استشري, لشديد الأسف, تحت الحكم التسلطي الفاسد, تدخل السلطة التنفيذية في القضاء ولنأخذ المثال الذي شغل المجتمع المصري مؤخرا, أي قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني.
بداية يتعين ملاحظة أن من أثار المسألة إبتداء كانوا أعضاء من السلطة التنفيذية, تحديدا من المجلس الأعلي للقوات المسلحة, وبعض وزراء حكومته الذين كانوا متنفذين في ظل الحكم التسلطي الساقط, وواحدة منهم كانت صاحبة المسئولية المباشرة عن التمويل الأجنبي الذي يدخل مصر والمنظمات الأجنبية العاملة بمقتضاه, وظلت المنظمات التي جري إتهامها فيما بعد تتلقي تمويلا من الخارج وتعمل من دون أي مساءلة لسنوات طوال, وأحيانا مستفيدة من غطاء رسمي, كما أقرت السيدة الوزيرة ذاتها بعد تفجر الفضيحة. وهكذا لم يبدأ الاتهام من دوائر الأمن التي يفترض فيها السهر علي الأمن الوطني, وهي إما جهلت أن هذه المنظمات كانت تقوم بنشاط غير مرغوب لسنوات طويلة وهي مصيبة, أو تجاهلت الأمر عمدا, وهي مصيبة أكبر. هذا علي حين دأبت الجهات ذاتها علي أن تهرول إلي اتهام النشطاء المناصرين للثورة الشعبية, خاصة الشباب, وخصوصا البنات منهم, وترويعهم باستمرار. كما لم يأت الإتهام من مكتب النائب العام المفترض فيه أن يكون محامي الشعب الحريص علي الذود عن الصالح العام للأمة.
إلا أن القضية أوكلت في النهاية إلي قاضيين للتحقيق, وهو المسار السليم. ولكن السلطة التنفيذية, وأبواقها الإعلامية, لم تكل من النفخ في نار تحويل الأمر إلي مسألة كرامة وطنية وعدوان علي استقلال مصر وشرف شعبها, علي الرغم من دخولها محراب القضاء. وكان الأجدر أن ترفع السلطة التنفيذية يدها عن الموضوع برمته كلية بعد تحويله للقضاء إن كانت حقا حريصة علي استقلاله.
ويصعب تصور أن قاضيي التحقيق المكلفين لم يقعا تحت ضغوط الحرب الدعائية المستعرة التي شنتها السلطة التنفيذية والإعلام المرائي لها علي المنظمات المعنية أو أن السلطة التنفيذية لم تتدخل بعد بدء التحقيق. وآية ذلك أن إجراءات ضبط المنظمات تمت بمظاهرة ترويعية شارك فيها ضباط بزي القتال مسلحين بالمدافع الرشاشة.
والآية الأكبر أن قاضيي التحقيق تعاملا مع النتائج التي توصلا لها باعتبارها انتصارا وطنيا وكأنها حرب مقدسة وأعلناها في مؤتمر صحفي غير مسبوق, بالمخالفة الصريحة لنص القانون, الذي يحتم سرية التحقيقات. ولا ريب في أن الغرض كان أن تسجل السلطة التنفيذية نقاطا في حربها الصغيرة مع مانحي المعونة التي سرعان ما تبين أنهم لا يقدرون علي البراء من إدمانها.
فقد تمحورت الأزمة حول المعونة الأمريكية للسلطة في مصر, وغالبيتها العظمي عسكرية, بسبب تحويل بعض المواطنين الأمريكيين للمحاكمة, واحتمائهم بالسفارة الأمريكية في القاهرة إمتناعا عن المثول أمام القضاء المصري لحضور المحاكمة, ما يمنع القضاة أصوليا من سماع أي طلب لهم أو مجرد السماح لمحام بالترافع عنهم.
ثم تكشفت الفضيحة الكبري, عندما تنحت دائرة القضاة الشرفاء التي أحيلت لها القضية عن نظرها استشعارا للحرج من محاولة تدخل قاض كبير, من أعوان السلطة التنفيذية, في سير القضية. ثم أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية من واشنطن أن الأزمة التي ثارت أضحت في طريقها للحل, وقد كان. فقد كانت هيلاري كلينتون علي ما ظهر أعلم من شعب مصر وقضاتها الأجلاء بمصيرها, وتكشف بعدها أن وسطاء أمريكيين, بل وإسرائيلي مبعوثا من رئيس وزراء إسرائيل, تمكنوا من إقناع قادة رأس السلطة التنفيذية والأغلبية البرلمانية بحل الأزمة. وبينما كانت الأزمة تتفجر في مصر بعد تنحي المحكمة, كانت طائرة عسكرية أمريكية تتحرك إلي مطار القاهرة لنقل المتهمين الأجانب, تهريبا لهم من مصر, ومن المثول أمام القضاء المصري.
فقد أساء القاضي الكبير التفويض المخول له وشكل دائرة قضائية علي عجل, وبليل, من قضاة ذوي أصول مهنية بعيدة عن سلك القضاء, دأب الحكم التسلطي علي دسهم فيه لغش نقائه, ألغت قرار قضاة التحقيق بمنع المتهمين من السفر بتعليلات قانونية واهية, تبعهم فيها القاضي الكبير المتورط, وسافروا فعلا بعد أن سمح للطائرة بالهبوط ثم بالمغادرة بحملها, وهو أمر في نطاق صلاحيات السلطة التنفيذية لا غيرها.
في النهاية لضمان الاستقلال التام للقضاء لا بد من إصدار القانون الجديد لتنظيم السلطة القضائية ضامنا لاستقلاله التام, ولكن القانون مازال حبيس المجالس الثلاثة: العسكري, والقضاء الأعلي, والشعب.
ولحماية الاستقلال التام للقضاء, يجب أن يضمن القانون أن يتكون المجلس الأعلي للقضاء من القضاة وحدهم, ويقوم المجلس علي شئون تعيين القضاة واختيار رؤساء المحاكم وترقية القضاة وتأديبهم, كما يختار المجلس لجان التفتيش القضائي, ولا يسمح للقضاة بالغياب عن منصة القضاء بالانتداب أو تولي المناصب التنفيذية العليا; ويختار رئيس المجلس ويجري الترشيح لمنصب النائب العام انتخابا, مع اشتراط تصديق مجلس الشعب للتعيين في المنصبين, وتحديد مدة ولاية النائب العام ورئيس المجلس بأربع سنوات تجدد مرة واحدة فقط بالشروط ذاتها.