يمكن القول إن استمرار فصول الأزمة السورية ودورانها في فلك المواجهات والاستهدافات التي يقوم بها منشقون عن الجيش السوري الذين هم اليوم يشكلون نواة ما يسمى “الجيش السوري الحر” وجماعات مسلحة، ودخول تنظيم القاعدة طرفًا ثالثًا يقاتل جنبًا إلى جنب ضد الجيش السوري والقوى الأمنية الرسمية، وتخندق دول “ابتليت” بالمال الوفير ـ لأنه في هذا المقام ابتلاء وقد يكون نقمة وليس نعمة ـ في صف تلك الجماعات المسلحة والمنشقين والتحول باتجاه تسليحها دون الاقتراب من الحلول السياسية، بالإضافة إلى التصريحات المتناقضة والمرتبكة لمن ينصبون أنفسهم قيادات للمعارضة السورية، كل ذلك حين يقف عليه المرء بتدقيق وتمعن في كل مفصل من مفاصله، مبتعدًا عن عاطفته، يتأكد له الأمر بصورة أكثر أن ما يجري في سوريا ليس بريئًا مئة في المئة.
لا أخفي أنني أتعرض لضغوط كبيرة لتغيير قناعاتي عن حقيقة المشهد السوري، سواء عبر البريد الإلكتروني أو الهاتف أو المواجهة المباشرة، لدرجة اتهامي تارة بأني من الطائفة العلوية، وأخرى بأني “متشيع”، إلا أنني وجدتني واحدًا من القطيع الذي تسوقه بعض الفضائيات العربية والناطقة بها وفق المسار الذي رسمه قادة البيت الأبيض والأليزيه وعشرة داوننج ستريت، وبحراسة العربان الذين قالوا إنهم “أصدقاء سوريا”، وبالتالي لم أستطع أن أخلع ثوب التأني والتفكير، وألبس مكانه ثوب العاطفة وركوب الموجة، وما يدعوني إلى ذلك أكثر مما يدعوني إلى ركوب الموجة هو ملاحظات كثيرة؛ منها ما يتعلق بطريقة التعاطي العربي والدولي، ومنها يرجع إلى “قيادات المعارضة” نفسها، من ذلك:
أولًا: هناك إصرار واضح على إسقاط النظام وتغييره بالكامل، وليس الهدف مساعدة الشعب السوري لتحقيق مطالب ديمقراطية ـ كما يروَّج له ـ ويتضح ذلك أولًا من خطة جامعة الدول العربية التي جاء أول بنودها مطالبًا بتنحي الرئيس وتسليم صلاحياته لنائبه، وتشكيل حكومة تتولى الإعداد لانتخابات تشريعية وإعداد دستور جديد، وقبل ذلك فرض عقوبات اقتصادية صارمة وقاسية، ونزع عضوية سوريا من الجامعة ومنع سفر المسؤولين السوريين؛ أي سجنهم، وثانيًا إقالة الفريق محمد الدابي رئيس بعثة المراقبين العرب في سوريا وإنهاء مهمة البعثة، والرفض العربي لتقديم نسخة من تقارير البعثة عن الوضع في سوريا إلى مجلس الأمن أو إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والدابي أعلن موقفه صراحة في مؤتمره الصحفي أنه ليس هو من كتب التقارير، وإنما من كتبها أفراد البعثة الذين أرسلتهم حكوماتهم التي تعمل جاهدة على إسقاط النظام وتطالب بالتدخل الأجنبي واستخدام القوة العسكرية وقلَّدت كبراءها بطرد السفراء، ولو كان الأمر غير ذلك لما تم التخلي عن المعالجات السياسية والسليمة، وأولاها طبعًا الحوار الوطني وتوفير الرعاية العربية والدولية لضمان نجاحه، ولما فرضت عقوبات يدفع ثمنها باهظًا الآن الشعب السوري الذي تحاول المنظمات الدولية تقديم المساعدة الإنسانية له مثل الصليب الأحمر والهلال الأحمر السوري، ولما أوقفت عضوية سوريا في الجامعة، ولما منعت الاستعانة بتقرير بعثة المراقبين في المحافل الدولية حتى لا يؤثر على بناء التحالف الدولي المطلوب. ولماذا ترفض المعارضة الحوار وتتمسك بما جاء في خطة الجامعة؟
ثانيًا: مصدر المادة الخبرية للسواد الأعظم من الفضائيات العربية وغير العربية أصبح يعتمد على المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي التي يطغى عليها عنصر الفبركة والتدليس، مما يفقد مصداقية الأخبار وصحتها، ويفقد القناة مصداقيتها ونزاهتها ونقلها الموضوعي، فبينما تنقل لنا هذه القنوات خبر سقوط قتلى خلال مظاهرة في منطقة ما تظهر لنا الصورة متظاهرين يسيرون في الأزقة أو في ساحة ما دون أن يعترضهم أحد ودون أن يظهر في الصورة أن هناك جيشا يطلق النار، فضلًا عن التخلي عن الرأي والرأي الآخر بفتح المساحات الواسعة فقط لكل من يحمل نَفَسًا معارضًا للنظام السوري لا سيما أولئك الذين يطلقون على أنفسهم مسمى “قيادات”، وعدم استضافة من يمثلون النظام أو على الأقل من هم على الحياد، أضف إلى ذلك أن ما يسمى المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي مقره في لندن حيث داوننج ستريت، أصبح هو المصدر والمرجع الأوحد تلجأ إليه بعض الفضائيات لرصد تحركات القوات السورية وما تقوم به المعارضة من استهدافات على الأرض ولعدد القتلى الذين يسقطون. فكيف بمرصد في أقاصي الدنيا وبعيد عن حقيقة ما يجري يكون هو المرجع؟
