في بداية كل وحدة دراسية في كثير من الكتب المدرسية المقررة، يجري التوكيد على ما يُتوقع من الطفل/ الطفلة في المدرسة تحصيله في نهايتها. ويأتي توقع فهمهما او استيعابهما للمفردات والمفاهيم والمصطلحات… في طليعة ما يتوقع منهما استيعابه او فهمه. وهو لعمري – هدف تربوي راق بل أرقى هدف للتعلم والتعليم، فالتفكير والإبداع والابتكار… مستحيل بدون استيعاب المفردات، والمفاهيم والمصطلحات… أي إدراكها بصورة صحيحة أو على نحو واضح ما. ولكن تحقيق هذا الهدف عسير جداً إلى الآن لايرادها في الكتب المقررة وكأنها بلا تاريخ أو مفهومة أصلاً أو واضحة تماماً، للأطفال والمعلمين والمعلمات – ما خلا عددا محدودا منها يُجري التركيز عليه – فلا يتوقف عندها ولا يطول التوقف في الكتاب المقرر الذي يضخ المفردات والمفاهيم والمصطلحات…ضخاً كلاشينكوفيا، مما يجعل الأطفال يبصمونها للامتحان بصماً دون أن يفهموها أو يستوعبوها، فتمتليء أدمغتهم الفذة أو تحشى بها بغير معنى، ويعجزون عن التفكير بها، أو التعبير عنها بصورة سليمة تتجلى فيما يقولون او يكتبون. ويلازمهم هذا العجز في الجامعة وبعد التخرج فيها لأنها تبني عليها مفترضة فهمهم لها، وإلا فما معنى الأيدولوجيا القومية أو الثقافة أو الحضارة أو المدنية… (مثلاً، مثلاً) عند، الطلبة الواردة في كتاب التربية الوطنية الجامعي؟ ولماذا يلاقون صعوبة كبيرة في فهمه مع أنه مكتوب بلغة عربية سليمة؟
لا أقول ذلك اعتباطاً بل عن تجربة شبه يومية مع الأحفاد وأصدقائهم ــ ثم توسعت فيها بعد ذلك ــ في مختلف الصفوف وفي مختلف الكتب وحتى مع خريجي الجامعة المصادفين. لكن ما الفائدة وهل هناك حل إذا كان الأطفال والتلاميذ يتظاهرون بالفهم والاستيعاب والمؤلفون والمعلمون والمعلمات يتظاهرون بالتصديق؟ ان في ذلك نوعاً من التواطؤ او الفساد التربوي عندما يظن مؤلفو الكتب المدرسية والجامعية ــ الجيدة شكلاً وإخراجاً والقوية مادة ــ أو يعتقدون أن نصوصهم (مفرداتهم ومفاهيمهم ومصطلحاتهم… ما دامت مفهومة منهم او واضحة لهم فهي كذلك مفهومة وواضحة للأطفال والمعلمين والمعلمات، في المدرسة والطلبة في الجامعة. ومن ذلك (على سبيل المثال) مصطلحات ومفاهيم: فجر الإسلام، واليابسة، والصحراء، والبادية، والحاضرة، والغزوة، والمعركة، والفتوحات… في كتاب التربية الاجتماعية والوطنية للصف الخامس الأساسي؛ والأسرة نواة المجتمع، والأسرة الممتدة، وتنظيم الأسرة أمورها الاقتصادية، وظروف الأسرة، والاتصال الحضاري، والنمط السائد، والتطور الاقتصادي، والأسباب والمسببات، والواجب الأخلاقي، والوجدب القانوني… وهل الزراعة اختراع أم اكتشاف كما يدعى المؤلفون؟ في كتاب التربية الوطنية والمدنية للصف السابع الأساسي. عندما سؤلت طالبة في الفرع المعلوماتي حاصلة على معدل 92 في امتحان الثانوية العامة عن معنى النزاهة والكفاءة الواردتين في كتاب الثقافة العامة قالت: «النزاهة من التنزه، والكفاءة من الكفوف.»
لا تقل إذن إنها واضحة او مفهومة، فهي كذلك بالنسبة إليك بهذا السن والخبرة، او الثقافة، ولكنها اشبه بالطلاسم أو الألغاز والأحاجي عند الطفل. وإذا لم تصدق جرب اسأل طفلك او حفيدك أو تلميذك فيها او حتى طلاب الجامعة وعن جنب وطرف.
