محمد البدارين : /
بعبارات مقلوبة ، يعترض بعضهم على محاكمات الفساد القليلة الجارية حتى الان، بقولهم هذه تصفية حسابات او حالات انتقائية ، وكأننا ننكر ان المطلوب هو تصفية حسابات ، نعم بكل تأكيد المطلوب هو تصفية الحسابات التي لا بد منها لكي نتحرر جميعا من عبء مرحلة تطاولت علينا عشرين سنة او اكثر ، بفسادها وجهلها وتناقضاتها وعيوبها وعبثها وتخريبها وضياعها وسبهللتها حتى وصلنا الى هذه النقطة.
وكنتيجة طبيعية للامور ، كان لا بد ان تؤدي بنا تلك المقدمات الى هذه النتائج ، وكان من الطبيعي ان يرتفع صوت الناس للمطالبة بتصفية الحساب ، لكي يدفع كل مدان الدين الذي عليه ويسترد كل صاحب دين دينه ونطوي الدفتر ، ونبدأ من جديد مرحلة تحكمها قياسات جديدة تمنع تكرار ما حدث ، فمن دون عملية التصفية هذه لا مجال للانتقال من الوضع المنتهي الى الوضع الجديد ، فاحد متطلبات الانتقال الرئيسة هو تصفية الحسابات بالكامل وبكل جدية وحزم ، واذا كان هناك من لا يزال يراهن على امكانية اختصار هذه العملية المطلوبة او تجزئتها او التحايل على استحقاقاتها او تفريغها من محتواها ، فعليه ان يعلم قبل فوات الاوان ان الحقيقة التي تكبر كل يوم لن تمهلنا طويلا ، فكل شيء يؤكد بان عملية التصفية هذه باتت ممرا اجباريا لا بد من عبوره للانتقال الى المرحلة الجديدة ، وكل تأجيل لعملية العبور سيزيد من الحاجة اليها ويجعلها اكثر الحاحا وليس العكس .
نعم ، المطلوب بالتحديد هو تصفية الحسابات ، فحقوق الناس ومصائر الاوطان والشعوب وثرواتها ليست لعبة بيد هذا او ذاك من همل المرحلة وسرسريتها وموتوريها وجهلتها ، ولا هو شيئ قابل للمزاح والتجريب والفهلوة ، فكل من عبث او خرب او تطاول او نهب او تلاعب او نصب ، عليه ان يتحمل مسؤولية مافعل ، كي يسترد اصحاب الحقوق حقوقهم ويدفع المتورطون الثمن وفق معايير صارمة للحق والعدالة والانصاف ، فحقوق الناس والاوطان لا تسقط بالتقادم ولن تتوقف المطالبة بها من غير تصفية ، طال الزمن ام قصر ، وكبر الثمن ام صغر ، ولايعيب الناس قول قائل هذه تصفية حسابات ، وليس ذنبهم بان الجهلة يجهلون بان الشعوب تمهل ولا تهمل !
اما الذين يتباكون الان على هيبة الدولة ويعتبرون مطالب الشعب استقواء على السلطة ، فعليهم ان يتذكروا ان الذين قللوا من هيبة الدولة هم الذين نهبوها واستقووا على شعبها وساموه صنوف التهميش والاقصاء والتفقير والاذلال على مدى ربع قرن مضى ، فاستكبروا وخانوا الامانة واثروا وفسدوا ونهبوا وعبثوا في امن الوطن ومصيره دون ان يراعوا في الناس الا ولا ذمة ، وكان على هؤلاء المتباكين ان يتباكوا في الوقت المناسب عندما كانت دولتهم تنهب وهم صامتون او يشجعون او يبررون او يشاركون ، اما الان فلا وقت للدموع الحقيقية او الاصطناعية ولا جدوى من البكاء او التباكي .
،
وهيبة الدولة للخائفين عليها لن تستعاد في عيون شعبها الا حين تزج الدولة بكل ناهبيها ومخربيها وناخري عظامها في السجون من غير تردد، وبدون مماطلة ، سواء في ذلك من نهب باليمين او من نهب بالشمال وسواء من خرب بدعاوى التحديث او بدعاوى تشجيع الاستثمار او تحت عنوان ان الكل كان ينهب ، ولا يهم الناس ان يكون هذا الفاسد ابن قبيلة كبيرة او ابن اسرة قليلة العدد ، ففي الفساد يتساوى الفاسدون مهما كانت دوافعهم او اصولهم الاجتماعية ، ولكي تغلق الحكومة الباب في وجه الريح وتستريح عليها ان تأخذ الفاسدين بالجملة وليس بالمفرق حتى لا تبقى لاحد حجة اخرى تسمى الانتقائية التي تحت عنوانها تقام المهرجانت التضامنية مع الفاسدين والحملات المناصرة لهم ، فالمتضامنون مع الفاسدين لا ينفون على الاقل علنا ، فساد المتضامنين معهم ولكنهم يريدون مساواة فاسديهم بغيرهم من الفاسدين ، ،وهذا ضغط اخر على الحكومة يمكنها ان تستفيد من جانبه الايجابي وتتحدى الجميع ، وعلى الجميع ان يتذكر ان احدا لم ،يتول منصبه بصفته زعيما شعبيا ، ولم يستشر اي فاسد اهله او قبيلته حين كان يخون اهله ووطنه وشعبه وامته بدافع النهم او بدافع الحقد او بدافع مركبات النقص او بدافع التشبث بالسلطة او بدافع التآمر خدمة لمصالح معادية .
