انعقدت القمة العربية، وأعلنت قراراتها، وانتهى الأمر عند هذا الحد، فما من تطورات عملية مقررة لوضع القرارات موضع التنفيذ. وعندما تطرح هذه المسألة، يتبادر إلى الذهن فورا العمل العسكري المقاوم للاحتلال الإسرائيلي، بل ويتبادر إلى الذهن أكثر، موضوع المواجهة العربية – الإسرائيلية المسلحة.
وهذه القضايا التي تطرح نفسها عند كل حديث عن المواجهة العربية – الإسرائيلية، تشير دوما إلى السلاح والحروب، ولكننا بتنا في المنطقة العربية شديدي التواضع عند مناقشة هذا الموضوع الشائك. والتواضع هنا يبدي الاستعداد للاكتفاء بإبداء «الغضب»، بعيدا عن الحروب والسلاح. نعم.. الغضب، نريد موقفا عربيا غاضبا، وليس موقفا مصاغا بالكلمات الدبلوماسية مهما كانت تلك الكلمات قوية وقاسية.
نريد غضبا عربيا.. ونريد تكشيرة عربية. ونريد تكشيرة تبقى ولا تزول في لحظات، لكي يعرف الجميع أن العرب غاضبون، وأن غضبهم هذه المرة أمر جدي. وما دام أمرا جديا فلا بد من مواجهته في منتصف الطريق على الأقل. أما التهديد بالغضب، وبما هو أكثر من الغضب، ومن النوع الذي ينتهي بعد أيام أو أسابيع، فقد بات لا يجدي شيئا، وتعوّد الخصوم عليه، حتى إنهم يتعاملون معه بـ«حنية»، منتظرين اللحظة التي ينتهي فيها مفعول الغضب ويتلاشى.
ليس مهما أن نغضب ثم نرضى. المهم أن نكشر ثم تبقى التكشيرة مرسومة على الوجه كموقف سياسي دائم، ليصبح علامة فارقة من علامات الصراع السياسي في المنطقة، ومع الخصوم الأساسيين في المنطقة؛ أميركا وإسرائيل.
والتكشيرة الدائمة في السياسة، يحسب الخصم لها ألف حساب، لأن التكشيرة الدائمة تعني التصميم على فعل شيء ما. قد يبدأ صغيرا، ولكنه يكون دائما موجودا، وهو ينمو ويتطور من خلال وجوده.
الشعوب لا تذهب إلى الحرب فجأة، ولا تعود منها فجأة، والحرب لا تحدث يوميا ولا شهريا ولا حتى سنويا. الحرب تقع في سنوات متباعدة، وأحيانا لأيام قليلة فقط. وما يحدث بين التكشيرة ويوم الحرب هو الأمر المهم، إذ يعرف الخصم أن الاستعداد للمواجهة قائم ومتصل، وأن حقوق الطرف الآخر لم تُنسَ، وهي باقية لتذكر من يحتاج لتذكير أن يفعل ما يتوجب عليه فعله.
أما الذين يتعاملون مع التكشيرة على أنها أمر طارئ، فقد يخطئون بحق أنفسهم وبحق الآخرين، فلا يقومون بما يتوجب عليهم تجاه أنفسهم أو تجاه الآخرين.
والتكشيرة قد تكون تعبيرا في الوجه، وهو أبسط أنواع التكشير، وقد تكون أيضا خطة عمل قصيرة أو مديدة، وهنا تصبح شيئا جديا، يسمى أحيانا سياسة، ويسمى أحيانا تخطيطا، وقد يسمى في أحيان أخرى مواجهات وصدامات.
التكشيرة أمر يخص الأفراد، أما حين تتطور التكشيرة إلى سياسة فإنها تصبح حينذاك أمرا يخص الأحزاب والدول والجيوش، وهو ما لا يجب الوصول إليه. وهو أيضا المسؤولية التي يتحملها الحاكم أي حاكم، لكي لا يصل ببلده إلى تلك اللحظة، ويكون قادرا على مواجهتها.
