عريب الرنتاوي
مشاعر الغضب والقلق تسيطر على الأوساط السياسية والأمنية في إسرائيل، رغم جميع المحاولات التي بذلها كبار المسؤولين فيها، للتقليل من شأن القرار المصري بوقف ضخ “الغاز الرخيص” في عروق محطات توليد الطاقة الإسرائيلية، وتصويره كخطوة تجارية محض، لا أبعاد سياسية أو تداعيات دبلوماسية لها.
هو قرار سياسي بامتياز، بصرف النظر عن دوافعه ودلالات توقيته، من دون تقليلٍ من شأن الآثار الاقتصادية المترتبة على الصفقة المُجحفة بحق مصر، التي أبرمها نظام مبارك المخلوع، وعُصبة الفساد والإفساد التي أحاطت به، وشكلت نواة حكومه وعاموده الفقري، وقد آن الأوان، للتخلص من “تركة الرجل المريض”، وتصفية ذيول عهده البائد، والقطع مع ثلاثة عقود من الذل والإذلال.
ونقول بصرف النظر عن دوافع القرار ودلالات توقيته، لأن بعض المحللين وقطاعا من الرأي العام المصري، نظر إلى القرار بوصفه محاولة من “المجلس العسكري الأعلى” لاسترداد بعضٍ من “شعبيته” المفقودة، ومسعى من جنرالاته لتهدئة الخواطر الغاضبة والنفوس الثائرة، وربما توطئة لخطوات على الصعيد الداخلي، في غير صالح الثورة ودوام تقدمها على طريق تحقيق إنجازها.
نحن لا نوافق على تحليل كهذا وإن كنّا لا نرفضه في المقابل، لكن بفرض صحة هذا التحليل وجدية ووجاهة تلك المقاربة، فإنهما لا يقللان من شأن الخطوة المصرية، التي إن كان لها من “مضمون سياسي” خاص، فإنه يتجلى في أنها فتحت أفقاً لمراجعة السياسات والنهج والاتفاقيات التي أبرمت تحت سيف “التمديد والتجديد والتوريث”، وصُممت لغايات تجديد النظام من داخله، أو بالأحرى من داخل “العائلة الحاكمة”، وربما هنا بالذات، يكمن مصدر القلق الإسرائيلي، ألم يبرهن القرار المصري، على أن “صوت الشعب” بدأ يتسلل بقوة، إلى مؤسسات ومراكز صنع القرار السيادي المصري، بعد أن كان حكراً على مبارك وصحبه؟.
مصر أولى بغازها “أو على طريقة المثل المصري: جحا أولى بلحم ثوره”، وغزة الغارقة في الظلام وأزمات المحروقات، أولى بالغاز من دولة الاحتلال والاستيطان، فلماذا يتعين على ثمانين مليون مصري البقاء جالسين على مقاعد النظّار والمتفرجين، فيما مليارات الدولارات من أموالهم وثرواتهم، تضخ في جيوب “القطط السمان” و”اقتصاد الاستيطان والتوسع والاحتلال والعدوان”؟.
ولا شك أن القرار المصري الشجاع، سوف يشجع ملايين المصريين على رفع أصواتهم من جديد، مطالبين على أقل تقدير، بإدخال بعض التوازن والاتزان، على الاتفاقيات الجائرة والمُقيّدة لحقوقهم وحرياتهم، والمُنتهكة لسيادة بلدهم ودولهم، حتى لا نقول بإلغائها، وضمها إلى “الفصول الأكثر مأساوية” في أرشيفهم التاريخي الحديث.
مصر تسير في الاتجاه الصحيح، صحيح أنها تفعل ذلك بصعوبة وتعثر وألم شديد وصعود وهبوط، ولكنها تسير في الاتجاه الصحيح، إلى الأمام والأعلى، وعندما تستكمل الثورة بناء منظومتها الدستورية والسياسية، بعد انتخابات الرئاسة وتشكيل الحكومة الجديدة، وإقرار الدستور الجديد، لن يكون مُتاحاً لأحد، وبشكل خاص لإسرائيل، بأن تتعامل مع “قائدة العالم العربي”، كما لو كانت حديقة خلفية، لبينيامين بن أليعازر (فؤاد) صديق مبارك غير الصدوق، والرجل الأقرب إلى قلبه حتى من بعض معاونيه، أو كثيرٍ منهم.
ولا خوف على الربيع العربي، من أن يفقد “عمقه الفلسطيني”، تلك نظرية بائسة انتشرت بفعل انشغال الثورات المليونية بأجندة الإصلاح والتغيير وإعادة البناء والإعمار والتنمية، حتى بدا أن إسرائيل غائبة عن جدول أعمال الربيع العربي، هذه نظرية باطلة قولاً واحداً، فلسطين لم تكن غائبة عن جدول أعمال الربيع العربي، بل كانت حاضرة، وحاضرة بقوة، إن لم يكن من باب “نُصرة الأشقاء الفلسطينيين” فمن باب الذود عن المصالح الوطنية الخاصة بكل شعب عربي، وهي المصالح التي تتهددها إسرائيل بشكل مباشر وعميق، خصوصاً في دول الطوق والتماس.
ما فعله المصريون بالأمس، يندرج في سياق “تضامنهم مع أنفسهم” وذودهم عن حقوقهم ومصالحهم، وليس في إطار “التضامن مع الشعب الفلسطيني”، ولكن من قال أن الأمرين مختلفان ومتناقضان، إن كل ما يعزز دور ومكانة وحرية واستقلال الشعب المصري، أو أي شعب عربي، يصب مباشرة في خدمة قضية فلسطين ونصرة شعبها، إن ما يخدم المصلحة الوطنية المصرية، يخدم مباشرة المصلحة الوطنية الأعلى للشعب الفلسطيني، شريطة ان يكون الشعب المصري، وعبر ممثليه وقادته المنتخبين هو من “يقرر” و”يعرّف” هذه المصلحة، وليس حكام الفساد ونظام الاستبداد، الذي كاد يختزل مصر برمتها، بطموحات جمال وحسابات علاء مبارك.
فالتحية والاحترام لشباب التحرير وميدانه، الذين جعلوا هذه الخطوة ممكنة؟.
الدستور