والدولة الحريصة على هيبتها فعلا والمتحسسة من استقواء الاخرين عليها ،، عليها ان تنحاز الى شعبها وتحتمي به وتخوض بقوة ارادته معركتها التي تصبح كل يوم الزامية اكثر ومستعجلة اكثر ، و حين يتيقن الشعب ان دولته جادة في حربها فانه قادر ان يحمي هيبتها ومستعد ان يتجند في حملاتها لكي تنجز المهمة باسرع وقت واقصر مدى وتتخلص من المرض قبل ان يتخلص المرض منها ، فلم تعد هناك عدة خيارات بل هو خيار واحد فقط اذا كانت الدولة تريد ان تنتهي من هذا الوضع الانتقالي المتوتر وتطوي دفاترها القديمة المملوءة بالسواد وتفتح صفحة جديدة بيضاء ناصعة مع نفسها ومع شعبها ومع العالم ، فالوقت الذي يمر يزيد من تعقيد الوضع ولايخفف من التوتر والاحتقان ، والعالم يريد ان تتحول الاقوال الى افعال ،وهو يراقب ، والاستمرار بملامسة المشاكل عن بعد لن يغني ابدا عن خوض المواجهة الحقيقية التي كتبت علينا وهي كره لنا.
وعلينا ان لا ننسى انه ليس بين المتهمين بالفساد زعيم اغلبية حزبية ، ولا بطل وطني مقدام من ابطال حزيران او تشرين او الكرامة ، فكل الاسماء المتداولة هم عبارة عن شخصيات مختلقة او مصطنعة اصطناعا ، ولم يكن ممكنا ان يكون لها اي وجود في الحياة العامة لولا تنصيبها في مراكز الحكم بطرق مشكوك بصحتها ومشروعيتها ، وكثير من هذه الاسماء كانت طوال فترة وجودها في الحكم محل انتقادات الناس واستنكارهم وسخريتهم ، ولولا غياب الاصول والمعايير السليمة ما كان يمكن ان تصل مثل هذه الانواع من البشر الى المراكز العامة والتحكم بمصائر البلاد وشعبها ، لكنها السلطة المطلقة التي تكرست في هذا البلد منذ تغييب البرلمان دهرا كاملا ، ثم الالتفاف على ارادة الناس وبرلمانهم بالوسائل المعروفة ، وحشو كل السلطة بيد زمرة مارقة يعرف كل الشعب عيوبهم ونواقصهم وخلفياتهم ومستوياتهم الحقيقية، فتصرفوا بدوافع مركبات نقصهم الفاضح وحقدهم المزمن على البلد واهله وراحوا ينفذون برامجهم التخريبية بكل الوسائل ، حتى لا نبالغ اذا ما قلنا بانه لو تم استقدام بعض احفاد كلوب باشا بدلا منهم لكانوا بنا ارحم ، ولنتذكر ان كلوب باشا لم تكن احدى هواياته الاستيلاء على ارقام السيارات المكرورة للتعويض عن نواقصه ، وحين طرد من عمان لم يحمل في حقائبه سوى ملابسه ، وظل يعيش بعد عزله على المعاش واجور بعض المحاضرات التي كان يلقيها في الجامعات .
لن يغفر شعبنا للمتلاعبين بمصيره وناهبي ثرواته من زمرة الافاقين والادعياء والجهلة الذين فوق استيلائهم على السلطة بطرق غير شرعية راحوا ينهبونه و يعبثون بثقافته ومصيره ووحدته الوطنية زاعمين انهم يمثلون بعض مكوناته وماهم في حقيقتهم الا زمرة من الموتورين اللاهثين نحو سراب يغطون به عيوبهم ونواقصهم المزمنة ، وفي ساعة الجد هذه فان على هذه الحكومة القائمة الان ان تترفع عن القرارات الهامشية والاعتبارات الثانوية والجهوية الضيقة ، وتصطدم مباشرة مع جملة الفاسدين المعلنة اسماؤهم كل جمعة على اللافتات الشعبية ، فسياسة الخطوة خطوة لا محل لها، في هذا النوع من المواجهة ، فالوقت يضيق امام الجميع ، وكل تأجيل لا يعني الا مواجهة اوسع واصعب واعقد ، الا اذا كانت الحكومة لا تتابع ما يجري في البلاد وفي المحيط ولا تعرف ما هو موقف القوى المؤثرة في العالم من هذه القضية ، فالجدول الزمني المحدد مملوء بالواجبات وعلى من يريد ان ينهض بالواجب ان يحسم امره وينجز وعده ويستبد مرة واحدة انما العاجز من لا يستبد!!
،
،