حين طرح وزير الخارجية التركي الحالي احمد داود أوغلو اطروحته في تصفير المشاكل في السياسات التركية الخارجية وبناء علاقات دبلوماسية متطورة مع العالم، وخاصة مع بلدان شرق وجنوب تركيا، ولاسيما العالمان العربي والإسلامي، استبشر المراقبون والمحللون السياسيون لمثل هذه التوجهات وقيموها بايجابية عالية، وقدرت بضوء تطورات استراتيجية جديدة أعطتها دلالات مهمة في الاستراتيجية التركية في المنطقة، لاسيما بعد اندحار العسكرية الاميركية في العراق وأفغانستان وتراجع التهديدات الغربية للمنطقة عسكريا، ولكن مع إصرار على إبعاد تركيا عن طلب الانتساب الى النادي الاوروبي، الذي انشغل فيه حزب العدالة والتنمية بعد تسلمه الحكم. ونجح الوزير التركي شخصيا في تمرير سياسته العلنية هذه واستقبلت بمقابلها في عقد معاهدات استراتيجية وتبادل زيارات على مستويات عالية وتحسنت العلاقات بين تركيا والعديد من الدول العربية والإسلامية كثيرا، وباتت تركيا موضع ثقة لدى الكثير من أصحاب القرار السياسي في المنطقة، وأعطيت لها مكانة ودور واضحان في مختلف الأصعدة والمستويات. وأصبحت القيادة التركية بترويكتها المعروفة، رئيس الحكومة رجب الطيب اردوغان ورئيس الجمهورية عبد الله جول ووزير الخارجية الحالي، قريبة من القيادات الرسمية العربية والإسلامية وتطورت العلاقات بينها وبين العالمين العربي والاسلامي درجات لم تخطر ببال احد. ولكن لاحظ كثير من المراقبين السياسيين انقلابا خطيرا حصل في السياسات التركية بعد اندلاع الانتفاضات والثورات الشعبية العربية، واستمرار رفض الدول الأوروبية الرئيسية لقبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.
تاريخيا، هناك احداث مشابهة لما يحصل حاليا. حيث سجل للدولة العثمانية ترك الغرب والانسحاب من مواجهته والتوجه الى الشرق والتوسع في احتلال البلدان العربية وشن الحروب مع إيران، وصناعة أساطير الصراعات العثمانية الصفوية تحت شعارات حماية المسلمين والإسلام التي ادعى رجال السلطنة العثمانية تبنيهم لها. ويبدو أن تلك الصفحات السوداء من التاريخ الاسلامي والحروب والكوارث الدموية يراد لها أن تعود او تتكرر الآن، بلافتات وواجهات ليست بعيدة كثيرا عن تلك التسميات والذرائع، وإن اختلفت الأزمان والأسماء. وما يقال من الأمثال عن تكرار حوادث التاريخ وصفاتها. فمن يتابع تصريحات الترويكا التركية الحاكمة في الكثير من المحافل والمناسبات يجد اشارات كثيرة لمثل تلك الأحداث والمسميات، حتى ان بعض المعلقين السياسيين الأوروبيين نعتوا بعض خطب وزير الخارجية التركي الحالي اثناء لقاءات اوروبية بالخطب العثمانية. وكثير من تصريحات رئيس الوزراء التركي اردوغان لا تخلو من عنجهيات امبراطورية خالية من اسسها الواقعية، وتذكر بالألفاظ الرنانة لزمن السيف العثماني وانكشارية الامبراطورية. ولكنها، في الواقع، محسوبة ومراهنة على خدمة مخططات أكبر منها، وتتداخل مع مصالح اخرى لأمبراطوريات تريد فرض هيمنتها هي الأخرى على المنطقة، مستغلة غيرها او دافعة بالنيابة عنها.
