بعد أكثر من عام على الحراك الأردني المطالب بالإصلاح، نكتشف أن كل ما حدث لم يغير في طرق تفكير البعض قيد أنملة، فيما استطاع بعض آخر الإمساك بالمعادلة الجديدة، وتمكن من استيعاب التغيير الجذري الذي أصاب المجتمع.ومن خلال تشخيص كيفية تعامل السلطات مع الحراك وتبعاته، نستشف أن بعضها فهم تماماً ما يحدث، وأدرك حالة الوعي الجديدة التي تسيطر على المجتمع، وبدأ التعامل مع الحالة العامة على هذا الأساس.
الحكومات التي مرت على الأردنيين منذ انطلاق الحراك تفاوتت في مدى تفهمها للوضع الجديد؛ فحكومة سمير الرفاعي الثانية رحلت على وقع الحراك، ولم تلتقط ماهية المطلوب.
أما حكومة معروف البخيت التي جاءت كحكومة “إنقاذ”، فرحلت هي الأخرى محملة بثمار الإخفاق، وعدم التقاط وفهم المزاج الأردني الذي انقلب رأساً على عقب، لتحل بعدها حكومة القاضي عون الخصاونة.
الخصاونة جاء وسط آمال بحكومة تخرج البلد من أزمة البلديات التي كانت تنذر بانفجار شعبي. وبدا القاضي متفهما لما بات الأردنيون يكرهون من فساد وغياب للنزاهة.
وتمتع الرئيس بمواصفات ما يزال كثيرون يستحضرونها حينما يقيّمون الرجل وحكومته.إلا أن سمات الرجل الشخصية، التي منحته رصيداً ساعده على البدء، قد لا تكون كافية لعبور المرحلة الحساسة.
فقناعات الرجل بالنزاهة كشرط أساسي لإجراء الانتخابات، لن تساعده كثيراً على مواجهة حالة الاحتقان المجتمعية الناجمة عن رفض عام لقواعد اللعبة السياسية الحالية، والحاجة الماسة إلى تكريس أدوات جديدة تعيد جزءاً من الثقة المفقودة بين السلطة التنفيذية والناس.
الخصاونة تزحزح في الآونة الأخيرة عن موقفه الحاد من تحديد موعد للانتخابات؛ إذ “توقع وتمنى” أن يتم إجراؤها خلال العام الحالي. لكن ذلك لن يعفي الحكومة من القيام بالمهام الموكلة إليها، وهي تمهيد الطريق بمنظومة تشريعات إصلاحية لإجراء انتخابات برلمانية.
هذا من جانب السلطة التنفيذية، أما السلطة التشريعية (بشقيها النواب والأعيان) فيبدو أنها لم تستوعب التغير الكبير في المجتمع؛ فمجلس الأعيان (أو مجلس الملك) لم يعمل، مثلا، على إطلاق مبادرة وطنية تساعد الدولة على شرح وجهة نظرها مما يحدث، بهدف تقريب وجهات النظر والمسافة التي تتسع يوما بعد يوم بين الدولة والمجتمع. فيما كان مجلس النواب الأكثر عنادا في إدراك ما يحدث، وتأخر قصداً أو بدون قصد عن ذلك.
والمماطلة في أدائه لم تعد تهمة، بل صارت واقعاً، والدليل على ذلك الفترة الزمنية التي استغرقها إقرار خمس مواد من قانون الهيئة المستقلة للانتخابات؛ إذ يلمس المراقب التباطؤ المقصود من قبل بعض النواب في إقرار تشريعات الإصلاح، رغم دورها القوي في تحسين المزاج العام.
السلطات الرقابية المسؤولة عن ملف الفساد عملت، هي الأخرى، بعشوائية وانتقائية، ما جعل المنجزات في هذا المجال تضيع وسط الانعكاسات السلبية لكيفية العمل على فتح الملفات.والمستغرب أن الأجهزة الأمنية كانت الأكثر حكمة ما بين السلطات، إذ كانت الأكثر إصراراً على التعامل مع الحراك وفق منظور الأمن الناعم، وفي هذا تغير مهم.،لكن ذلك لا يعني عدم وجود بعض نقاط الضعف في فهم الواقع الجديد؛ حيث لم تتوان عن تحويل كثير من القضايا التي تختص بمدنيين إلى المحاكم العسكرية، رغم مخالفة ذلك للدستور.
وتعاملت هذه الأجهزة العرفية بطرق تقليدية مع بعض قضايا التعبير التي تطورت بشكل كبير بعد الربيع الأردني، وفي هذا كلف كبيرة، ونتائج عكسية.
بالمحصلة؛ التناقض والتفاوت الكبيران في تعامل السلطات مع إفرازات الوعي الجديد خلقا حالة غريبة، وتخبطاً كبيراً في معالجة كثير من الملفات التي طرأت، وعكسا حالة التشرذم وعدم التنسيق بينها، ولهذا تأثير كبير على المزاج الشعبي المتشنج بطبيعة الحال.
الغد