ثالثًا: التناقض في تصريحات وحالات الارتباك لـ”قيادات المعارضة السورية” باتت مادة يومية على الفضائيات التي تفتح لهم المجال الفضائي واستوديوهاتها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، أذكر عددًا من الأمثلة: مذيع القناة يسأل متحدثًا باسم المعارضة (لا داعي لذكر اسمه): هناك جهود تقودها دول الخليج لحل الأزمة وهناك اجتماع مرتقب لوزراء خارجية التعاون، ما رأيك في تلك الجهود؟ المتحدث: جهود دول الخليج مقدرة ما عدا سلطنة عمان هي الوحيدة التي تتبنى وجهة نظر النظام، يرد عليه المذيع: لكن يوسف بن علوي أعلن أن وزراء خارجية التعاون سوف يعقدون اجتماعًا يوم السبت المقبل بهدف التشاور وأن لا حل أمام إخفاق مجلس الأمن سوى الحوار؟ يقاطعه المتحدث: هذه لغة إيران، سلطنة عمان أصبحت تابعة لإيران وتتكلم بكلامها. وهنا أقول (أنا كاتب المقال) إن الواقع والمعلن يقول عكس ما ذهب إليه المتحدث المعارض. مثال آخر في يوم الاستفتاء على مشروع الدستور السوري: المذيع يسأل أحد قيادات المعارضة: مراسلنا رصد إقبالًا كثيفًا على مراكز الاقتراع في دمشق وحلب وغيرها ما عدا حمص للظروف الأمنية ما رأيك؟ الضيف المعارض: ما نقوله ويقوله مراسلكم غير صحيح. يرد عليه المذيع: لكننا ننقل أخبارنا بمهنية وموضوعية ومراسلنا لا يروج للنظام. الضيف: بس هذا غير صحيح، كل الشعب السوري قد قاطع الاستفتاء، ما عدا المرتزقة المنتفعين من النظام. (وهنا واضح مدى الحقد الدفين والغيظ الكبير الذي يعتصر الضيف المعارض، بحيث إنه لا يريد الاعتراف بأن للنظام قاعدته الشعبية، وقد حاول المذيع أن يفهمه بأن هناك شيئًا بدأ يتغير مثل تغيير مواد في الدستور لا سيما المادة الثامنة يعد خطوة نحو الإصلاح). مثال آخر لمتحدث باسم ما يسمى “الجيش السوري الحر” من على الحدود التركية ـ السورية: المذيع يسأله: يقول النظام إن الأسلحة تأتيكم من الحدود التركية واللبنانية؟ المتحدث: ليس صحيحًا، النظام يكذب. المذيع: من أين تأتون بالأسلحة؟ المتحدث: من أزلام النظام. (فكيف يعقل لأزلام تابعين وموالين للنظام أن يعطوا سلاحًا لمن يستهدفهم جميعًا؟) ثم يسأله المذيع: طيب ألا تتلقون دعمًا ماديًّا من تركيا أو مواد إغاثية؟ المتحدث: نعم، لكننا نوزعها على المدنيين. المذيع: وأنتم ألا تستفيدون منها؟ المتحدث: لا لا، نوزعها على المدنيين. المذيع: هل يتلقى أهالي من يسقطون قتلى من الجيش الحر أو المدنيين مساعدات مادية من تركيا؟ المتحدث: نعم يحصلون. يعاود المذيع السؤال: لكنكم أنتم في الجيش السوري الحر لا تأخذون شيئًا من المساعدات؟ يرد المتحدث في ختام اللقاء: نعم نأخذ شيئًا منها. (يبدو أنها تنزل عليهم من السماء). وفي تناقض آخر، يسأل المذيع أحد قيادات المعارضة: يبدو أن السلطات السورية سمحت بدخول الصليب الأحمر الدولي والهلال الأحمر السوري حمص لتقديم المساعدات؟ الضيف المعارض: ليس صحيحًا، النظام يكذب، هناك إبادة جماعية، قتلى بالمئات ومجازر ترتكب بحق شعبنا. يتخلل اللقاء اتصال من عبدالرحمن العطار رئيس الهلال الأحمر السوري، فيسأله المذيع: هل سمح لكم بدخول حي بابا عمرو؟ العطار: نعم لقد سمح لنا ودخلنا الحي. المذيع: منذ متى؟ العطار: منذ نحو ساعة من الآن. ليتجه المذيع بعد ذلك إلى الضيف المعارض: ما رأيك يؤكد رئيس الهلال الأحمر السوري أنهم قد دخلوا حي بابا عمرو؟ يجيب الضيف: هذا العطار محسوب على النظام ومن أتباعه، وإلى ذلك من الأوصاف.
طبعًا هناك الكثير والكثير من التناقضات والمغالطات، وما سردته على سبيل المثال لا حصر، لكن يبقى على المتابع في ظل غياب الموضوعية والأمانة في النقل، وفي ظل عدم وجود وسائل إعلام تنقل من على الأرض من داخل سوريا بموضوعية ودقة وأمانة، أن يكون حذرًا ومفنِّدًا ومتحقِّقًا قبل أن يتبنى ما يتناهى إلى سمعه أو يقع عليه بصره، فهنا الأولى تغليب العقل لا العاطفة في مثل هذه المواقف، وهنا أيضًا لا أستبعد بعد ما جاء أعلاه أن تنسق هذه “القيادات المتناقضة” مع القنوات الصديقة والممالئة قبل النقل على الهواء مباشرة، بحيث يتم الاتفاق على الأسئلة والإجابة المحددة، وتجنب الأسئلة المحرجة.