تلكم مجرد أمثلة قليلة عابرة من وحدة واحدة في الكتابين، لأن إيراد ما في بقية وحدات الكتابين او جميع الكتب المقررة من مفردات ومفاهيم ومصطلحات…لا يتوقف عندها الكتّاب أو المعلم / المعلمة، يحتاج الى كتاب بل الى عدة كتب. إنني أدعي وبكل قوة أن السبب الرئيس لضعف الأطفال المدرسي (وبالتالي الجامعي) وعزوفهم عن القراءة لأنهم لا يفهمون ما يقرأون فلا يستمتعون بها ولا يتعلمون منها، يكمن هنا: في ضبابية أو سطحية التعلم والتعليم أو عدم فهم الطفل والطفلة والطالب والطالبة المفردات والمفاهيم والمصطلحات… أولاً بأول.
بين يدي كتب مدرسية للصف السادس الابتدائي في أمريكا مخصص كل منها لمصطلح واحد فقط كالسلطة، والمسؤولية، والعدل… ودليل موسع للمعلم/المعلمة مع أمثلة وتمارين شتى لإيضاح المفردات والمفاهيم والمصطلحات وقائمة بمعاني وشروح لكثير من الكلمات والمفاهيم والمصطلحات… المتعلقة بها في هذا المقام او ذاك الواردة في كل منها، مع أنها تبدو للراشدين المتعلمين والمثقفين شديدة الوضوح.
والحقيقة أن الوضع في المقررات الأدبية أو الإنسانية أصعب بكثير جداً منه في المقررات المادية او العلمية، فالمقررات الأدبية أو الإنساينة تشتمل على مفاهيم ومصطلحات … ذات معرفة ضمنية او جوانية (Tacit learning/ Knowledge) ليس سهلاً فهمها او استيعابها بمجرد إيرادها أو سردها في كتاب، أو تفسيرها بمرادف قد يكون اصعب على الفهم منها. إن بها حاجة الى التوقف طويلاً عندها لتفهم وتستوعب بالأسئلة والأمثلة والتفاعل والخيال (المؤدية الى انتاج مادة الدوبامين Dopamine التي تحول التعليم (Education) إلى تعريح (Edutainment) (مركبة من تعليم+ تفريح).
أما المفاهيم والمصطلحات… العلمية… فعبارة عن معلومات خارجية (برانية)(Explicit Information /learning)، يمكن فهمها، بالملاحظة الهادفة والتجربة والقياس، فإن نقول: الثلج أبيض، أو الشمس ساطعة، معلومة خارجية شفافة أو طافية على السطح أي واضحة جداً، وأن نقول: الحرية، والسلطة، والمسؤولية، والعدلُ والكرامة… معرفة ضمنية او جوانية صعبة أو محجبة بحاجة الى جهد عظيم لفهمها والتحليق فيها.ولا يكفي المرور عليها سريعاً أو الوقوف عند سطح الطبقة الأولى من معنى كل منها أو الاكتفاء بالمعنى القاموسي الأولي لها دون الغوص في دلالاتها لإخراج المتعلم «من حالة الحياد والسكون نحوها وادخاله في حالة الانفعال والتفاعل» أو الاكتفاء بالمعنى القاموسي لها والبحث في أعمق أعاميقها. ولذلك تعتبر الدراسات الأدبية أو الإنسانية أصعب بكثير من الدراسات العلمية، ولكنهم بهذه الكتب والتعليم والتعلم والامتحانات جعلوها بالعكس، ونظروا الى الطلبة الأدبيين نظرة دونية دون وجه حق، لكن ما الفائدة من امتلاك جبال من المعلومات وقلة من المعارف؟
وختاماً أدعو وزارة التربية والتعليم الجليلة إلى إعادة النظر في التقليد التعليمي السائد الذي يخرج تلاميذ وتلميذات أشبه بالصم البكم، فالعلة ليست في مدرسة أقل حظاً أو ذات ظروف خاصة كما يُدّعى، بل في هذه المسألة بالدرجة الأولى، بالإضافة الى ضعف الإدارة المدرسية أو فشلها، على الرغم من كثرة مديريات التعليم المنتشرة في المملكة، الغائبة عن الدوام والالتزام في كثير من المدارس وبخاصة في الأطراف. (جميع الحقوق محفوظة للكاتب).