يبدو ان عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي/ الناتو تؤثر عليها وتضعها في اطار مخططاته العدوانية، وتلجم رغباتها التي تحاول ان تعبر عنها خارجه او في تناوب معه بحدود الاستفادة والتخادم المشترك. فمواقفها حول القضية الفلسطينية وتسييرها لسفينة مرمرة وما حصل لها استثمرتها بشكل جيد في وقتها وانتهت عنده رغم صفعات متتالية جرتها عليها ودفعتها الى ابتلاع التصريحات النارية التي أطلقتها حولها وكذلك هو الوضع في اكثر من مكان اخر. وتأتي بالتوالي معها القضايا الأخرى وحقوق الانسان التي تتباكى عليها الادارات الغربية خصوصا وتنكرها دائما في التطبيقات الواقعية لها او في تعرضها لانتهاكات صارخة من قبلها او من حلفائها.
تأتي قضية ايران النووية والعلاقات معها اشارة اخرى لتهافت السياسات التركية في احابيل المشاريع الغربية والأميركية خصوصا وخدمتها. واعتبارها سبيلا للضغوط الاخرى على ايران وتمرير سياسات اخرى تحمل من صفحات التاريخ ظلالا وتشجعها للعب دور فيها بدعم واسع من اطراف عربية وإسلامية تدور معها في دائرة التخادم والتعاون المشترك مع المخططات والمشاريع الاميركية في المنطقة.
هل تخلو التغيرات في السياسات التركية من حسابات عثمانية؟ ولماذا تشدد الترويكا الحاكمة من لهجتها وخطابها السياسي ضد بعض الدول العربية والإسلامية؟. لا يشك المراقب انها تعرف توجهاتها ومساراتها التي تصب في خدمة مصالح غربية بحتة ولا تخدم اهدافها التي ابتدأت بها سياساتها عند تسلمها الحكم وادعاءاتها الانفتاح على العالم الاسلامي وقيامها بتصرفات يبدو منها انها استفادت من خبرتها وعلاقاتها مع الغرب وتوجهت فعلا نحو الشرق والعالم العربي بشكل خاص للتعويض عما فاتها من طموحاتها الأوروبية. إلا انها وهي تمارس مثل هذه السياسات فهي تواجه ما يضعها امام خسارة جبهات كثيرة كانت على تصالح معها وعلى مختلف الاصعدة، وكذلك على انحسار تأثيراتها الناعمة واستفادتها من علاقاتها الإقليمية في رسم خارطة جديدة للمنطقة وأدوارها استراتيجية.
تركيا تمر بفترة اختبار واقعية لمسارات تغييرات سياساتها وإذا لم تع ما تقوم به وما تؤول اليه فإنها تنهي بنفسها نموذجها السياسي الذي بنته وادعت قبوله غربيا وإمكانية تسويقه إقليميا وخصوصا عربيا. ولا يخفى ان مسارات سياساتها الحالية لا تقود الى ذلك ولا يمكن الاعتماد عليها في اعادة النظر والمراجعة النقدية وتجاوز انقلابها على سياساتها ونظريتها، التي حاولت من خلالها عودتها الى الشرق بقبول ورضا شعبي ورسمي مشترك. اية حسابات عثمانية جديدة لن تصب في خدمة الامن والسلام والاستقرار والتنمية في تركيا اولا والمنطقة ثانيا والعلاقات الدولية اخيرا لا يكتب لها النجاح. ولعل تجربتها مع عضوية الاتحاد الاوروبي تعطيها دروسا كافية لتفهم دورها ومكانها الواقعي وضرورة التفكير والعمل الصادق لصالح الشعوب وخدمة اراداتها ومصالحها جميعا في منطقة استراتيجية عالميا وقادرة على التأثير في النظام الدولي لا الانجرار وراء أوهام امبراطورية غابت الشمس عنها طويلا وابتعد زمانها في ظل المتغيرات الكبيرة والتحولات التاريخية الحاصلة في العالم وعلى مختلف المستويات.