الصراع العربي – الإسرائيلي مثلا، الذي هو الصراع الأساسي في المنطقة، هو عبارة عن تكشيرة دائمة، تكشيرة عربية وتكشيرة إسرائيلية، وهي تكشيرة تنفجر أحيانا في حروب دامية، ولذلك فإن على من يعلن تكشيرته أن يكون في مستوى المسؤولية استعدادا لمواجهة نتائجها، أما أن تقتصر التكشيرة على المزاج، أو على الغضب، فهذا هو الخطأ الفادح.
وأحيانا يقتضي الموقف أن نزيل التكشيرة عن الوجه، شرط أن لا ننسى أن التكشيرة لها أسبابها الموضوعية، وما لم تتلاشَ هذه الأسباب الموضوعية، فإن التكشيرة أيضا ستبقى كامنة كحاجة سياسية.
ويجب أن لا ننسى أن التكشيرة أيضا أمر يخص الخصم، وهو ما يجب أن نراقبه باستمرار، لأن السياسة ليست فعلا فقط، بل هي فعل ورد فعل. فتكشيرتنا تتحرك لتضرب باتجاه الخصم، وتكشيرة الخصم تتحرك لتضرب باتجاهنا، وهذا فعل إرادات تتواجه.
يحدث أحيانا في التاريخ أن يكشر الحاكم (عن أنيابه) كرد فعل غاضب، ولكن خصم الحاكم قد يرى التكشيرة أكثر من ذلك، ويرد عليها بما هو أكثر من ذلك، وهذا ما يسمونه الخطأ في الحسابات، حيث ينجر الحاكم إلى حروب لا يريدها، ولم يحسب لها حسابها. وهذا هو الفارق الدقيق بين حاكم وحاكم، بين حاكم يجيد الحساب، وحاكم يستخف بالحساب فيغرق في الأخطاء.
ولذلك، فإن ما نحتاجه في المنطقة، هو الابتسامة التي تعلو وجه الحاكم بينما هو يضع الخطط. الحاكم الذي يجيد الضحك بينما هو يعد العدة للعمل السياسي، أو للعمل الاقتصادي، أو للعمل العسكري. ليس من أجل الخديعة، بل من أجل أن يصبح التخطيط الدائم، والتفكير الدائم في المستقبل هو الحياة نفسها.
أحيانا.. أقدم حكام على الزج بشعوبهم في حروب قاسية غضبا من أمور كان من الممكن أن تُحل بشيء من الدبلوماسية.
إن الذهاب إلى الحروب دليل على الشجاعة، ولكن القدرة على تجنب الحروب هي أبلغ دليل على الدهاء والحنكة والحكمة. وهناك في التاريخ قادة شجعان كثر، ولكن أصحاب الدهاء والحكمة يعدون على أصابع اليد. ومن مسؤولية الحاكم أن يقرر الصورة التي يريدها لنفسه أمام التاريخ، هل يريد صورته كشجاع، أم يريد صورته كقائد محنك وحكيم؟
ثمة جنرال روسي شهير، حشد جيوشه لمواجهة جيوش هتلر، ولكنه أمضى جل وقته بعد ذلك وهو يصلي من أجل أن يأتي «الجنرال شتاء» سريعا في ذلك العام، حتى يغرق خصمه الذي يعد لمواجهته بأهوال ثلج «الجنرال شتاء»، فيهزمه البرد، ويتخلص هو وجيشه وشعبه من عبء المعركة، وقد وصل هذا الجنرال فعلا إلى النتيجة التي يريدها، فظل يماطل ويماطل إلى أن اضطر خصمه لأن يخوض المعركة مع «الجنرال شتاء»، ونأى هو بنفسه عن أهوال المعارك.
إن هذه الإشارات الرمزية، موجودة يوميا في خضم الصراع العربي – الإسرائيلي، ولذلك فإن التعامل معها بوعي ودقة أمر مطلوب.