بعد سنة ونيف من المراهنات المتعددة الاتجاهات والمتفاوتة السقوف والمتقاطعة عند حلم «إسقاط النظام السوري وحلم إقامة نظام عميل للغرب، بعد هذه السنة من الأحلام والأوهام وتوسل الإرهاب ضد سورية، شعباً وحكماً وبنى تحتية، أصدر مجلس الأمن بياناً (صدر بيان رئاسي آخر قبل أيام يحدد موعداً لتطبيق مبادرة أنان) يشكل الموقف الدولي الإجماعي الأول من الأزمة السورية، جاء على وهن طبيعته القانونية التي تجعله أقرب إلى التمنيات والرغبات بعيداً عن القرارات الملزمة، على الرغم من كل ذلك فإن للبيان بنصه وروحه دلالات هامة تستوحى منه أولاً، وتعزز أكثر إذا عطفناها على سلسلة المواقف الغربية وتحديداً الأمريكية التي صدرت خلال الشهر الأخير الذي سبق البيان، وجاءت على لسان كل من أوباما وكلينتون وفليتمان، مواقف وبيان ومسار غربي تراجعي يدل على التالي:
1ـ إقرار دولي بأن في سورية جماعات مسلحة تنتهك النظام والأمن العام، ولا يوجد هناك ما سمي «ثورة» أو «ربيعاً»، إنما توجد أعمال عنف وأن على هذه الجماعات أن توقف أعمالها، في الوقت الذي يبقى فيه حمل السلاح وضبط الأمن مسؤولية الدولة، ويترتب على هذا الإقرار وبشكل ضمني رفض المواقف الأجنبية، من عرب وترك وغرب، التي دعت إلى تسليح المعارضة والتدخل العسكري الأجنبي، كما ورفض الإعلام التحريضي ضد الدولة ورفض كل عمل خارج الإطار السياسي لمعالجة الأزمة السورية، وهو أمر يمكن أن يشكل بداية توافق دولي على حل الأزمة السورية حلاً يقوده الحكم في سورية ويدعم من الخارج، كما طرحت سورية في الأصل.
2ـ إن أمريكا استوعبت مؤخراً أن اعتماد سياسة القوة (الصلبة أو الناعمة) في مواجهة خصومها، أو ما كانت تسميه محور الشر، هي سياسة عقيمة لن تقود إلى نتائج تتوخاها إيجابياً، لا بل إن هذه السياسة خاصة في الأزمة السورية أدت إلى خسارة استراتيجية أمريكية بحجم الكارثة، تمثلت في إعادة روسيا والصين إلى المسرح الدولي بصفتهما قطبين رئيسيين فاعلين، وعليها أن تتوقف عنها حتى لا تتفاقم الخسارة بعد أن باتت على يقين بأن الأزمة السورية أفلتت من يدها وأن حلها لن يكون على ما تشتهيه بمفردها.
3ـ إن مجلس الأمن خرج من القبضة الأمريكية وحكم بتوازن دولي تملي فيه روسيا والصين إرادتهما بحيث لا يمر إلا ما يوافقان عليه بإرادة ترعى مصالحهما من غير قهر أو ضغط، وإن الغرب بات يعلم هذه الحقيقة فتراجع رهانه على مجلس الأمن بعد أن كان يراه أداة تنفيذ للسياسة الاستعمارية الغربية.
4ـ إن جبهة العدوان على سورية والتي كانت تريد من مجلس الأمن قراراً يكرر التجربة الليبية وكانت تحدد الموعد تلو الموعد لإسقاط النظام، اصطدمت بصخرة الحقيقة السورية، والواقع العالمي المتشكل من الرحم السوري، فتكسرت أحلامها وانخفض سقفها وقبلت أو لهثت حتى تستحصل على بيان رئاسي (لا قوة إلزامية ولا آلية تنفيذية له)، ورغم أنه يشكل بذاته نصراً لسورية فإن تلك الجبهة بدت فرحة بهذا الإنجاز الذي يشبه إنجاز التاجر المفلس الذي وجد قرشاً في جيبه لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يدفع عنه واقع الإفلاس، لا بل إن مجلس الأمن بعد هذا البيان وهذا الإقرار بوجود جماعات مسلحة خارج القانون لا يستطيع أن ينتقد الحكومة السورية على لجوئها للقوة من أجل ضبط الأمن.
5ـ أما الأتباع والأدوات التنفيذية للمؤامرة من أعراب وأتراك فلن يجدوا بعد هذا البيان من يصدقهم أو يصغي إليهم ويعتقد بقدرتهم على التأثير الجذري في الساحة السورية، وقد لا يكون لديهم من عمل مستقبلي إلا السير في أحد خطين.
