أظهر أحدث استطلاعات رأي فلسطينية تراجعا كبيرا في شعبية الفصائل الفلسطينية لمصلحة القوى المستقلة.. وهذا ما جعلني أراجع وباختصار حكاية النظام الفلسطيني.
والمقصود بالنظام السياسي الفلسطيني، رسميا وشرعيا، هو نظام منظمة التحرير، هذا النظام الذي تأسس بقرار قمة عربية في منتصف الستينات من القرن الماضي، ونفذ عملية التأسيس المرحوم أحمد الشقيري، بالتعاون مع وجوه وشخصيات فلسطينية منتشرة في الوطن والشتات، وتولى الزعيم جمال عبد الناصر رعاية هذا النظام وتقديم ما استطاع تقديمه من دعم مادي ومعنوي له.
ولأن النظام الذي تأسس بقرار قمة عربية يمكن أن يتغير بقرار من ذات الجهة المؤسسة، إلا أن العرب اختاروا إبقاء النظام والاكتفاء بتغيير رئيسه، فكان قرار القمة الصريح بإقصاء الشقيري واختيار نائبه يحيى حمودة كرئيس مؤقت، ذلك بعد عاصفة يونيو (حزيران) 1967، وقبل أن تأتي عاصفة عرفات ليتسلم القيادة في عام 1968، ويدخل النظام السياسي الفلسطيني مرحلة جديدة يمكن تسميتها بمرحلة الفصائل، أو الثورة المسلحة.
قاد عرفات النظام السياسي الفلسطيني بكفاءة يُحسد عليها، إذ أدار توازنا صعبا بين الكثير من العناصر المتنافرة داخل الساحة الفلسطينية، مثلما أدار توازنا موازيا وشديد التعقيد بين امتدادات النظم العربية داخل الساحة الفلسطينية، معتمدا طريقة مميزة في الاحتواء وليس التبعية، وكي يحتفظ بالقرار في يده أو يد فصيله الأساسي (فتح)، فقد ضمن على الدوام أغلبية تصويت في القيادة العليا، وهي اللجنة التنفيذية، مدعومة بأغلبية مريحة في المجلس الوطني، وكان له في هذا الشأن سلاحان ماضيان وأساسيان؛ الأول حضور فتح القوي إلى درجة الاكتساح في الشارع والمؤسسات الشعبية والقوة العسكرية، والثاني المعسكر الرديف الذي سمي منذ بدايات عهد الفصائل بمعسكر المستقلين الذين اعتبرهم عرفات طيلة زمن قيادته الطويل للساحة خط الدفاع الثاني لما كان يحب تسميته بالقرار الفلسطيني المستقل.
كان عرفات الذي يدرك وبوعي صاف، معادلة الموزاييك الفلسطيني ودرجة التأثير الخارجي على ألوانه ومضامينه، قد نجح في إيجاد معادلة انسجام بين القوى التي تشكل النظام السياسي الذي يقف هو على رأسه وفي قلبه، فقد كان حريصا على بقاء الفصائل داخل منظمة التحرير حتى لو غالت في الاعتراض على قيادته، وبالغت في التعاون مع دول وقوى لا تنظر بعين الرضا لعرفات ومواقفه وسياساته، كان يمد الفصائل بالمال، حتى إنه أسس مطبعة كبيرة في بيروت لطباعة أدبياتها، بما في ذلك البيانات التي تنتقد سياساته، كان يفعل ذلك ليقين منه بأن الفصائل سواء كانت صغيرة أو كبيرة فهي من يعطي شرعية للكفاح المسلح الذي يشكل عصب قيادة عرفات للحالة الفلسطينية، وهي كذلك التي تلزم بشدة لاحتواء الاستقطابات العربية داخل الساحة، كان يقول: «في حضننا ولو أزعجونا أفضل من أحضان الآخرين ولو أرضونا!» وحين كانت الاستقطابات داخل الساحة الفلسطينية تصل إلى مرحلة الخطر، كان يعرف كيف ينحني للعاصفة ويمرر معادلته بسلام في نهاية المطاف.
