أدخلتنا “فتوى الرئيس عباس” بوجوب زيارة القدس والصلاة في المسجد الأقصى، في متاهة لم نكن بحاجة إليها أبداً…بل لقد وجدنا أنفسنا نحن المنقسمين أصلاً، ننقسم من جديد، حول جواز هذه الزيارات وجدواها، وما إذا كانت “طريقاً التفافياً” للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، أم شكلاً من أشكال “دعم صمود” الشعب الفلسطيني بعامة، والمقدسيين على نحو خاص.
مفتي مصر، كان في طليعة من استجاب لنداء الزيارة…هو قال بالطبع أنها ليست “تطبيعاً” مع العدو (لا أدري إن نطق بهذا الكلمة أم لا؟)، وأن الدعوة إليه وصلته من الأردن والسلطة وقطر (ولا أدري أيضاً، كيف اجتمعت كل هذه الأطراف في دعوة واحدة ولماذا كل هذا الحماس)….والرجل أدرج زيارته في سياق “أشواقه” الفوّارة لبيت المقدس وتطلعه الشَغِف لكسب الثواب المضاعف للصلاة في مسجدها الأقصى، حتى أنه صلى الظهر والعصر فيه، ولم يعمد إلى جمع الصلاتين طمعاً في الثواب المضاعف.
مفتي القدس وإمامها وخطيب مسجدها الأقصى وأحد أبرز وجوهها السياسية والوطنية والدينية الشيخ عكرمة صبري، أفتى بعدم جواز مثل هذه الزيارات، وعدّها تطبيعاً بيّناً مع الاحتلال، نافياً “القيمة العظيمة” لها في “دعم صمود” الشعب الفلسطيني، مفضلاً عليها، دعوة العرب للوفاء بالتزاماتها التي قطعوها على أنفسهم منذ قمة سرت 2010 بالأخص، ومن قبلها وبعدها…من دون أن يصل أي منها إلى بيت المقدس، ولو قرشٌ واحد.
كذلك فعلت مشيخة الأزهر، التي عقدت اجتماعاً خاصاً بحضور المفتي ووزير الأوقاف و”الإمام الأكبر” ولفيف من العلماء والمختصين…رأي الأزهر ذهب باتجاه عدم جواز مثل هذه الزيارات التطبيعية، وانتقاد قيام المفتي بزيارة القدس، ولم يأخذ بتفسيراته وحججه ومبرراته، لا القول بأن الدعوة لم تأته من جهة إسرائيلية، ولا ذريعة “عدم دمغ جواز سفره بخاتم إسرائيلي”، ولا حجة أن مرافقيه كانوا من الحرّاس الأردنيين للمسجد…كل هذه الحجج بدت للمشيخة واهية تماماً، فالمفتي لا يخلع لقبه ومكانته حين يدّعي أنه يقوم بزيارة شخصية…أما حكاية الدعوة وختم الجواز والحراس الأردنيين، فكلنا يعلم أن إسرائيل وحدها هي صاحبة الكلمة الفصل في كل ذلك، وهي من يقرر أن يختم أو لايختم، وأن تحرس أو لا تحرس، وأن تنمح أو تمنع.
ثم، كيف يمكن القبول بإتمام زيارة من الديار الإسلامية البعيدة لأولى القبلتين، فيما شيوخ القدس وخطباء الجمعة في الأقصى والشيخ عكرمة صبري، ومن قبلهم جميعاً، الشيخ رائد صلاح (خادم الحرم الثالث)، ممنوعون من دخول المدنية والصلاة في مسجدها أو الخطابة في مصليها…أليس من “البؤس” أن نثير الانطباع بتسامح إسرائيل وتساهلها مع رجال الدين الوافدين لمقدساتنا، فيما أهل هذه المقدسات وشيوخها وسدنتها، ممنوعون من دخولها والتبرك بقداستها، وممارسة أدوارهم التي نذروا أنفسهم للقيام بها؟..بل وفيما أهل القدس أنفسهم ممنوعون من الصلاة في مسجدها؟
لن نذهب بعيداً في “تسييس” الزيارة، لكنها زيارة سياسية بامتياز، وهذا ما دفع معلقين مصريين للقول بأن المفتي زار القدس بوصفه موفداً للمجلس العسكري وبقايا نظام مبارك…أو اتهام الأطراف الداعية، بأنها تلعب بورقة التطبيع من بوابة جانبية، كالزيارة والصلاة والاحتفالات الدينية والعلمائية، وهذا أمر لا يجوز بحال من الأحوال، إغفاله أو التقليل من شأنه أو القفز من فوقه…إنها زيارة تطبيعية بكل ما للكلمة من معانٍ…ولا أحد يستفيد منها سوى الاحتلال والاحتلال فقط……هكذا تُقرأ المسألة .
أما فلسطينياً، فالزيارة ومن قبلها “الفتوى الرئاسية” لا يمكن أن تكون بعيدة أبداً، عن استمرار الأوهام حول “خيار المفاوضات العبثية”، التي تتخذ الآن من “مفاوضات الرسائل المتبادلة” شكلاً جديداً لها…إنها “فتوى سياسية” بامتياز، تجزم بأن “الحبل السري” مع سجلّ طويل ومؤلم من الأوهام والرهانات الخاسرة والعجز عن اجتراح البدائل، لم ينقطع بعد.
ندعو السلطة والرئاسة إلى مراجعة موقفها من هذه المسألة الحساسة، فمن أراد أن يذهب في رحلات تطبيع مغطاة برداء “الورع الديني” فليذهب على نفقته ومسؤوليته السياسية والأخلاقية، ومن دون مظلة فلسطينية أو غطاء من أي نوع…أما الحجيج الذي تريده القدس ونريده للأقصى فيتجلى في تجديد مواسم التظاهر والانتفاض على بوابات المسجد وأسوار المدينة والحواجز الاحتلالية التي تقطع الطرق المفضية إليها…نريد حجيجاً باليافظات والحجارة، يشتبك في تظاهرات “البراء من الاحتلال” مع سلطات الاحتلال، لا زيارات برتوكولية بائسة ، تكرس الاحتلال وتجُمّله، بدل أن تفضحه وتسرع في رحيله وجلائه.
الدستور