الجزائرية في القاهرة أسجل كلمات العزاء في وفاة الزعيم الجزائري والعربي الراحل أحمد بن بيلا,
جالت بذاكرتي موجات متلاحقة من الخواطر عن ذكريات ذات طابع شخصي مع الزعيم الراحل بنفس القدر الذي مرت أمام مخيلتي صور متتالية عما جسده الراحل الكريم من مكانة وأهمية ودلالة في مختلف مراحل عمره وفترات تطوره الفكري والثوري والسياسي والاجتماعي, الوطني والقومي والأفريقي والإسلامي والعالم ثالثي والإنساني.
كانت الجزائر هي أول بلد أسافر إليه خارج مصر في طفولتي المبكرة عام1964 وكان وقتها الزعيم الراحل بن بيلا رئيسا للجزائر الجمهورية والثورية, بل أول رئيس لها بعد الاستقلال, ومر أكثر من عقدين كاملين علي هذا التاريخ قبل أن ألتقي الرئيس الراحل, ولكن هذه المرة في مدينة جنيف السويسرية حيث كنت أبدأ دراستي العليا في العلوم السياسية بينما كان أحمد بن بيلا منفيا هناك بعد الإفراج عنه في الجزائر عام1980 وقبل السماح له بالعودة إلي وطنه من جديد في تسعينيات القرن العشرين.
كنت ومجموعة من الشباب العربي من مختلف الجنسيات نسعي دائما لكي نلتقي في مقهي أحد الفنادق بجنيف مع الزعيم بن بيلا ومعه عدد من الزعماء العرب المنفيين خارج بلدانهم آنذاك أذكر منهم السيد عبد الرحمن اليوسفي الذي صار لاحقا رئيسا للوزراء في المغرب الشقيق. وكان الاستماع إلي الزعيم بن بيلا والتحاور معه يحقق متعة فكرية واشباعا ثقافيا ويولد إعجابا متزايدا بهذه الشخصية الفريدة بدرجة من الصعب أن توفيها الكلمات حقها من الوصف الكمي والنوعي. لم يكن الراحل بن بيلا مجرد ثائر ومناضل, بل ومقاتلا, من أجل تحرير بلاده من الاستعمار أو حتي مجرد واحد من أبرز قادة حرب تحرير شعبية صارت منذ ذلك الوقت مضرب الأمثال علي الصعيد العالمي, كما لم يكن مجرد رئيس دولة تعرض لانقلاب ضده بواسطة أحد رفاقه المقربين بعد ثلاث سنوات فقط من الاستقلال, كذلك لم يكن أول ولا آخر رئيس دولة يتعرض للاعتقال أو الإقامة الجبرية لسنوات بلغت الخمس عشرة في حالته, ولم يكن أيضا أحد القادة التاريخيين لحركة التحرر الأفريقي, بل كان قبل ذلك وبعده إنسانا علي درجة متقدمة من الوعي الفكري والسياسي والقدرة علي ممارسة النقد الذاتي بشجاعة أدبية نادرة, وبالتالي كان صاحب إسهام فكري يتسم بالجدة والأصالة والعمق في آن واحد في تطوير الفكر الحضاري والسياسي العروبي والإسلامي, بل والإنساني.
لقد أحسن الرئيس الراحل بن بيلا توظيف سنوات الإقامة الجبرية في عدد من الأمور الإيجابية بدلا من أن يترك نفسه لليأس أو أن يكتفي بأن يدين من انقلبوا عليه أو وضعوه رهن الإقامة الجبرية. فمن جهة, أعاد قراءة واكتشاف الدين الإسلامي بحيث تعرف بشكل أكثر عمقا علي الدور والمضمون الحضاري لهذا الدين وادرك أبعادا جديدة تحريرية وتقدمية له لم تكن واضحة لديه من قبل حيث كان بعض معارضيه خلال فترة رئاسته للجزائر يرفعون رايات دينية بغرض تبرير مواقف سياسية بعينها. وبالتالي, فعندما خرج من إقامته الجبرية كان من رواد من بلوروا الطرح الذي بات يعرف باسم الإسلام الحضاري.
أما الوجه الثاني الذي أتاحت له سنوات الإقامة الجبرية فرصة المراجعة له فكان التوصل للقناعة بأن الديمقراطية التعددية هي الصيغة الأفضل ضمن ما هو مطروح علي الساحة العالمية لتوفير حقوق المواطنين وضمان تمتعهم بحريتهم, وذلك خلافا لما كان يسير عليه بن بيلا بالجزائر عندما كان رئيسا للجمهورية, وما كان شائعا في العالم الثالث بأسره حينذاك, من قناعة بأن فترة التحرر الوطني وبناء التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية يتطلب نظاما سياسيا يقوم علي أساس الحزب الواحد.
والأمر الثالث الذي استفاد في مجاله الرئيس الراحل بن بيلا من سنوات الإقامة الجبرية هو دراسة اللغة العربية والعمل علي إتقانها, حيث كان رحمه الله, مثله في ذلك مثل الكثير من الجزائريين, يعانون من آثار حملة الفرنسية التي سعت سلطات الاحتلال لفرضها علي الشعب الجزائري في محاولة لمحو هويته وثقافته العربية, وعندما حصل حريته رحمه الله كانت لغته العربية أفضل كثيرا من وقت تعرضه للإقامة الجبرية.
أما الأمر الرابع والأخير الذي سنذكره هنا في إطار الاستفادة القصوي للزعيم الراحل بن بيلا من سنوات الإقامة الجبرية فكان الاطلاع بشكل مستمر ومتعمق ليس فقط علي أحوال الجزائر أو حتي الدول العربية والأفريقية والإسلامية, بل أيضا علي تطورات العلاقات الدولية ذاتها, وفي الوقت ذاته دراسة مختلف المعارف المرتبطةبأوضاع المجتمعات الإنسانية من علم الاجتماع إلي الفلسفة إلي غير ذلك ما وسع من منظور رؤيته للأمور.
وكان لمصر مكانة خاصة دائما لدي الزعيم الراحل,ليس فقط نتيجة العلاقة العضوية غير القابلة للانفصام بين الثورتين المصرية والجزائرية ولا حتي بسبب العلاقة الحميمة التي ربطت بين الزعيمين الراحلين عبدالناصر وبن بيلا, ولكن لأنه كان يعتبر مصر وطنا له مثلها مثل الجزائر, ولذا كان من أوائل الأمورالتي حرص عليها بعد خروجه من الإقامة الجبرية أن يختار سكنا له في مصر وأن يكون هذا السكن في جوار رفيقي نضال قديمين له من مصر كان لهما دورهما في دعم مسيرة الثورة الجزائرية هما الراحل فتحي الديب والسيد محمد فائق. وعندما كنت رئيسا لجمعية المصريين في سويسرا في النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي كان الرئيس الراحل بن بيلا حريصا دائما علي تلبية كافة الدعوات لحضور فعاليات وأنشطة الجمعية مبرزا دائما أمام السويسريين والمصريين والعرب علي حد سواء مدي حبه لمصر واعتزازه بها.أحمد بن بيلا.. وحديث ذو شجون