الربيع الأردني الذي فرد عباءته على مختلف سهول المملكة وجبالها بعد شتاء سخي بالامطار والثلوج قابله ربيع سياسي ادهش جميع المراقبين والراصدين لكل التحولات التي تجري في عالمنا العربي .ففي الوقت الذي تغري فيه المناظر الخلابة لصور الربيع في الاردن المتنزهين لحفلات الشواء والتبقل والرعي، فان ربيعه السياسي يثير حسد الاخرين واستغرابهم في تفاصيله وحيثياته ونتائجه .
وبالرغم من ارتفاع سقف المطالب وتجاوزبعضها» للخطوط الحمراء» في مطالبات لدى بعض الحراكات الا ان هذه التجاوزات لم تعدُ عن كونها تحرشات وفلتات لا ترقى الى درجة المطلب السياسي لان اصحابها يغردون خارج سرب الاجماع الوطني؛ الذي يعتبر مؤسسة العرش موضع اجماعِ الغالبية من المواطنين .
ثمة فرق واضح بين الاحتجاجات المؤطرة المسيسة التي تطرح برنامجا واضحا يمثل توافقات سياسية بين اركان المجتمع الاردني وبين « المواويل» التي تصدر عن دوافع ابتزازية بهدف الحصول على استرضاءات ومكافآت ثمنا لسكوتها .
ويبدو ذلك مفهوما في ضوء القراءة المتأنية للبيئة السياسية الحاضنة لعملية التغيير السياسي التي تتسم بالضعف وتضارب الاولويات والافتقاد للتنظيم والبعد عن الاطراف وتركزها في العاصمة .
الا ان تفاعل هذه المطالبات داخل الاحزاب والقوى الاجتماعية المنظمة والاعلام وقطاع الاعمال من شأنه انضاج هذه المطالبات حتى تصبح اكثر واقعية وعقلانية وانسجاما مع التوافقات الاجتماعية المختلفة .
ذلك ان اتجاهات الاصلاحات السياسية داخل اي مجتمع لايمكن اختطافها من اي فئة لجرها لمصلحتها وانما هي حصيلة تفاعلات وتوافقات تعبر عن شراكة اجتماعية وسياسية واسعة .
فالواقع الاجتماعي والتشكيلة الديموغرافية للمجتمع الاردني تنطوي على خصوصية بالغة لا يمكن معها اعتماد الصوت العالي كاساس لتحديد اتجاهات الاصلاح الذي تتفاوت تعريفاته من مكون اجتماعي لآخر .
الربيع الاردني و مارافقه من احتجاجات كان اكبر معين للدولة على المضي بقطار الاصلاحات ومحاربة الفساد وتعميق المساءلة الشعبية وتعزيز استقلالية القضاء وزادت من مناعة الوطن ضد اي صَدمات ومفاجآت.
كل ذلك حدث وسط ظروف اقتصادية صعبة واحوال سياسية مضطربة وعسر حال لم يسبق له مثيل تمثل في انقطاعات الغاز وارتفاع اسعار المحروقات وتراجع الاستثمار وارتفاع نسبة المديونية .
وعلى الرغم من ذلك ظل الاردنيون قابضين على جمر وطنهم ولم ينحرفوا عن التمسك بوحدتهم ولحمتهم وسلمهم الاجتماعي ولم يضحوا بمنجزاتهم .
الادارة السياسية للازمة لم تنقصها الحكمة ، ولم يخذلها الرجالات الصادقون على الرغم من بعض الاخطاء هنا وهناك الا ان الوطن تمكن من عبور ابرز منعطفات الأزمة وأصعبها على الإطلاق.
فكثير من التعديلات الدستورية تم انجازها ومحاربة الفاسدين ومحاسبتهم لم تستثن أيّ كبيرٍ مهما علا شأنه، ومجموعة القوانين المنظمة للحريات العامة تم اقرارها ، والمحكمة الدستورية اصبحت امرا واقعا، وها نحن اليوم بانتظار قانون الانتخاب الذي ستتم مناقشته الاسبوع المقبل بعد ان تم انجاز قانون الهيئة المستقلة للانتخابات
الربيع الاردني هو الأجمل والأحلى؛ ذلك ان نقطة دمٍ واحدةٍ لم تنلْ من براءة ازهاره ووروده .
النموذج الأردني في الإصلاح سيظل علامة فارقة في تاريخ الربيع العربي؛ الذي اتسم بالدموية والفوضى والقفز في المجهول .
الفضل في كل ذلك لايمكن رده إلّا الى الشعب الأردني نفسه الذي عبر عن وعيٍ وطني وصبرٍ؛ جعل من هذا الربيع الأردني ملحمة من البناء والتقدم لا أرضا محروقة لا تنبت إلا الخراب .