مهمة الاحتجاجات في الشارع لا تنحصر فقط في انتزاع بعض المطالب، أو حتى بتحقيق الاصلاح، وانما – ايضا – باستعادة عافية المجتمع وحيويته التي افتقدها منذ عقود، وازالة حالة التكلس التي أصابت حياتنا السياسية وافقرتها، وانتاج جيل “قيادي” جديد يملأ ما نعانيه من فراغ على مستوى “النخب” وينشىء “طبقة” جديدة بمواصفات مختلفة، تعوّض ما ألفناه من طبقات سياسية نزلت “بالبرشوت” وولدت قطيعة مع المجتمع، لأنها – اصلا – لم تخرج من رحمه.
الاحتجاجات – بهذا المعنى – اصبحت ضرورة وطنية وسياسية، فقد كشفت على مدى عام ونصف ان مجتمعنا لديه من “الامكانيات” الذاتية ما يؤهله لادارة نفسه بنفسه، ومن “الحيوية” الفكرية والسياسية ما يجعله قادراً على تطوير خطابه ومواقفه، كما كشفت ان ادامة “الرقابة الشعبية” على الحكومات والمؤسسات كفيلة بالحد من تجاوزاتها، وبدفعها الى اعتبار واحترام “اصوات الناس” وحقوقهم بدل التعامل معهم بمنطق الاستهانة والاستعلاء كما كان يحدث في السابق.
لكي نفهم ما يحدث في بلادنا يفترض ان نحيط بمسألتين: احداهما ان هذه الاحتجاجات ليست “ثورة” وان هدفها هو “الاصلاح” الحقيقي في ظل وجود “رمز” النظام والحفاظ على شرعيته، ومعنى الاصلاح الحقيقي هو احداث تغييرات جوهرية تعبر عن وعي اجتماعي وسياسي يسعى لبناء دولة مدنية محصنة من العبث ومن الفساد ومن سوء الادارة ومن “الانتهازية” السياسية ايضا، واذا اتفقنا على ذلك فان استمرار الاحتجاجات – حتى في المرحلة الانتقالية – من شأنه ان ينتج حالة وطنية متماسكة، وهي ضرورية هنا لتجاوز “ورثة” ثقيلة من الانقسامات والتشرذمات ومن التقاليد المغشوشة التي ساهمت في اضعاف الدولة وفي اخراجها عن سكة السلامة “الوطنية”.
اما المسألة الثانية فتتعلق بضرورة استثمار هذه “الاحتجاجات” بدل اشهار العداء لها او الدخول في صراعات معها، وجدوى “الاستثمار” هنا يحتاج – اولا – الى فهم الارضية التي خرجت منها، والاهداف التي تسعى اليها، واللاعبين الجدد الذين يقفون في صفوفها، وبوسعنا ان نفعل ذلك اذا ما اتفقنا على ان هؤلاء الذين يخرجون الى الشارع هم اردنيون وليسوا مندسين، وان لهم حقوقا على المجتمع والدولة، وان اصواتهم تعبر عن “اغلبية” صامتة على الظلم لا على “الرضى” والاستسلام، وان بقاءهم في الشارع وامتناعهم عن الجلوس على “الطاولة” يعني ان ما قدمناه ليس كافياً.. أو ان ثقتهم بنا ما زالت ناقصة.
لهذا، اعتقد اننا – كدولة – مدينون بالاحترام لهذه الحراكات والاحتجاجات، ومن واجبنا ان نقرأ رسائلها بوضوح، وان نضعها في دائرة “خدمة” مشروعنا السياسي، وان نسعى الى “ترشيد” خطابها وتأطير حراكها، وادامة “وهجها” الشعبي، لانها – بالتالي – تصب في خدمة البلد، وتعبر – بسلمية وحضارية – عن افضل ما فيه، وتمنح المجتمع “قوة” للامل، وفرصة للتنفس وبوابة للتقدم نحو الأمام.
نخطىء – إذن – اذا “ابتهجنا” بالاشارات التي يجري تسويقها حول “اضعاف” الحراكات، او “بالسيناريوهات” التي نقدمها من اجل “اجهاضها” وتفتيتها، لانه لو حصل ذلك فسنكون امام “حالة” اجتماعية ملتبسة وقابلة للانفجار في أية لحظة، ويمكن “لألغامها” ان تفاجئنا دون مقدمات وفي وقت يصعب علينا فيه استيعابها او التعامل معها بمنطق السياسة او غيرها.
وحدهم، خصوم الاصلاح، من يدفع الى “اطفاء” الحراك او توجيهه نحو الصدام، ووحدهم من يبررون مواجهته “بالعصا” ويصوغون الانقلاب عليه، فإنهم لا يريدون ان يستعيد مجتمعنا “قوته” لمحاسبتهم، أو ان تغيَّر السياسة “الجلباب” الذي انضووا تحته منذ عقود، او ان تنشأ نخب جديدة “تطردهم” من “الملاذات” التي استحكموا فيها.
يبقى ان يفكر اخواننا الذين يتصدون لادارة الحراك بمضامين ووسائل جديدة تكفل لهم ابقاء “روح” الاحتجاجات متوجهة، وتقنع المجتمع بها، وتسحب من خصومهم “ذرائع” الصدام معهم، او العبث بأصواتهم، او العمل على تفتيت “حضورهم” وتشتيته.. تمهيداً لابتلاعه أو اشغاله بالدفاع عن نفسه أو تخويف الناس منه.
الدستور