لجان التحقق النيابية في قضايا الفساد، تكتب تقاريرها حول ما استطاعت الوصول اليه من وثائق وشهادات ومعلومات، وتوصي او تطلب تحويل هذه القضايا والاشخاص المعنيين الى القضاء للتحقيق حول دور كل منهم، فيما وجدته من شبهة فساد. وتبقى الكلمة النهائية للقضاء، صاحب الخبرة والاختصاص بتنفيذ القوانين واصدار الاحكام. وفي هذه الظروف، لايستطيع احد ان يتدخل فيما سيقوم به القضاء وما سيقرره، في ضوء الوقائع والمعطيات التي تتوفر بين يديه، خاصة وان معظم هذه القضايا تحتل مكانة هامة لدى الراي العام، الذي يتحدث مطولا عن الفساد وضرورة مكافحته، ويترقب الاحكام في كل القضايا موضع التحقيق، وفي غيرها من القضايا التي تقع في دائرة الشكوك.
تبدو الحكومة من جهتها محايدة في شأن هام كهذا، لانه ياخذ الصفة القانونية، وحيادها هنا يوضع في خانة الحياد الايجابي، لانها تدفع باتجاه ارادة الكشف عن المستور دون ان تتدخل فيه، كما ترغب في طرح علني لما كان مسكوتا عنه، وخاصة في القضايا التي اصابت الاقتصاد الوطني والمال العام بضربات ظاهرة، وبحجج تطوير الاداء الاقتصادي والليبرالية والخصخصة التي استغلت لتحقيق اهداف ليست اهدافها.
ليس كل من اوصت اللجان النيابية بتحويلهم الى القضاء مذنبين. فمن يحدد المذنب والبرئ هو القضاء، وبينهما قد تكون هناك درجات متفاوتة في مدى البراءة وطبيعة الذنب. غير ان المؤكد هو ان كل مسائل الخصخصة او معظمها، يقع في خانة الشك والظنون، وهو ما دفع مجلس النواب للتحقيق فيه لاجلاء الحقيقة والتثبت مما فيه من الحلال والحرام، وتحديد الوقائع التي ادت الى الاضرار بالاقتصاد الوطني، بدلا من دفعه الى الامام، في بلد يشكو وجعا اقتصاديا مزمنا ومستمرا.
والامر المستغرب ان المخالفات القانونية كما وردت في لجان التحقيق بهذه القضايا، كانت تتم في اطار كتل كبيرة من المسؤولين، معظمهم كانوا يشكلون الفريق الاقتصادي والقانوني في الحكومات المتعاقبة، وهم الذين تحملوا المسؤولية الاقتصادية في العقود الماضية.
جذور المشكلة، هي ان القرار الاقتصادي في اطار هذه الفرق، لم يكن قرارا ديمقراطيا، وغاب عنه القانون، بل خضع لاعتبارات اخرى لايمكن توصيفها، وتحديد تفاصيلها، قبل ان يقول القضاء كلمته، والا يصبح هذا التوصيف حكما اعتباطيا، قيل قبل اوانه. لكن الاهم هي، النتائج التي خلفتها هذه الاعتبارات على الاقتصاد الوطني ومالية الدولة، وهي نتائج باتت معروفة، ولا تحتاج الى توصيف.
نتائج لجان التحقيق النيابية، ادت الى بعثرة الاوراق على الساحة الوطنية، والى ضرب هيبة وتركيبة الطبقة السياسية والاقتصادية التي تسيدت المشهد على مدى عقود ، سواء وافق القضاء على ما يرد اليه من هذه اللجان ام لا. وهو ما يطرح تساؤلات كبيرة حول المفاهيم والقيم التي كانت تحرك هذه الطبقة، خلال تحملها للمسؤولية.
هناك قضايا عديدة لاتزال موضع تحقيق وتفحص، وليس من المتوقع ان يخرج الكثير منها عن سياق القضايا التي تم تحويلها الى القضاء حتى الان. وسيكون لكل قضية اشخاصها ومسؤولوها ومهما كانت درجة احقية او صواب ذلك، فان الراي العام مصاب بالصدمة والمفاجأة لما كان يحدث. فهل يتحمل الوجدان الشعبي وضع كل هذه القضايا والمجاميع وغيرها ما زال على الطريق ، اما في دائرة الشكوك او الاتهام او وراء القضبان ؟ وكيف يمكن اعادة بناء الثقة بين الجمهور ومن سيتحمل المسؤولية في اي من المواقع الرسمية ؟. ثم كيف يستطيع اي مسؤول ان يتخذ قراره بعد ذلك في اي شأن كان، وهو لا يشعر بالثقة ان كان هذا القرار صائبا ام لا ؟.
نريد لكتائب الفساد ان تمر مسرعة من حياتنا العامة، لكي يطوي الجميع هذه الصفحة، ويبدأوا صفحة جديدة من العمل العام، بعناوين وقيما مختلفة، تتأسس على الطهارة والقانون ومصلحة الوطن.