أ- خط عقلاني – أخلاقي وهو ما لم يعتمدوه حتى الآن في سورية ويتمثل بالبحث عن سبل التراجع عن الخطأ وترميم الجسور التي هدموها في المنطقة والتخلي عن التحريض وتمويل الإرهاب.
ب- أو خط أحمق- إجرامي وهو ما ساروا عليه حتى الآن وتسببوا عبره بالمآسي لسورية ولأنفسهم بالخسارة.
ولأننا لا نراهن على عقلانيتهم وأخلاقيتهم فإننا نخشى من استمرار حالات الإرهاب التي يدعمونها في سورية لفترة معينة.
6ـ اضطرار أمريكا للعودة للمراهنة على لبنان لنصرة السياسة الأمريكية وتعويضها عما خسرته في لبنان الذي تعلم أمريكا واقعه وتعلم خريطته الديمغرافية والسياسية وتعلم أنه لن يكون مستجيباً لنصحها ولا محققاً لرهانها، لكن رهان أمريكا هذا يعبر عن مدى الإفلاس الأمريكي بعد سلسلة الإخفاقات التي منيت بها السياسة الأمريكية والتي كانت أقساها هزيمتها في سورية ومن أجل ذلك نراها استبقت بيان مجلس الأمن بمواقف لها دلالاتها هي الأخرى كما يلي:
أ- إن حديث أمريكا عن التخلص من بقايا الاحتلال السوري في لبنان -كما جاء على لسان فيلتمان- يعبر عن اختزان في العقل الأمريكي الباطن بأن النيل من النظام السوري ومن رأس النظام ومن موقع سورية الاستراتيجي، بات حلماً من الماضي، لذا يكون من الأفضل لديها أن تتحدث عن وسائل تقليص نفوذ النظام السوري خارج سورية، ولذا فهي تطلب من جماعاتها الانقلابية التي استثمرت في لبنان بعد 2005. للتهيؤ للمستقبل وانتظار انتخابات 2013 في لبنان لإعادة سيطرتها، ولهذا عادت أمريكا وبعد بيان مجلس الأمن فبلعت مواقفها السابقة التي أسقطت بوقاحة شرعية الرئيس بشار الأسد، عادت إلى مخاطبته باعتباره الرئيس الشرعي لسورية لتبلغه «بأنها تنتظر منه تطبيق بيان مجلس الأمن».
ب- إن تحديد فيلتمان لانتخابات 2013 موعداً للتغيير في لبنان، هو نوع من إعطاء المهل وطمأنة الفريق اللبناني المسير أمريكياً، بأنه لم يستغنِ عنه بعد، وأن هناك رهاناً أمريكياً جديداً عليه لتقديم الخدمات للغرب، وهي بهذا الموقف تحاول تحشيده ومنع تفاقم الانهيارات في صفوفه، مع منحه أوسمة مزيفة أو نسبة انتصارات وإنجازات وهمية له يكون من شأنها رفع المعنويات لديه من قبيل اعتبار «جماعات 14 آذار» و«ثورتها المزعومة» أساساً في تفجير الثورات العربية قافزة فوق حقيقة أكيدة بأنه لم يكن في لبنان ثورة بل كان هناك انقلاب عطل الدستور وأقام حكماً خارجه لمدة 3 سنوات على الأقل، وكذلك لا يوجد في سورية ثورة خاصة بعد أن انقلب الحراك الشعبي الإصلاحي إلى حركة إرهابية من أجل مصادرة الإرادة الشعبية وتسليط فئة من الذين عينتهم المخابرات الأمريكية حكاماً على البلاد، ومتناسية أيضاً أن العقلاء يعلمون بأن أمريكا لا تدعم ثورات الشعوب بل تعمل على إجهاضها ومحاصرتها كما هو حالها مع الثورة الإسلامية في إيران أو مع ثورة البحرين الإصلاحية، أو تعمل على مصادرتها وتحويرها إن فاجأتها، كما هي المحاولات مع حالتي تونس ومصر، نعم إن أمريكا لا تدعم إلا الحركات الانقلابية التي تتوسل التزوير والتلفيق والخداع أو القوة والإرهاب والبطش من أجل مصادرة إرادة الشعوب.
ارتكازاً على كل ما تقدم فإننا وبكل بساطة نستطيع أن نقول إن الأزمة السورية التي بدأت في آذار الماضي 2011، بدأت نهاياتها بنهاية لم ولن تكن لتحصل إلا بصمود وثبات سورية ومحورها الإقليمي والجبهة الدولية التي شكلت على إيقاعها ويبقى على الخاسرين أن يتدبروا أمر خسارتهم.