ومع الزمن، صار النظام السياسي الفلسطيني نظام ياسر عرفات، لم يعد مجرد راع للنظام أو رأس له بل أضحى عرابه بالجملة والتفصيل، ونظرا لقوة نفوذه وتأثيره التفصيلي على الحالة الفلسطينية من كل جوانبها، فقد فرض على الآخرين حتمية التكيف مع طريقته في القيادة، حتى إن أبرز معارضيه، وهو الدكتور جورج حبش، أطلق مقولته الشهيرة والمتداولة حتى الآن: «نحن نختلف معك ولا نختلف عليك»، أما نايف حواتمة، توأم حبش وصاحب النكهة اليسارية الصريحة، فقد كان الحليف الأعمق لعرفات، خصوصا في الخيارات الكبرى، ومنها خيار السلطة الوطنية وحل الدولتين، إذ ولدت هذه الخيارات قبل عقود من الزمن، وليس هذه الأيام.
وبقدر ما شكلته قيادة عرفات لصيغة نظام الفصائل والمستقلين في منظمة التحرير من مصدر قوة، كانت تحمل أخطارا كامنة عليها، خصوصا حين يغيب عرفات عن المشهد، وليس غير الموت ما يغيبه.
نجح عرفات في كل أحقاب العمل السياسي والثوري الفلسطيني في الحفاظ على صيغة النظام السياسي، أي نظام منظمة التحرير، تجاوز بكفاءة مشهودة كل محاولات التمرد والانشقاق واستلاب الدور وزعزعة المكانة، حتى حين قرر المضي قدما في تجربة أوسلو الإشكالية، فقد نجح في تجنيد جميع الفصائل الفعالة لصالح الانخراط الواقعي والعمل في التجربة، دون أن يحرمهم حق معارضتها وانتقادها ولو من موقع وزير أو وكيل وزارة أو مدير عام، كان يقول إننا ساحة ديمقراطية ويحق لكل فصيل أو فرد أن يعبر عن رأيه وموقفه مهما كان موقعه، كان يقول ذلك وهو مطمئن إلى أن المعارضة وهي مدجنة داخل الإطار الرسمي تكف عن أن تكون خطرة!
دخل تطور جديد على نظام عرفات، وهو ولادة السلطة الوطنية من أحشاء صيغة منظمة التحرير، وعلى يد قابلة دولية هي الولايات المتحدة وأوروبا، وحدث ذلك التحول التاريخي الذي فرض حتمية الذهاب إلى الدولة من الممرات والبوابات الأميركية والغربية، وقبل ذلك كله الإسرائيلية، وصار صعبا على عرفات التحكم بالتوازن الضروري بين مكونات الساحة الفلسطينية ونظام منظمة التحرير، إلا أنه نجح في الحفاظ على الحدود الدنيا لهذا التوازن خصوصا حين دخلت حركة حماس إلى المشهد، من موقع المعارض لأوسلو، ثم من موقع جديد هو استخدام أوسلو والنفاذ من تعرجاتها إلى قمة الهرم الفلسطيني.
في حياة عرفات كانت حركة حماس تعظم نفوذها في الشارع الفلسطيني، دون أن تقترب علنا وبصورة مباشرة من قلب نظام عرفات، وليس صدفة أن تؤجل انقلابها على السلطة والنظام إلى ما بعد غيابه، فقد كانت الحركة الإسلامية أكثر من يدرك صعوبة إقصاء عرفات أو سحب البساط من تحت قدميه وهو على قيد الحياة.
أخيرا مات عرفات وغاب عن المشهد المباشر، وعلى مدى غيابه الطويل والباهظ دخل النظام السياسي الفلسطيني المسمى بنظام منظمة التحرير حالة من الانحدار والتآكل وتراجع النفوذ، وتمكنت حماس من تصفية وجود هذا النظام في غزة وتحجيمه عبر صناديق الاقتراع في الضفة، ومع الزمن، صار نظام منظمة التحرير مجرد شرعية متوارثة، إلا أنه في ساحة الفعل يكاد يكون غير موجود.
ولقد دفعت القضية الفلسطينية أثمانا باهظة لقاء تداعي نظام المنظمة، وصارت الحالة الفلسطينية التي كانت مؤثرا قويا ليس في الشأن الفلسطيني وحده وإنما في الشأن العربي والدولي، أشبه بورقة في مهب الريح، وحتى نفوذها المفترض في قضيتها لم يعد على الأقل مثلما كان في أوج سطوع المنظمة ونظامها القوي والفعال.
هذه باختصار حكاية النظام السياسي الفلسطيني، النظام الذي منحته الحيوية الكفاحية شرعيته ومصداقيته وقوة تأثيره، إلا أن غياب عرفات والاعتماد المطلق على الشرعية المتوارثة، ليس إلا، أوصله إلى ما هو فيه الآن، حيث لا أحد يستطيع القول، ولو بصوت هامس، إن منظمة التحرير عنصر فعال في أي اتجاه.