تكتب الدكتورة عايدة النجار، كتاباً رائعاً، عن القدس، والكتاب يأتي تحت اسم «القدس والبنت الشلبية» وفيه مروياتها وحكاياتها حول القدس وقراها وطبيعة حياة الناس وعائلاتها وطقوس من فيها.
الكتاب ممتع، واذ تقرأ الكتاب تأخذك كاتبته الى مدينة القدس، البلدة القديمة، المسجد الاقصى، كنيسة القيامة، عادات عائلات المدينة وقراها، مدارس المدينة، والتجارة، وما يفعله الناس في الاعياد والمناسبات، حتى كأنك تعيش في القدس، في فترة المرويات.
الكتاب يستحق القرءاة، فهو وصف يثير الشغف والشوق الى ام المدن، خصوصاً، ان المرويات حافلة بتفاصيل ترسم لك مشهد المدينة وقراها واهلها، وتستعمل الدكتورة عايدة النجار ارشيفاً من الصور، يرسم لك ايضا ذاكرة المكان والانسان.
الكتب التي صدرت عن القدس كثيرة، لكن اغلبها اما تاريخي او سياسي، وميزة هذا الكتاب، انه ذاكرة انسانية اجتماعية ترسم المكان دون ان تعزل الشخوص والاسماء وممارسات الناس في حياتهم، فتأخذك حتى الى اسماء المدارس الشهيرة مثل الرشيدية.
مدرسة الرشيدية بحد ذاتها قصة كبيرة يعرفها المقدسيون، وقد درس والدي الصيدلاني فيها لثلاث سنوات، وتخرجت منها اجيال كثيرة، وكانت مفتوحة للطلبة من خارج القدس، ومن بعض الدول العربية.
تزخرف د. النجار كتابها بتفاصيل لا يتقن روايتها اي شخص، خصوصاً، اغاني الاعياد، تفاصيل الثوب الفلاحي، العاب الاطفال، وما يفعلونه في البلدة القديمة، وفي القرى خلال مناسبات كثيرة.
تذكرنا ايضا بتلك العلاقات الطبيعية التي نشأت في مدينة دينية معروفة، بين المسلمين والمسيحيين، علاقات قامت على الشراكة في مجتمع لم يعرف التمييز، ولا عقلية الاكثرية والاقلية، بل الانتماء الى مدينة مقدسة، اذاب الفروقات وصهرها تحت سقف مدينة سماوية.
ترسم المؤلفة بمهارة حياة المقدسيات ومن عشن في المدينة، وتربط المدينة بالمرأة في طفولتها ومراحل عمرها، ومن هناك ترسم مشهداً حياً ناطقاً لكل الحياة الاجتماعية في القدس، في توظيف وطني وسياسي يؤكد هوية المدينة وقصة حياتها.
هي قصة «ام المدن» التي تستحق من اكثرنا وقفة عملية، لان كتاباً كهذا يحفظ روح المكان، وذاكرته، ولا يتركها نهباً للزمن، ولا عرضة للتغييرات او التزييف، او احلال ذاكرة اخرى، محل ذاكرتها الاصلية.
وكأن القدس في كتابها، تحكي بنفسها عن حالها، بنرجسية تستحقها، نرجسية محرمة على كثيرين، لكنها في قصة القدس، تبقى حقا مشروعا لمدينة، ليست كالمدن، مدينة لا تموت، ولكل حجر من حجاراتها روح وذاكرة وقلب وحكاية وتوقيع.
لم تبك د. عايدة النجار على القدس، بل ذهبت الى ورقها واقلامها، وقالت للقدس، ان الدفاع عنها يكون بانعاش ذاكرة الناس، وبالتذكير بمدينة لا تنسى، وعلى هذا يقال للزميلة الفاضلة شكرا لك في زمن غابت فيها الذاكرة الجمعية عن كل شيء.
«القدس والبنت الشلبية» اكثر من كتاب، وأعظم من شهادة.