التي تعيشها، حتى مع الذين لعبوا الدور الأول في إقامتها . وبالرغم من “مظلة الأمان” الغربية التي تحميها في مجلس الأمن ، إلا أن هذه العزلة تتجلى في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهيئاتها المتخصصة، عندما تعرض عليها أية مسألة تتعلق بالقضية الفلسطينية، حيث يكون التأييد لها ساحقاً، حيث لا يقف معها إلا بضع دول .
وكم من مرة دانت دول العالم، والاتحاد الأوروبي، بما في ذلك بريطانيا وفرنسا، الممارسات الإسرائيلية الخاصة بعمليات مصادرة الأراضي، أو بناء المستوطنات، أو الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان التي يتعرض لها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة . وحتى في الولايات المتحدة ذاتها هناك أوساط واسعة، اليوم، ترى في اسرائيل عبئاً، وتطالب بإعادة تعريف العلاقة معها..
ويمكن، أيضاً، أن نذكر “الوضع” الذي أصبح عليه الجانب الاسرائيلي، اجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً، لدرجة أن هناك من القادة الاسرائيليين من أصبح يطالب بتغيير النظام السياسي فيه، وهو ما يعطي الفرصة للزعم بأنه أصبح، في وضعه الراهن، يواجه “أزمة عامة” تكفي لتطرح مسألة وجوده على بساط البحث . ففي مقال له نشرته صحيفة (هآرتس- 15/4/2012)، يقول الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: “ إن الدولة، وقد أصبح عمرها 64 سنة، لا تزال تواجه الأسئلة نفسها وكأنها ولدت أمس، ولا جواب عليها . فلا أحد عنده جواب عما سيكون عليه وجه الدولة بعد عشر سنين، بل يوجد من يشكون في مجرد بقائها حتى ذلك الحين، وهذا سؤال لا يثار حول أية دولة أخرى” .
أما أبراهام بورغ، رئيس الكنيست والقيادي السابق في حزب العمل، فيقول في مقابلة أجرتها معها مجلة “قضايا إسرائيلية – عرب 48- 17/2/2012): “إن استمرار تعريف إسرائيل دولة يهودية ينطوي على موقف مشحون بامتياز، ومن شأنه أن يؤدي إلى نهايتها، ويستحيل أن يتعايش مع تعريفها بأنها ديمقراطية” . وفي مكان آخر من المقابلة يقول: “ يجب أن يصبح الشعب اليهودي ودولته الإسرائيلية جزءاً عضوياً من الأسرة البشرية، لا مخلوقاً مستقلاً، مميزاً ومنفصلاً لا ينتمي إلى التاريخ” .
إن النظرة إلى اسرائيل من “الخارج” نظرة مضللة، لا تسمح إلا بتقدير خاطئ . يقول بورغ، في المقابلة آنفة الذكر: “إسرائيل لا تفهم إلا القوة”، وهذا صحيح . لكن، وبالرغم مما راكمت من “القوة” التي سمحت لها بتحقيق بعض الانتصارات، إلا أن السنوات الأخيرة كشفت حدودها وأظهرت محدوديتها ووضعت الكيان في خانة “عدم اليقين” إزاء أية مغامرة مستقبلية .
والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الوضع الاقتصادي، فهي مدينة، بما تحقق من تطور، للمساعدات الأمريكية والتعويضات الألمانية، التي تلقتها على مدى عقود .
التعويضات الألمانية تقدر بأكثر من (80) مليار دولار . وأما اجتماعياً، فقد لخص الشاعر الإسرائيلي نتان زاخ (81 عاماً) الوضع بالقول: “هذه بلاد لاجئين من ستة أطراف المعمورة . جئنا باسم الصهيونية . . بلاد لاجئين لا شيء يوحدهم، ولم يعد لدى اسرائيل ما تقدمه، ولا أعتقد أن هذه الدولة ستصمد” (هآرتس – 31/12/2011) .